أردوغان والصهيونية

العنوان: أردوغان والصهيونية - الكاتب: فارس الخطاب

undefined

يعلم جيدا رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه عندما وصف الصهيونية أمام منتدى تحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة في فيينا نهاية شهر فبراير/شباط الماضي بأنها "جريمة ضد الإنسانية" أنه فتح على نفسه بابا لا يوصد، وأنه سيثير انتقادات صهيونية وأميركية وأوروبية لا حصر لها.

بعد نحو 15 عاما عادت الأمم المتحدة لتلغي قرارها السابق باعتبار "الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري" مع تقديمها اعتذارا ضمنيا لإسرائيل

فقد ندد مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بها بشدة واعتبر نتنياهو نفسه أن إعلان رئيس الوزراء التركي "مظلم وزائف على غرار ما كنا نعتقد أنه أصبح شيئا من التاريخ"، وتسابق أنصار الحركة الصهيونية في العالم في التنديد بتصريحات أردوغان بدءا من رئيس تجمع الحاخامين في أوروبا التي يسكنها نحو 1.7 مليون يهودي والذي يضم 700 زعيم ديني، وانتهاء بانتقادات وزير الخارجية الأميركي الجديد جون كيري الذي وصفها بأنها "مرفوضة من قبل الولايات المتحدة ومستهجنة"، مرورا بالطبع بالمتحدث باسم البيت الأبيض تومي فيتور وكذلك الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي وصف تصريح أردوغان بأنه "جارح ومثير للشقاق"!

تاريخيا، وقبل الخوض في حيثيات التوتر القائم بين تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، وتحديدا تحت ظل زعامة رئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان، وبين إسرائيل ككيان وبين الصهيونية كمنظمة راعية لهذا الكيان، فإن من المهم التذكير بأن منظمة الأمم المتحدة التي يتولى أمانتها العامة حاليا بان كي مون كانت قد اتخذت في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1975 قرارا تاريخيا اعتبرت فيه "أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري".

لكن وبعد ذلك القرار بنحو خمسة عشر عاما عادت الأمم المتحدة لتتخذ قرارا جديدا وبتأثير اللوبي الصهيوني على الكثير من دول العالم خاصة بعد مؤتمر مدريد 1991م، ألغت بموجبه قرارها السابق مع تقديمها اعتذارا ضمنيا لإسرائيل عنه!!

ولعل من المفيد القول أيضا إن هناك عقدة ما بين تركيا، الدولة التي كانت لفترة طويلة مركزا للخلافة الإسلامية، وبين الصهيونية كمنظمة وحركة حاولت خلال تلك الفترة أن تنتزع من سلاطين الدولة العثمانية حق الهجرة إلى فلسطين من كافة أنحاء العالم لكنها فشلت رغم العروض التي قدمتها لهم ورغم حاجتهم في فترات محددة لمثل هذه العروض، كما أن الحركة الصهيونية ممثلة بقادتها ساعدت الغرب على إسقاط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وهو ما فتح الباب لها للحصول على وعد بلفور وغيره لتكون أرض فلسطين وطنا قوميا لها.

لذلك لا يمكن اعتبار التدهور في العلاقات بين إسرائيل وتركيا منذ نهاية عام 2008 وبداية عام 2009 بسبب الحرب على غزة، ثم بلغت ذروته عام 2010 بسبب قتل كوماندوز إسرائيليين تسعة أتراك إثر اقتحام سفينتهم في البحر البيض المتوسط -التي كانت تنقل مساعدات إلى أهالي قطاع غزة المحاصر- من قبل القوات الإسرائيلية، هو محور الخلاف، وإن كان واجهة مهمة له حتى لا يرتبط أي خلاف بين الدولتين بخلاف عقائدي وحتى يبقى في إطار التعاملات القانونية والدبلوماسية بين الدول.

تاريخ العلاقات بين حزب العدالة والتنمية التركي وإسرائيل ليس فيه ما يشوبه من صفات عدائية أو شعارات محرّضة، بل إن الكثير من مفردات هذه العلاقة كانت تميل إلى الإيجابية

إن تاريخ العلاقات بين حزب العدالة والتنمية التركي وإسرائيل ليس فيه ما يشوبه من صفات عدائية أو شعارات محرّضة، بل إن الكثير من مفردات هذه العلاقة كانت تميل إلى الجانب الإيجابي والودي قبل استلام الحزب التركي مقاليد السلطة في أنقرة، ومن هذا التاريخ تحديدا قد يكون الفارق في موضوع العلاقة بين الطرفين ومن خلاله بين الدولتين، فقيادة حزب العدالة والتنمية أتت منذ فوزها بالانتخابات النيابية عام 2002م بمفاهيم ورؤى وتطلعات بشأن دور تركيا المقبل في المنطقة ورغبة كبيرة بإعادة الهيبة لهذا الدور على المستوى الإقليمي والدولي.

ومن أجل هذا سعت قيادة الحزب ونوابه في البرلمان التركي إلى تحديد سطوة المؤسسة العسكرية والقوى البيروقراطية التي كانت تهيمن على إرادة صنع القرار في الدولة التركية ونجحت في ذلك فباتت عملية صنع القرارات ومتابعة تنفيذها من أعمال الحكومة التركية المنتخبة، أي رجالات حزب العدالة والتنمية.

لذلك كانت نظرة تركيا أردوغان إلى موضوع الاستهتار الإسرائيلي بحقوق الفلسطينيين والاعتداء السافر عليهم والاستخدام المفرط للقوة تجاه المدنيين في حرب غزة 2008-2009 تكريسا لحقيقة تعلمها النخب الإسرائيلية جيدا مفادها: أن إسرائيل بحاجة إلى تركيا أكثر من حاجة تركيا لها، ولأن إسرائيل تتصرف بعنجهية دائما، ولأنها تستهتر بالقوانين والأعراف الدولية والإنسانية أقدمت على ما أقدمت عليه في حادثة السفينة المدنية التركية "ما في مرمرة" وقتل المواطنين الأتراك التسعة عام 2010، فساهمت في تعزيز توجهات أردوغان من جعل تركيا دولة عظمى في المنطقة وصياغة هيبتها بثوب جديد يلائم هذا التوجه ويحفظه، مع تيقن شبه كامل أن الوسيلة الرئيسية لتحقيق ذلك تكمن في عودة تركيا إلى محيطها الإقليمي (العربي الإسلامي) ومن خلاله بناء شرق أوسط جديد، تتزعمه أنقرة وتقوده.

إن طموح رجب طيب أردوغان هذا، الذي تطلق عليه وسائل الإعلام الصهيونية "العثمانية الجديدة"، أثار ويثير فزعا صهيونيا من إعادة تبوء تركيا مكانة تليق بتاريخها وحضارتها الإسلامية العريقة، كما يخشى أصحاب هذا التصور سيطرة تركيا على منابع النفط وحقول الغاز الطبيعي المكتشفة في شرق البحر المتوسط، والتي نشأ بسببها أيضا نزاع بين أنقرة وتل أبيب، و"العثمانية الجديدة" التي يراها الصهاينة في توجهات أردوغان أنه استخدم أدوات جديدة لإعادة هيبة وسطوة إقليمية قديمة، وهذه الأدوات تتمثل في الاقتصاد والسوق وعلاقات إقليمية فاعلة، إضافة إلى دعم مدروس بعناية للقضايا العربية بما يحقق تطلعات تركيا أيضا في وقف المد الإيراني بالمنطقة.

تركيا وإسرائيل ليستا على استعداد لقطع العلاقات بينهما لمصالح إستراتيجية, وما يحدث بينهما من توتر هو أمر يحدث بين كل دول العالم من ازدهار دبلوماسي إلى جفاء ومهاترات

وبحسب التجارب التي مرّت تاريخيا في العالم، وفي المنطقة العربية تحديدا، فإن أكثر من يتحسس عداء الحركة الصهيونية هم قادة الدول الذين يتصدون لبرامجهم وخططهم، لذلك فإن رجب طيب أردوغان يستشعر بشكل واضح التحرك الصهيوني لإعادة تركيا، وإعادته، إلى ما قبل حدود الخط الأحمر في المناوشات والتعرض بين الطرفين، وقد يكون من الواضح في عالم السياسة أن تركيا وإسرائيل ليستا على استعداد لقطع العلاقات بينهما لمصالح إستراتيجية واقتصادية بين الطرفين، وما يحدث بينهما من توتر هو أمر يحدث بين كل دول العالم من ازدهار دبلوماسي مضطرد إلى جفاء ومهاترات.

لكن المهم معرفة أن التعرض للحركة الصهيونية خط أحمر، ووسمها بما وسمته به الأمم المتحدة في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1975 بأنها "شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري" هو أمر لا يحتمل تجاوزه أو السكوت عنه، لذلك فإن أمام رجب طيب أردوغان مهمة صعبة وعليه إدارة ملفات قادمة ستثيرها دول غربية بتحريض صهيوني بدقة متناهية، وهو ما يتطلب الرجوع إلى حاضنته الرئيسية: الشعب التركي، المتعطش لإعادة إحياء الذات التي طمست بإرادة صهيونية لعقود طويلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.