مطلوب رئيس حكومة

العنوان: مطلوب رئيس حكومة - الكاتب: توجان فيصل

undefined 

لأول مرة في تاريخ الأردن، نجد النخب (بالمعنى الحقيقي وليس تلك التي ألبست طواقي) -وحتى ما دون "النخب" وصولا إلى المواطن الصالح لا غير- تقاطع الانتخابات النيابية ترشيحا وانتخابا، يليها رفض كل "رجال الدولة" القادرين على إعادة الهيبة إلى المواقع الرئيسية في الدولة باعتبارهم يملكون الحد الأدنى من النزاهة والاستقلالية, قبول أي منصب رئيس في الدولة وصولا إلى ذات رئاسة الحكومة, لدرجة أن البحث عن رئيس يلقى القبول أصبح مشكلة، فلا أحد يريد أن يضع رأسه حيث آلت ما كان يظن أنها رؤوس إلى حال مؤسف. 

وكعينة نورد موقف أبرز ثلاثة أسماء جرى تداولها، فعبد الكريم الكباريتي رئيس الوزراء في عهد الملك حسين ورئيس ديوان الملك عبد الله بعدها، رفض فكرة عودته. ودون أسبابه المستجدة, نقف عند سبب أهم أبداه كسياسي مطلع وليس كمرشح رئاسة, في جلسة مع السفير الأميركي سرب فحواها موقع ويكيليكس.

بعد مجيء حكومة علي أبو الراغب لم يعد النظام يرغب في التعامل مع من هم بمستوى ذكاء أعلى يحرجه, وهو عكس ما كان يفعله الملك حسين إذ يتصيد الكفاءات ويقدم لها تنازلات جمة

يقول الكباريتي إنه بعد مجيء حكومة علي أبو الراغب لم يعد النظام يرغب في التعامل مع من هم بمستوى ذكاء أعلى يحرجه، وهو عكس ما كان يفعله الملك حسين، إذ يتصيد الكفاءات ويقدم لها تنازلات جمة. وسواء قبلت بالمنصب أم رفضته، يظل يعاملها باحترام خاص أبقاها ذخيرة لديه تُعينه -ولو بالمشورة- في مفاصل عصيبة كادت تودي بحكمه.. وهذا موثق بأحداث وشهادات. 

الشخصية الثانية هي عون الخصاونة رئيس الوزراء الوحيد في العهد الجديد الذي قدم استقالته ولم يُقل. وهو رافض لأنه يعرف أن لا مجال لأن تعطى الحكومة الولاية العامة، فقد سبق له التنازل للملك, ودون جدوى, بإبقاء وزيرين عابرين يصر عليهما الملك رغم الرفض وحتى الغضب الشعبي, هما وزير التخطيط (حيث تسوق مشاريع للمعونات والقروض) ووزير الخارجية الباقي لكونه يصرّح بأنه مجرد "متابع لما يقرّره الملك"، أي هي مهمة سكرتير وليست مهمة وزير, ولكن قبل أن يقوم بها حتى رؤساء وزارات العهد الجديد.. مما يؤكد مقولة الخصاونة ونظرية الكباريتي. 

الشخصية الثالثة هي أحمد عبيدات, ولم تعرض عليه رئاسة الحكومة لوزنه الأثقل ولكون توجهاته الإصلاحية التاريخية صريحة حد انخراطه في حراك الربيع الأردني الجاري. ما عرضه الخصاونة أثناء رئاسته للحكومة ثم عرضه الملك أثناء حكومة  فايز الطراونة  (بالقفز عنه وعبر مسؤول أمني رفيع), هو ترؤس عبيدات ما أسموها "الهيئة المستقلة للانتخابات".

فجاء رفض عبيدات لجملة أسباب تؤشر على عدم وجود نية حقيقية للإصلاح, أبرزها ما سمي بالتعديلات الدستورية, وقانون الانتخاب الذي أغفل أهم مطالب الحراك وهي "قائمة نسبية مفتوحة" على مستوى الوطن لا تقل عن نصف مقاعد المجلس، وتعدد أصوات الدوائر بعدد المقاعد المخصصة لكل دائرة, ولكون ما يجري من استهداف ممنهج لحرية الرأي لا يتوافق مع زعم الإصلاح.  

رفض تولي المناصب تتويج لحالة رفض الترشح للنيابة التي يفترض أن من يتولاها هو الأكثر استقلالا لكونه منتخبا, وشكّل الأمران عينة غير مسبوقة مما يمكن تسميته "بالعصيان المدني النخبوي"، وكلاهما خيار ثبتت حصافته.

فمجريات انتخاب مجلس النواب الحالي منذ وضع قانونه وحتى إعلان نتائجه, شكل أكبر فضيحة تزوير مضافا إليها تكشف ترهل إداري أطاح بصورة جهاز الدولة البيروقراطي, وأطاح معه "بهيئة" الانتخابات التي كان أول ما فعلته خرق قانونها بقبول فرض الحكومة شرط التسجيل لديها لاكتساب صفة الناخب.

والنتيجة أن الحكومة والهيئة باتتا تستجديان التسجيل بطرق أصبحت مصدر تندر. وسقطت الحكومة في تزوير الانتخابات المكشوف قبل أوانه لمجرد زعم تسجيل أعداد معقولة من الناخبين, ثم لزعم نسبة اقتراع معقولة, وهو ما أدى إلى تمديد الاقتراع وفتح باب شراء الأصوات على مصراعيه, بينما "الهيئة" الضامنة "للنزاهة"عاجزة لا تملك إلا الشكوى "المذلة".. لتعود فتمتثل للمطلوب منها بإعلان فوز الموعودين بالنيابة, بمن فيهم الموقوفون في السجن لتهم شراء أو حيازة علنية لبطاقات الانتخاب.

وبينما فرّ المندوبون الأوروبيون والأميركيون بعد بيانات مقتضبة تشيد بالنزاهة متكئة على زعم "الهيئة", ظلت صناديق الاقتراع (المستبدلة حتما لكون الصناديق مرقمة بتسلسل) يتوالى اكتشافها لأيام بعد إعلان النتائج في غرف وحتى حمامات مراكز الاقتراع, وأغلبها مدارس أو مباني بلديات، مما يجعل الفضيحة تصل إلى التلاميذ وعامة الأهالي قبل وصول علم "كشفها" إلى الهيئة والحكومة..

وإلى حينه ما زال هناك مشهدان: الأول لمجلس نواب يقال إنه يعمل على اختيار حكومة لا أقل, والثاني  لقضاء يجمع صناديق ويعيد فرزها إلى ما شاء الله ويؤجل جلسات النظر في قضايا خرق لقانون الانتخاب نُقل الموقوفون عليها من السجن إلى قبة البرلمان, دونما نظر لشرعية قرارت تصدر عن مجلس لم تحسم شرعيته! 

محمد الحاج كان سيصل إلى رئاسة المجلس في الجولة الثانية لكونه أصبح فيها مرشحا من ثلاث كتل, وأيضا لأنه مؤهل بسبب اعتداله كإسلامي وخلقه العالي

والأدهى جرى لانتخابات مجلس النواب الداخلية وتناقلته الصحافة. ونختار منها تقرير موقع "المستقبل العربي" لكون عنوانه يمثل البرادوكس (paradox) الذي ليس له مرادف في العربية, ويعني قول شيء حقيقي ولكنه يناقض الحقيقة. فالعنوان يلخص انتخابات رئاسة المجلس بقوله "السرور فاز بأصوات الفلسطينيين واليساريين".. وهو قول صحيح حرفيا إذا أخذنا شخوص من أوصلوا إلى النيابة بزعم إيصال يساريين وذوي أصول فلسطينية أو غيرها.

وهو زعم لم يأخذه على محمل الجد سوى من أوصلوا باسم "حزب الوسط الإسلامي" الذي أُعدّ بديلا للإخوان المسلمين من بين منشقين عن التنظيم. وامتلاك الحزب الجديد لـ17 من أصل 150 مقعدا عزز ظن هؤلاء بإمكانية  لعبهم دور حزب أغلبية، فسارعوا إلى تسمية رئيس للوزراء من صفوفهم وترشيح رئيس القائمة -النائب السابق العائد- محمد الحاج لرئاسة المجلس.

والحقيقة أن الحاج كان سيصل إلى رئاسة المجلس في الجولة الثانية لكونه أصبح فيها مرشحا من ثلاث كتل. وفي الخيار الفردي أيضا الحاج مؤهل (لاعتداله كإسلامي وخلقه العالي الهام جدا بعد تسرب شريط لرئيس المجلس السابق أساء لصورة المجلس والدولة بما عزز أسوأ ما يطالها من إشاعات) للفوز برئاسة المجلس.

ولكن جرى الاتصال بنواب من الجهات الأمنية, وأغلب ذوي الأصول الفلسطينية، اتصل بهم  طاهر المصري "بضوء أخضر من جهة عليا" للتصويت لسعد هايل السرور(يحسب على الأصول الشرق أردنية) الذي لم ترشحه أي كتلة, لإسقاط الحاج ذي الأصول الفلسطينية لتسهيل توجه إلى إعادة تعيين المصري رئيسا للأعيان, وهو ما كشف هشاشة الكتل. والأهم ما يفيده عنوان التقرير الذكي, وهو أن تمثيل ذوي الأصول الفلسطينية أو الشرق أردنية -ومثلهم اليسار والليبراليون والإسلاميون- كلها أدوار يتقمصها ممثلون بمواصفات شكلية ملائمة للدور لا أكثر. 

وطاهر المصري -الذي يتصرف الآن كوارث آخر لرئاسة مجلس الأعيان بعد زيد الرفاعي الذي زعم تنحيه عن المنصب مقابل توريث ابنه رئاسة الحكومة- بداية إحضاره إلى الصف الأول كان بتعيين الملك حسين له رئيسا للوزراء عندما قرر الذهاب إلى مؤتمر مدريد للسلام، كي يقال إن الحكومة التي دخلت التسوية كان يرأسها فلسطيني.

ومع ذلك كان أول تدخل مباشر للملك حسين في انتخابات رئاسة مجلس النواب المعاد بفعل انتفاضة شعبية, بفرض سعد هايل السرور بدل التجديد لطاهر المصري الذي ترأس المجلس الثاني عشر (الذي كنت عضوة فيه) في سنته الأولى.

ولا يتسع الحيز لما قمنا به لدرء مثل هذا الاختراق لإرادة مجلسنا ولو بإعادة ترشيحنا لذات المصري, ولكن أمكننا تسليمه أكثر من غالبية أصوات المجلس.. ولكن المصري استدعي ليلتها إلى القصر، وفوجئنا بسفره صباح اليوم التالي بحجة واهية، ولم يعد حتى نهاية الانتخابات. وغاب أيضا وبذات حجة السفر عن جلسات التصويت على أهم القوانين المؤثرة في الشأن الفلسطيني, بدءا بمعاهدة وادي عربة وليس انتهاء بجلسات إلغاء قانون منع التعامل مع العدو وإقرار القوانين التطبيعية.

أما لماذا يصبح المصري مطلوبا الآن لترؤس الأعيان (مجلس الملك) بحيث يتوجب إبعاد محمد الحاج بهذه الصورة الكاشفة لغياب الإرادة الحرة للنواب -وكلاهما من أصول فلسطينية- فيوضحه لقاء صحفي جرى مع المصري بدايات الحراك الأردني. ففي سؤال عن كون الأوضاع تتراجع رغم زعم الإصلاح الرسمي، أجاب المصري بأن العيب في الحكومات التي لم تقدر على "ترجمة رؤية الملك" الإصلاحية. فووجه بأن الملك هو من يختار الحكومات وقد غيرها مرارا, فجاءت إجابة المصري الضاحكة: لهذا هو يغيرها!

والسؤال الذي يفترض أن يوسع ضحكة المصري أو يجعله يسافر تحاشيا للإجابة، هو: لماذا يعيد الملك  تدوير من جرى خلعهم بثورات شعبية؟ هل لأنهم ترجموا بالضبط ما أراده الملك, كرئيس ديوانه الحالي الذي لم يميز بين الكفارة والتكفير, والذي أصبح رده العجيب على سؤال لنائب تحت القبة نكتة أشد من تلك التي طاردت رمسفيلد لكونه لم يتضمن جملة مفيدة واحدة؟!! فهل هذا من سيلخص كامل المشاورات المزعومة مع النواب ليوصلها إلى الملك "بكل دقة وأمانة"؟! أم أن الحقيقة هي ما تورط في كشفه وزير الدولة لشؤون رئاسة الوزراء في تصريحه لشبكة سي.أإن.أن بقوله "ما زالت للملك صلاحيات منفردة لتكليف رئيس الحكومة بموجب الدستور, وما يجري هو رغبة ملكية باستشارة المجلس، والأصل أن يلتقط مجلس النواب الرسالة ويتجنب تسمية رئيس محدد"!

خطاب الملك لم يكن للداخل، بل كان جلّه للخارج, ولأميركا وأوروبا تحديدا اللتين لا يمكن تصديق أنهما مخدوعتان بأن الإصلاح المطلوب يتلخص في زيادة أو خفض حصة ذوي الأصول الفلسطينية في المناصب

وفي ذات سياق "خذوا أسرارهم.." يأتي ما قاله كاتب محدود القدرة ومع ذلك بات يقدم باعتباره مقربا من القصر. وهو لا يوصّف ولا يحلل، بل ينقل عن  "مسؤول رفيع المستوى" توصيفه لحال المجلس, وبناء عليه يبلغنا بأن علينا أن نصل إلى "استخلاص مهم جدا" وهو "إذا كان الملك قد فوّض صلاحية من صلاحياته إلى النواب لاختيار رئيس الحكومة، وها نحن نحتاج لكل هذا الوقت في مفاوضات عسيرة وصعب’.. فماذا سيحدث لو فوض الملك صلاحيات إضافية إلى غيره؟".

ومسرب "العبرة" لنا لا ينتظر إجاباتنا، بل يكمل مهمته بترجيح (أم تلويح؟) أن يجري خروج "بشكل جماعي في مظاهرة قريبا لنهتف معا مطالبين بالعودة إلى الطريقة الاعتيادية في تشكيل الحكومات.. وسنعلن لحظتها لمن يطالبون بتعديلات دستورية إضافية أن عليهم أن يتأملوا البروفة الأبسط وما جرى فيها  لعلهم يُصلّون على النبي ويهدؤون أمام مطالبهم بتفويضات إضافية أو تنازل عن صلاحيات الملك الدستورية! 

تسمية رئيس حكومة لا يفترض أن يتأخر في مجلس حسمت كافة انتخاباته الداخلية بدءا من رئاسة المجلس وكل ما تلاها، بـ"الألو" التي دخلت قاموس السياسة الأردنية.. ولكن المجلس بقي حائرا حين قيل له "سمِّ ولا تسمِّ" رئيس الحكومة. كما يجدر التذكير أن الملك هو القائل بأن من يريد تعديلات دستورية أخرى عليه أن يشارك في العملية الانتخابية ويطلبها عبر مجلس النواب الذي قال أيضا إنه سيأتي بحكومة برلمانية, لنجد أنفسنا أمام طرق التفافية مصممة لتعيدنا إلى "الطريقة الاعتيادية".

فخطاب الملك لم يكن للداخل حقيقة، بل كان جلّه للخارج, ولأميركا وأوروبا تحديدا اللتين لا يمكن تصديق أنهما مخدوعتان بأن "الإصلاح" المطلوب يتلخص في زيادة أو خفض حصة ذوي الأصول الفلسطينية في مناصب بلغ حالها أن يزهد فيها النخب والناخبون من كافة الأصول والمنابت, بحيث لم يعد بالإمكان قبول "رجال الدولة" بحق, مسؤولية ذلك "الإصلاح الرسمي", وجلّهم من أصول شرق أردنية, بقبولهم منصب "دولة الرئيس"!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.