صوملة الملف السوري

صوملة الملف السوري

undefined

يرى المبعوث الأممي العربي إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي أن سوريا "تدمَّر يوما بعد يوم"، وأنها "تنهار أمام الجميع"، كما يرى أن على مجلس الأمن الدولي ممارسة المزيد من الضغوط على أطراف النزاع في سوريا لتحقيق "إعلان جنيف" حول مصير الرئيس بشار الأسد والعملية السياسية الانتقالية، مطالبا بإعطاء الحكومة الانتقالية المقترحة -بموجب هذا الإعلان- جميع السلطات التنفيذية التي تمكنها من العمل كحكومة حقيقية للدولة السورية.

بالتوازي مع ذلك يشهد الموقف الروسي الرسمي حالة من التذبذب بين المرونة والتشدد في موضوع بقاء الأسد رئيسا للدولة السورية، مع وجود توقعات بأن يقدم الروس مبادرة تتضمن طرح بديل للأسد يكون مقبولا من الطرفين ليقود مرحلة انتقالية بجدول زمني محدد يوضع خلالها دستور جديد ويحضر للانتخابات، خاصة بعد تصريح رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيدف نهاية يناير/كانون الثاني الماضي خلال لقاء تلفزيوني، بأن "حظوظ بشار للبقاء في السلطة تتقلص يوما بعد يوم، وأن أيامه في السلطة باتت معدودة".

يبقى في موضوع الملف السوري الدور الإيراني ثم الموقف الصيني من قضية التغيير المطلوب في طبيعة وشكل النظام الحاكم في سوريا، فالموقف الإيراني السياسي والاقتصادي والعسكري هو ما تعوّل عليه حكومة دمشق بشكل رئيسي، وترى أنه الضمان الأقوى والأنجع لكبح جماح القوى المعارضة المسلحة وبقائها في الحكم، بينما ينحصر الموقف الصيني في أفضل حالاته في التزام موقف ثابت بمجلس الأمن الدولي يرفض استصدار أي قرار يجيز استخدام أي وسيلة لإسقاط حكومة الأسد.

على الأرض وفي عموم التراب السوري، تشير الوقائع والأحداث بشكل واضح إلى فقدان الرئيس الأسد الكثير من آماله في القضاء على الانتفاضة الشعبية المسلحة ضده، وهو بات يعلم أن المواجهة لم تعد بين معارضة وقوات حكومية، بل هي أقرب ما تكون إلى وصفها "بحرب أهلية" تنحدر طبيعة الصراع فيها بشكل يومي إلى المزيد من العنف والدموية، خاصة بعد مرحلة اللامبالاة الدولية التي اكتنفت موضوع سوريا -عن قصد- لتترك هذا البلد العربي الحيوي يأكل بعضه بعضا.

رغم وقوف العالم مع المعارضة السورية نتيجة إفراط النظام السوري في استخدام القوة تجاه شعبه، فإن الحرب القائمة في سوريا واقعيا أفرزت أيضا مليشيات مختلفة وقوى مسلحة عديدة

وقد يكون من أسباب ذلك تضارب المصالح الدولية في هذه الدولة والإقليم عموما، ورؤية الولايات المتحدة تحديدا لموضوع تفكيك وإضعاف البلد العربي المواجه لإسرائيل والذي تمتلك روسيا فيه قواعد بحرية وربما جوية كبيرة، من خلال ترك القوى المتصارعة فيه تدمر البنى التحتية وتسحق الاقتصاد والآلة العسكرية وتهدر الكثير من الدماء، مع تعزيز فرص إثارة النعرات الطائفية والإثنية والقومية فيه، ليجعل من موضوع لم الشمل بالغ الصعوبة تجاه أي فصيل يتمكن من حكم دمشق مستقبلا.

وهذا الواقع أقرب ما يكون إلى النموذج الصومالي، حيث اندفعت قوى غربية عديدة -على رأسها الولايات المتحدة- لجعل هذا البلد ضحية صراعات لن تتوقف في المدى المنظور، كما دفعت وتدفع سكانه للهجرة "الميسرة" إلى الولايات المتحدة وأوروبا وكندا وغيرها، ودمرت مليشياته كل أوجه الحياة فيه وقضت على بناه التحتية بشكل تام.

هذه الصورة قد تبدو الآن في مراحلها الأولى بسوريا حيث التدمير المنظَّم للمدن السورية، وحالة الانفلات الأمني والقانوني في معظم أنحاء البلاد، إضافة إلى ملايين النازحين والمهاجرين داخل سوريا وإلى بلاد الجوار السوري وأوروبا، وانعدام البنى التحتية والخدمات في جميع المدن والقرى والقصبات التي يسيطر عليها الجيش الحر، أو تلك التي يعاقبها النظام لتعاونها مع المعارضة.

ورغم وقوف العالم مع المعارضة السورية نتيجة إفراط النظام السوري في استخدام القوة تجاه شعبه، فإن الحرب القائمة في سوريا واقعيا أفرزت أيضا مليشيات مختلفة وقوى مسلحة عديدة تأتمر بإمرة أشخاص بعضهم ذو عقائد دينية منظمة، وأخرى ذات توجهات غير معروفة، امتهنت الحرب واستخدام الآلة العسكرية للقتل والتدمير، وقد وردت حكايات كثيرة عن مليشيات لها علاقة بحزب الله اللبناني وأخرى مرتبطة بشكل أو بآخر بتنظيم القاعدة، وبعضها بتنظيمات كردية وغيرها، وهي بهذا تشترك في صفاتها مع القوات النظامية التي تقتل في الغالب جراء قصفها الجوي أو المدفعي آلاف المدنيين بدم بارد.

هل المخرج من هذا السيناريو المخيف الذي ينتظر سوريا يمكن أن يكون عبر تدخل عسكري دولي لإسقاط حكومة الأسد؟ وهل يمكن أن يكون وقت هذا التدخل قد تأخر الآن وفات أوانه؟ وهل ستتحول سوريا إلى صومال جديد يكون مصدر قلق وتوتر يمنع استقرار دول الجوار السوري كالعراق ولبنان والأردن؟ ولماذا -بخلاف هذه الرؤية- تتأخر الولايات المتحدة عن الاستجابة للأصوات الكثيرة في المنطقة والعالم المطالبة باستخدام نفوذ وقوة واشنطن لتغيير أو إسقاط نظام الأسد كما فعلت مع أنظمة عربية أخرى في المنطقة؟

عمليا يرى الكثير من المتابعين أن وقت التدخل العسكري الغربي أو الأممي لإسقاط النظام في سوريا ربما قد فات آوانه، خاصة بعدما استفحلت حالة الصراع إلى درجة باتت فيها المعارضة المسلحة مناكفة بالقوة والقدرة على المناورة للقوات الحكومية السورية.

هناك من يرى أن سبب عدم تدخل الولايات المتحدة في الصراع السوري، هو عدم معرفتها بشكل محدد بالقدرات العسكرية الفعلية لسوريا وحليفتها الإستراتيجية إيران

كما أن حالة المعارضة في سوريا مرتبطة بشكل مركزي بحجم الدعم الدولي الذي يقدم لها، سواء من ناحية الدعم العسكري والإعلامي -وهو الأهم- أو السياسي، وهو ما يجعل الولايات المتحدة والغرب عموما ينتظر سقوط التفاحة بعد نضوجها، ولأن قوى المعارضة على أكثر من اتجاه، فهي مطمئنة حتى الآن من عدم تسيّد فصيل على آخر يمكن أن يشكل في حال سقوط النظام القوة الأقوى والأقدر على حكم سوريا وتهديد أمن إسرائيل.

لكن هناك من يرى أن سبب عدم التدخل الأميركي في الصراع السوري، هو عدم معرفة واشنطن بشكل محدد بالقدرات العسكرية الفعلية لسوريا وحليفتها الإستراتيجية إيران، وأن أي تدخل غربي أميركي ضد نظام الأسد قد يفضي إلى حرب مع الدولتين (لارتباطهما بمعاهدة دفاع مشترك)، وهذه الحرب قد تتسبب بخسائر كبيرة للقوات الجوية الأميركية.

وهنا تشير مجلة "إيفياشن ويك" العسكرية الأميركية إلى أن بعض كبار الضباط الأميركيين يرون أن الإيرانيين والسوريين باتوا يعمدون إلى إخفاء مواقع قوات دفاعهم الجوي عبر تحييدها وجعلها غير نشطة لتحويلها إلى عامل مفاجأة في أي حرب مقبلة. كما تشير المجلة إلى رأي مسؤول إسرائيلي بأن "ثمة تحسنا كبيرا طرأ على أنظمة الدفاع السورية، خاصة بعد دخول صواريخ من طراز أس.أي17″ إلى الخدمة والتي تعوض نقص قدرات الرادار السوري وتشكل تهديدا حادا لكافة أشكال الطائرات بما فيها تلك التي بدون طيار، وأنها قادرة على إصابة أهداف تحلق على ارتفاع مائة قدم وحتى 82 ألف قدم، وبمدى يتراوح بين ميلين و26 ميلا".

لذلك ترى الولايات المتحدة أن من مصلحتها ومصلحة إسرائيل في المنطقة ترك سوريا تأكل بعضها بعضا، خاصة في ظل الوحدة الاستخباراتية واللوجستية بين إيران وسوريا والعراق وحزب الله اللبناني. وقد تلجأ واشنطن في ظل رئيس جهاز مخابراتها المركزية الجديد إلى استخدام أسلوب الضربات الانتقائية لأهداف قد تشكّل خطرا رئيسيا في أي حرب مقبلة، ربما كان منها الضربة الإسرائيلية لمركز الأبحاث العلمية السوري نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، وقد تتكرر كثيرا في حالة استمرار التدهور العسكري والانفلات الأمني وفقدان الدولة لزمام السيطرة على أجوائها وحدودها ومدنها.

مخرج سوريا من هذه التقديرات المعتمة والمؤلمة إلى بر الأمان، سوري خالص

إذن الإبراهيمي أعرب عن خشيته من انهيار سوريا وتحولها إلى "صومال جديد يعج بأمراء حرب ومليشيات مقاتلة"، وقد قالها صراحة "إنه إذا لم تعالج هذه القضية معالجة صحيحة فالخطر هو الصوملة وليس التقسيم، أي انهيار الدولة وظهور أمراء حرب ومليشيات وتشكيلات".. حقيقة ليست هي رؤية الإبراهيمي فقط، بل إن التقارير الإسرائيلية تشير إلى ذلك بوضوح، وكذلك هي رؤية حزب الله في لبنان مشترطة في ذلك سقوط نظام الأسد، وأيضا رؤية عراقية وأردنية وإيرانية وإقليمية عموما.

ويبقى مخرج سوريا من هذه التقديرات المعتمة والمؤلمة إلى بر الأمان سوريًّا خالصا، وأعتقد بأن الإبراهيمي اختزله بعبارة مهمة في معرض حديث صحفي سابق له، إذ قال "لا أعتقد بأننا نظلم الدولة في اختزال وصفها للوضع بأنه إرهاب وأنها تحاربه".

وهناك في المعارضة من يعتبر أنها ثورة شعبية شاملة ضد هذا النظام ترمي إلى إسقاطه، وهذا يعني أن الطرفين يتحدثان عن موضوعين مختلفين، وبالتالي لا بد من إيصالهما إلى تعريف واحد للمشكلة.. نعم يجب أن تتركز الجهود من أجل جمع الطرفين على تعريف واحد، وبالتالي سيجد الأسد نفسه ملزما بترك السلطة للشعب الذي يرفض استمراره رئيسا له، وأن يجنب بلاده ودول الإقليم ما ستكون عليه من تقسيم وصوملة في حالة استمراره بحرب طرفها الآخر شعب يفترض أن يكون هو رئيسه وقائده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.