ماذا تعني زيارة داود أوغلو أرمينيا؟
من المعلوم أن هناك جفاء وبرودة في العلاقات بين تركيا وأرمينيا لأسباب تتعلق بالشؤون الداخلية والإقليمية رغم رغبة الطرفين في إنشاء العلاقات وتعزيزها، علما بأن هناك جهات تسعى لإذكاء الخلاف بينهما.
وإذا أوجزنا مسار العلاقات بين البلدين يمكننا أن نذكر أن دولة أرمينيا الموجودة قد تأسست بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت الدولة العثمانية قد انهارت، وقامت حكومة جديدة في أنقرة.
وكانت هذه الحكومة الجديدة تواصل حرب الاستقلال عقب اتفاقية سور التي قمست الأراضي العثمانية بين الدول المحتلة، وكانت الدولة الأرمينية الجديدة تقف إلى جوار الدول المحتلة وتحارب حكومة أنقرة.
بيد أن الأرمن انهزموا في المواجهة مع جيش الجنرال كاظم قارابكر التابع لحكومة أنقرة، فوقّعت اتفاقية كومرو في 2 ديسمبر/كانون الأول 1920، وقبلت أنقرة بالحدود القائمة بين البلدين.
ولكن من سوء حظ أرمينيا قيام الاتحاد السوفياتي بالسيطرة عليها، واستمرت أرمينيا تحت النظام الشيوعي حتى انهيار الاتحاد السوفياتي، وأعلنت أرمينيا استقلالها من جديد في شهر سبتمبر/أيلول سنة 1991.
كانت تركيا هي السباقة لإنشاء علاقات ودية مع جارتها الجديدة، وما إن مضى وقت قليل حتى احتلت أرمينيا أراضي أذرية تقارب خمس مساحة أذربيجان الشقيقة (1991-1993)، ويتعلق الأمر بمنطقة قاراباغ وسبع بلدات حولها، وهو ما دانته تركيا |
وهنا نرى موقف الدولة التركية الإيجابي، حيث اعترفت باستقلال أرمينيا في 16 ديسمبر/كانون الأول 1991 أي بعد ثلاثة أشهر من إعلان الاستقلال.
كانت تركيا إذاً هي السباقة لإنشاء علاقات ودية مع جارتها الجديدة، لكن وما إن مضى وقت قليل حتى احتلت أرمينيا أراضي أذرية تقارب خمس مساحة أذربيجان الشقيقة (1991-1993)، ويتعلق الأمر بمنطقة قاراباغ وسبع بلدات حولها.
وبطبيعة الحال وقفت تركيا إلى جانب أذربيجان ودانت الاحتلال، وما زالت أرمينيا تحتل تلك المناطق، وما زال الأذريون المشردون يعانون مأساة إنسانية، إذ إن الاحتلال أسفر عن مأساة إنسانية نزح أثناءها مئات الآلاف منهم.
من ذلك الوقت وحتى العام 2009 ظلت العلاقات منقطعة بين البلدين، وهنا يجب أن نشير إلى نقاط الخلاف بين البلدين تركيا وأرمينيا، حيث تتلخص في ثلاث نقاط أساسية، وهي ادعاء إبادة الأرمن سنة 1915، واحتلال قاراباغ وسبع بلدات حولها، وموضوع الحدود.
ومن مبدأ السعي لحل الخلاف مع بلدان الجوار قامت تركيا بإحياء أو تفعيل العلاقات من جديد مع أرمينيا، واستضافت تركيا رئيس جمهورية أرمينيا في أكتوبر/تشرين الأول سنة 2009.
وباختصار، التقى الطرفان في زيورخ، ووقّعا في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2009 على بروتوكول لإقامة علاقات بين البلدين.
وتضمن البروتوكول إقامة علاقات دبلوماسية وفتح معابر حدودية وتشكيل لجان لتطوير العلاقات في جميع المجالات بين البلدين، بما فيها لجنة التاريخ التي تتشكل من المؤرخين الموضوعيين ليدرسوا ادعاء الإبادة.
وقد كانت انعكاسات البروتوكول سلبية في أرمينيا وأذربيجان، علما بأنه لا يدخل حيز التنفيذ إلا بعد مصادقة البرلمانات عليه، والنظام المتبع في أرمينيا يمنع المصادقة على بروتوكول إلا بعد أن يتم تسويغه من قبل المحكمة الدستورية.
وقد كانت المحكمة الدستورية الأرمنية حكمت بأن تشكيل لجنة التاريخ إنما هو لدعم الإبادة المزعومة، وحكمت أيضا على أن الاتفاقيات المبرمة قبل إعلان الاستقلال (1991) ليست لها شرعية.
هذه التفسيرات تحبط مقاصد البروتوكول الموقع، لأن تركيا هي التي اقترحت تشكيل لجنة التاريخ ليدرس المؤرخون أحداث 1915، وعلى ضوء ذلك يقررون مصيرها بأدلة علمية موضوعية، حيث البرلمانات الغربية كانت تقرر الأحداث التاريخية بالتصويت، والتاريخ لا يكتب بالتصويت إنما ينبغي أن يكتبه المؤرخون.
وهذا التفسير يثير الخلاف بدل خدمة العلاقات بين البلدين، أما التفسير الثاني الذي يرفض الاتفاقيات قبل 1991 فيعني رفض الحدود الموجودة، وهذا أيضا بدل أن يخدم السلام يثير الجدل ويذكي الخلاف.
وإذا رجعنا بالذاكرة إلى الوراء فسنرى أن رئيس جمهورية أرمينيا سركسيان قال في مقابلة مع طلاب سنة 2011 جوابا عن سؤال: هل سنستعيد مدينة قارص (وهي مدينة تركية)؟ قال "هذا يتوقف على جيلكم، نحن قمنا بواجبنا".
في الجانب الآخر، كانت أذربيجان غاضبة على تركيا من جراء هذا البروتوكول، وعلى هذه الخلفية زار رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان باكو(14 مايو 2009)، وألقى كلمة في برلمان أذربيجان، وأعلن أن البروتوكول لن يصادق عليه في المجلس ولن تفتح معابر الحدود إلا بعد انسحاب أرمينيا من قاراباغ، ومنذ ذلك الوقت سادت البرودة علاقات البلدين.
وقد أتاحت زيارة وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو في إطار المشاركة في قمة "منظمة التعاون الاقتصادي في البحر الأسود" فرصة جديدة لأرمينيا لبعث وإقامة علاقات جديدة مع الأتراك.
الطرف الرابح من تطوير علاقات البلدين هو أرمينيا، لأنها دولة صغيرة وفقيرة وبحاجة ماسة إلى علاقات جيدة مع جيرانها على وجه العموم، ومع تركيا على وجه الخصوص، ولكن تركيا أيضا تستفيد منها في تحسين صورتها الخارجية |
وطرح أوغلو على المسؤولين الأرمن اقتراحا جديدا لبدء اللقاءات بين الطرفين، ولإقامة العلاقات وتمرير البروتوكول، واقترح على أرمينيا أن تنسحب من بلدتين محتلتين لإبداء حسن النية.
لا بد أن الطرف الرابح من إقامة العلاقات بين البلدين هو الطرف الأرمني، حيث أرمينيا دولة صغيرة وفقيرة وبحاجة ماسة إلى علاقات جيدة مع جيرانها على وجه العموم، ومع تركيا على وجه الخصوص، علما بأن قرابة خمسين ألف أرمني يعملون في تركيا من دون ترخيص رسمي وبطريقة غير شرعية، ولكن تركيا تتغاضى عنهم.
وإذا قيل ما الغرض من إلحاح تركيا لتطبيع العلاقات مع أرمينيا؟
نجيب لأن تركيا أيضا بحاجة إلى تحسين العلاقات مع أرمينيا لتتخلص من المشاكل المتعلقة بها من الإبادة المزعومة إلى مشكلة الحدود.
في الحقيقة تركيا دولة قوية، ولا تحتاج إلى أرمينيا، لكن الدنيا أصبحت قرية صغيرة وصارت العلاقات الدولية متداخلة مع بعضها بعضا، والقضية الأرمينية تجدها تركيا توضع أمامها بين حين وآخر في المحافل الدولية، ولا تريد تركيا عراقيل أمامها في طريقها لأن تكون دولة عالمية.
في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية داود أوغلو أكدت تركيا أن ليس لها حكم مسبق، ولا تتهرب من اللقاء، وهي تثق بنفسها، وبالتالي فهي لم تغير موقفها تجاه احتلال الأرمن أراضي أذرية وطلب الانسحاب منها.
لكن الطرف الأرمني يتلكأ في المضي قدما نحو حل المشاكل بغية استغلال الذكرى المئوية 2015 للإبادة المزعومة، لأن هناك جهات تحرض أرمينيا على الابتعاد عن تركيا!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.