لغتكم هويتكم.. أيها الرياضيون

لغتكم هويتكم.. أيها الرياضيون - عبد الله البريدي

undefined

يقول الرسَّام الألماني-السويسري بول كلي (1879-1940): "أنا هو أسلوبي"، نعم "نحن أساليبنا"، أو لنقل: "نحن لغتنا"، فاللغة هي: "هويتنا الناطقة"، وقطعا المجتمعات تنحط مع لغاتها وبلغتها، كما يقول نبيل علي.

في مشهدنا الرياضي: بدل كلمة "مباراة قمة" شاع استخدام وكتابة كلمة "ديربي" Derby، لدرجة أننا لم نعد إلى حد كبير نسمع أو نشاهد كلمة "قمة" في الساحة الإعلامية الرياضية.

وقد حدثتني إحدى طالباتي التي تخرجت في مرحلة "الماجستير" -وهي طالبة نابهة- بأنها كانت تعتقد بأن كلمة "ديربي" عربية فصيحة!

*****

تلك الحادثة -وأمثالها كثير- تشعرني بخيبة كبيرة، إذ كيف نسمح لأنفسنا باقتراف جرائم بحق لغتنا/هويتنا من جراء مجافاة لغتنا العربية والإيغال في استخدام الكلمات الأعجمية في أحاديثنا وتحليلنا، ولنوقن حينذاك بأننا نجرّع لغتنا العربية "ملعقة سم صغيرة، ثلاث مرات يوميا" (كما في عنوان حكاية سميح القاسم، 2011).

 العداء الخارجي ليس هو الأخطر على اللغة العربية، إذ الأشد خطرا وفتكا بها هو لون من العداء الداخلي أو يوصف بـ"آلية النسف الداخلي التي تهدد اللغة العربية بالانفلات الذاتي على يد أبنائها وعلى مرأى من ساسة أبنائها

وهنا أستدعي ما يراه عبد السلام المسدّي حيث يقرر بأن العداء الخارجي ليس هو الأخطر على اللغة العربية، إذ الأشد خطرا وفتكا بها هو لون من العداء الداخلي أو ما نعته بـ"آلية النسف الداخلي التي تهدد اللغة العربية بالانفلات الذاتي على يد أبنائها وعلى مرأى من ساسة أبنائها".

انتهاكات هويتنا الناطقة -لغتنا- كبيرة ومخيفة بالفعل، ولعلي أعرض لبعض تلك الانتهاكات في بعض السياقات الرياضية على وجه التحديد، وقد توسلت في العنوان باسم المعلق الرياضي الشهير "عصام الشوالي" -الذي يتحدث بلغة عربية مشرقة- باعتباره يمثل رمزا رياضيا بارزا، والحديث قطعا لجميع زملائه الرياضيين من اللاعبين والمعلقين والإعلاميين والمحللين على امتداد وطننا العربي الكبير.

*****

يتوهم البعض أن الخطاب الثقافي منصرف لفئة محددة، وهذا خطأ بيّن، فالثقافة يبنيها الجميع ويهدمها الجميع أيضا. وعليه فإنه لا أحد مستثنى من الخطاب الثقافي بكل مفرداته ومقوماته واستحقاقاته وتكاليفه.

ومن هنا يتوجب علينا الالتفات إلى كل الفضاءات الاجتماعية المهمشة ومنها الفضاء الرياضي.
نحن نتطلع جميعا إلى جعل الرياضة منشطا إنسانيا حضاريا، يتجاوز كونه مجرد ألعاب تُقتل فيها الأوقات، فالرياضة أسمى من ذلك وأرقى، كما غدت الرياضة أداة للتعارف بين الشعوب وتكوين الصداقات والعلاقات في سياق عالمي.

ويضاف إلى ذلك، تحصيل جملة من المنافع الاقتصادية عبر المشاريع التي تخلق الوظائف وتدر العوائد عبر صناعة رياضية متكاملة. ولرياضي أن يتساءل: وما دخلنا نحن الرياضيين بتهديدات اللغة العربية رحمك الله؟ (اللغة هوية ناطقة، ص 48-49).

*****

الرياضيون لهم شأن مع اللغة العربية، كسائر الفئات الاجتماعية. وهنالك تهديدات للغة تصدر منهم على وجه التحديد. قد يقال: كيف، والرياضيون مسالمون وطيبون؟ بالتأكيد إنهم كذلك، ولكن الكثير منهم بدأ يتساهل في الرطانة بالكلمات الأعجمية دونما حاجة، وغزت الساحة الإعلامية الرياضية عشرات الكلمات الأجنبية، رغم وجود كلمات عربية أصلا تعبر عن المعنى المراد، وربما يحتج بعضهم بأن هنالك كلمات أعجمية جديدة جاءت من باب التقنية الحديثة، مما يجبرنا على الخضوع لها واستخدامها.

وهنا أقول، وأنا متابع جيد للساحة الرياضية، إننا أمام نوعين من الخروقات اللغوية في الساحة الرياضية. دعوني أعرض عرضا مبسطا لهذين النوعين:

النوع الأول من الخروقات اللغوية في المشهد الرياضي يتمثل في استخدام الكلمات الأعجمية في الجانب التقني والإعلامي، دون أن يقوم الرياضيون بما يجب للحصول على ترجمات ملائمة من الجهات المعنية بالمسألة اللغوية.

وتلك الكلمات الأعجمية متكاثرة جدا، وأكثرها يسهل ترجمتها، ولعلي أورد بعض تلك الكلمات التي تشيع على ألسنة بعض الرياضيين، على أنني سأكتبها بحروفها اللاتينية، فالأصل أن تكتب بحروفها الأصلية "الإنجليزية" لئلا نسهم في حقن لغتنا بها.

اللغة العربية مهددة بل هي معرضة واقعا لما يمكن أن يوصف بـ "الغصة اللغوية"، التي تشير إلى ظاهرة ابتلاع كم هائل من الكلمات الأعجمية بلا مضغ في فترة قصيرة في ظاهرة "تعجيم العربية"

إليكم بعض الأمثلة التي تحضرني، وإلا فهي كثيرة: Mix Zone ،Focus ، Interview.
النوع الثاني من الخروقات اللغوية وهو الأخطر والأشنع، ويتمثل في استخدام كلمات أعجمية وهجر كلمات عربية كنا نستخدمها لفترات طويلة في الساحة الرياضية، فبعض المعلقين والمحللين الرياضيين مالوا إلى تغليب كلمات أعجمية على حساب الكلمات العربية المستخدمة أصلا في الماضي.

دعوني أضرب على ذلك بعض الأمثلة: بدلا من كلمة "ضغط" -في الهجمة مثلا- بدأ البعض للأسف يستخدم كلمة Pressing! كنا لا نستخدم غير كلمة "مدرب"، أما الآن فقد أصبح البعض يتبجح باستخدام الكلمة الأعجمية Coach. إلى عهد قريب كان المعلقون يلتزمون باستخدام كلمة "إنهاء الهجمة"، وفي هذه الأيام بدأت آذاننا تصك بعجمة لا مبرر لها عن طريق استخدام كلمة Finishing، ومثلها كلمة Extra time عوض "وقت إضافي" (المرجع السابق).

وما سبق يؤكد خطورة التساهل باستخدام مثل تلك الكلمات الأعجمية، فالكلمة الأعجمية تطرد الكلمة العربية وتقضي عليها بضربة قاضية، وهذا موجع مفجع.

فكم من الكلمات العربية ستتوارى عن الأنظار وتسحق بهذا اللون من "التعدي اللغوي" "والتجاوز الثقافي"؟ فمثلا لننظر أن بعض الكلمات الأعجمية الرياضية قد طغت علينا للأسف لدرجة إماتة مقابلها العربي عند الكثيرين من العرب لفترات زمنية طويلة، مثل:

Goal: هدف
Foul: خطأ
Corner: ضربة ركنية
Penalty: ضربة جزاء

كم منا من يستخدم الكلمات العربية تجاه الأمثلة السابقة؟ هل بدأنا ندرك كيف نميت بأيدينا لغتنا العربية؟

اللغة العربية مُهدَّدَة بل هي معرضة واقعا لما يمكن أن يُوصف بـ"الغصة اللغوية"، التي تشير إلى ظاهرة ابتلاع كم هائل من الكلمات الأعجمية بلا مضغ في فترة قصيرة في ظاهرة "تعجيم العربية"، دون أن تتوفر لغتنا العربية على ما يدفع هذه اللقمة بسلام كي تصل إلى قنوات الهضم أي عبر الاقتراض اللغوي السليم.

وهذا يعني أننا قبالة ليس مجرد "غصة لغوية" فحسب، بل "تلبك لغوي حاد"، وربما ساءت الحالة واحتيج إلى استئصال بعض الأجزاء، أي إماتة كلمات عربية، وهذا ما نشاهده في سياقات عديدة ومنها السياق الرياضي (المرجع السابق).

*****

نعم، اللغة العربية منتهكة في مسارات عديدة، وهي في خطر حقيقي ومتزايد، وليس متوهما ولا مبالغا فيه، وليتأكد عصام الشوالي ورفاقه أنهم يميتون كلمات عربية بقدر الكلمات الأجنبية التي يستخدمونها في تعليقهم وتحليلاتهم، خاصة أنهم يمثلون "رموزا" لعدد كبير من الشباب، ولديهم قدرة كبيرة على التأثير، الإيجابي أو السلبي.

أيها الرياضيون، إن الأمة التي لا تحافظ على لغتها الأم مطالبة بالتطبيع مع التخلف الحضاري، والتاريخ شاهد بذلك، فهل تروم الأمة العربية الاستمرار في توقيع ذلك العقد المشؤوم مع التردي الحضاري؟
أيها الرياضيون، إن الأمة التي لا تحافظ على لغتها الأم مطالبة بالتطبيع مع التخلف الحضاري، والتاريخ شاهد بذلك، فهل تروم الأمة العربية الاستمرار في توقيع ذلك العقد المشؤوم مع التردي الحضاري؟
 
أيها الرياضيون، لا مناص، فإما أن نحافظ على "هويتنا الناطقة" أو أن نجعل خيبتنا الحضارية ناطقة!
 
أيها الرياضيون، ننتظر منكم ميثاق شرف، تضعونه وتعاهدون عليه أنفسكم بأنكم ستعيدون بريق اللغة العربية في المشهد الرياضي، وبأنكم ستقومون عجمة ألسنتكم، بعدم استخدام الكلمات الأعجمية، فنحن لا نحتاجها، ومن يعرف منا اللغات الأعجمية سيعرف كلماتها وسيستخدمها حسب حاجته.
 
إذن، دعونا نستعد رونق الضاد في عقولنا ووجداننا وإعلامنا وصحفنا ورياضتنا، ارحموا لغة قوم ذلت، ورضي الله عن كل الذين يؤمنون بلغتهم ويدعمونها ويدافعون عنها، ورضي عن كل من يبني "الأنفة اللغوية" الواجبة تجاه لغة كاملة، ومدهشة بحق (المرجع السابق).

ترى ماذا سيقول عصام الشوالي ورفاقه؟ وماذا ستقول المؤسسات الرياضية العربية المعنية؟ كلي فأل وأمل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.