مآلات وأبعاد التقارب الأميركي الإيراني والروسي المصري
صورة الإقليم المتحركة
التقارب الأميركي الإيراني
التقارب الروسي المصري
مآلات التقاربين
يبدو في المشهد الإقليمي حالة لافتة لتقاربين مفاجئين بين دول مركزية في الإقليم مع قوى دولية، بشكل يعاكس صورة الإقليم التقليدية ونمط علاقاته الخارجية منذ عقود، وهما التقارب الأميركي الإيراني، والتقارب الروسي المصري الحاليان.
فما التفاعلات الإقليمية التي أنتجت هذين "التقاربين"؟ وما أبعادهما؟ وما مآلاتهما على تشكيل المنطقة المستقبلي؟
صورة الإقليم المتحركة
بدت صورة المشرق العربي ما قبل الربيع العربي في حالة استقطاب تقريبا بين محورين: محور المقاومة والممانعة، ومحور الاعتدال العربي. وظلت حالة الاستقطاب الإقليمي هذه على حالها حتى مجيء الربيع العربي الذي هز المحورين بنسب متفاوتة وغير حاسمة، لكن الهزة إجمالا كانت كافية بالقدر الذي أحدث سيولة عارمة في المنطقة.
فالربيع العربي محا الصورة القديمة، وخلق في الأثناء سيولة تصادمت فيها الأقطاب الإقليمية لتثبيت ترسيم جديد للمنطقة، ولكنه وإن عجز عن إنجاز ترسيم جديد لمنطقتنا، إلا أنه أبدى ملامح جديدة وفريدة للخارطة الإقليمية التي كانت محتملة |
فالربيع العربي محا الصورة القديمة، وخلق في الأثناء سيولة تصادمت فيها الأقطاب الإقليمية لتثبيت ترسيم جديد للمنطقة، ولكنه وإن عجز عن إنجاز ترسيم جديد لمنطقتنا، إلا أنه أبدى ملامح جديدة وفريدة للخارطة الإقليمية التي كانت محتملة.
إذ جاء بالإسلاميين إلى الحكم، وأرسى ملامح ترسيم جديد للمشهد الإقليمي، على رأسه تقدم مصر لأخذ مكانتها اللائقة بها، وتحرك تركي بتناغم مع قطر في ذات السياق لبناء صورة جديدة للإقليم.
ولكن الملامح الجديدة أثارت مخاوف شديدة لدى الكثير من أقطاب المنطقة، مما استدعى مقاومة قوية من تلك القوى الإقليمية التي قدرت أنها ستخسر من مخرجات الربيع العربي.
والمفارقة أن القوى الإقليمية التي تحركت لمقاومة الربيع، كانت من ضفتي المحورين المتعاكسين القديمين، فالتقت مثلا إيران ودول الخليج معا على قلب مرسي في مصر، وكل على شاكلته.
وما يجري حاليا من محاولة للانقلاب على الربيع، يتضمن هجمة لسحق "الإسلام السياسي" وإخراجه من الحلبة السياسية، وتبريد للوعي الشعبي العربي، عبر عودة قاسية لهراوة الأمن وبغلظة أكثر، بهدف تحييد أهم مكونين أفرزهما الربيع العربي.
وفي السياق الإستراتيجي، فالهجمة الحالية على الربيع العربي، تستهدف ترسيما جديدا للإقليم، لكن الحالة الراهنة شبيهة بما سبقها، فالقوى التي انقلبت على الربيع العربي استطاعت أن تخفض من مفاعيله وبطّأت مساره، لكنها عجزت حتى الآن عن حسم الرسم الجديد للخارطة الإقليمية، وما زالت حالة الإقليم في سيولة شديدة، ولكن بشكل آخر.
ومن تجليات السيولة الحالية "التقاربان" الأميركي الإيراني والروسي المصري، وتُظهر صورة المتقارِبين الجدد مدى السيولة الراهنة، وحجم الحراك الإقليمي الجاري، وعظم مخرجاته المحتملة.
وفي الصورة الإقليمية الحالية المضطربة تبدو أنقرة متجهة لبكين لشراء الأسلحة مبتعدة عن الناتو، والقاهرة مقتربة من موسكو غضبا على أميركا، والرياض غاضبة على واشنطن، وطهران في "علاقة حب" مع "الشيطان الأكبر"، أما تل أبيب فتشاغب بدلال على حليفتها واشنطن.
التقارب الأميركي الإيراني
باختزال يمكن قراءة هذا التقارب المفاجئ بأنه تقاطع لحالة العجز التي يعيشها طرفا الالتقاء الراهن، فواشنطن وفق إستراتيجيتها الممثلة بما يمكن تسميته بـ"إدارة التقهقر" من منطقة الشرق الأوسط، التقت مع طهران التي استنزفها الحصار والحرب في سوريا، بمعنى أن اللحظة تترجم حالة العجز لكلا الطرفين، وتحمل معنى الإدارة المتبادلة لها.
ولكن ماذا يريد الطرفان الأميركي والإيراني من التقارب الحالي؟
يمكن قراءة التقارب الإيراني الأميركي بأنه تقاطع لحالة العجز التي يعيشها الطرفان، فواشنطن وفق إستراتيجيتها الممثلة بما يمكن تسميته بـ"إدارة التقهقر" من منطقة الشرق الأوسط، التقت مع طهران التي استنزفها الحصار والحرب في سوريا، بمعنى أن اللحظة تترجم حالة العجز لكلا الطرفين |
– يوفر التقارب محاولة لخلق هدنة تكتيكية بين الطرفين على أقل تقدير.
– تريد واشنطن اختبار القيادة الجديدة في طهران، وتحاول التوصل لتعليق زمني معقول للبرنامج النووي الإيراني، في ضوء عدم قدرتها على إيقافه بالقوة، للمحاذير الإستراتيجية التي تمنعها من الحسم ويعج بها الإقليم.
– ربما تقترب واشنطن من طهران لاحتواء الأخيرة، بهدف قفل الملف السوري باعتبار الدور الإيراني فاعلا في هذا الملف.
– قد تتطور الأمور لتعمل إيران مع أميركا في جبهة واحدة لمحاربة القاعدة وشبيهاتها في الساحة السورية، والثمن بقاء النظام السوري أو أجزاء مهمة منه.
– وطهران تريد تجاوز الحصار لترميم اقتصادها المتدهور، وربما يتضمن التقارب محاولة منها للحفاظ على مكاسبها الإقليمية من خلال إنقاذ النظام السوري بصفقة مع واشنطن.
التقارب الروسي المصري
يكتظ المشهد المصري ببروغندا إعلامية عارمة، تصور التقارب الحالي بما يشبه توجه عبد الناصر لموسكو في مواجهته مع الغرب في منتصف القرن الماضي.
والحقيقة أن مصر السيسي ليست مصر عبد الناصر، وكذلك فموسكو غورباتشوف ليست موسكو بوتين، ناهيك أن المناخين الدولي والإقليمي مختلفان تماما عن مناخ الخمسينات في القرن الماضي.
مع ذلك، فإن التقارب ينبئ عن تخلّق مناخ لاحتمال تحول نسبي في ملامح بنية الإقليم، خاصة أن واشنطن تنكفئ نسبيا من المنطقة، وتحاول موسكو ملء الفراغ بحسب إمكاناتها، ولكن بطريقة جديدة لا تعتمد أيديولوجيا القرن الماضي، وإنما تتقدم ببراغماتية خالصة لخدمة مصالحها الذاتية.
ويمكن هنا أن نتوقف عند أهداف موسكو والقاهرة من التقارب الحالي؟
– تحاول موسكو ملء الفراغ الأميركي في المنطقة، فهي نجحت نسبيا في سوريا، وتختبر نفسها في مصر حاليا.
ويمكن أن تُقرأ المرحلة كمحاولة لبناء شراكة مؤقتة بين واشنطن وموسكو في المنطقة، بانتظار حسم الحراك والصراع الدائر فيها، والأهم إزاحة الإسلاميين عن الحكم في المنطقة.
– الخطوة الروسية تتضمن دعما للقاهرة، لأنها لا ترغب بحالة حكم إسلامية ناجحة في المنطقة، تخوفا من تأثيرها على فضائها الحيوي الذي يتضمن كثافة إسلامية وازنة قد تؤثر على واقعها الإستراتيجي.
– وفي البعد الاقتصادي تسعى موسكو لاقتناص صفقات شراء أسلحة لدعم اقتصادها، لأن ذلك يشكل موردا مهما من موارده.
– القاهرة تمارس الحرد بهذا التقارب لتضغط على واشنطن، لتقبل الأخيرة بنفس سيناريو الانقلاب الذي صممه العسكر، إذ إن الاختلاف بين الطرفين في شكل الإخراج للوضع المصري الجديد فقط، فتطمح مصر لاستعادة التحالف على أسسه القديمة، وبالصورة ذاتها.
من المبكر الجزم بأن ما يجري تحول باتجاه حسم ترسيم جديد للمنطقة، وبناء تحالفات جديدة، فقد يكون التقارب والتباعد بين القوى الدولية والدول المركزية في الإقليم مجرد مناورات كبيرة تستهدف تحسين التحالف عند البعض، كما في الحالة المصرية |
وهو ما يتعارض مع رؤية واشنطن التي ترى بأن إزاحة الإسلاميين الفظة وإخراجهم من المشهد السياسي، لا يحقق استقرارا على المدى الطويل في مصر، إذ إنها تريدهم في المشهد السياسي، لتوفير الشرعية السياسية للنظام الجديد، ولمنع تحول قياداتهم الشبابية للتطرف، وفي المدى الطويل تطمح واشنطن لإعادة إنتاج الإسلاميين لخطابهم السياسي لأن نسختهم الحالية غير مقبولة في الحكم في المنطقة.
مآلات التقاربين
يعبر التقاربان في المجمل عن تفاعل إقليمي ودولي يمتزج بالاضطراب، فما يجري ليس مجرد تحركات في أوزان الكتل الإقليمية، وتصارع فيما بينها، وإنما يشي التقاربان باهتزاز التحالفات القديمة بين القوى الدولية ودول المنطقة المركزية، فالصورة الإقليمية مهتزة داخليا وفي امتداداتها الخارجية. ولا يمكن الاستهانة بمثل هذا التفاعل.
ولكن من المبكر الجزم بأن ما يجري تحول باتجاه حسم ترسيم جديد للمنطقة، وبناء تحالفات جديدة، فقد يكون التقارب والتباعد بين القوى الدولية والدول المركزية في الإقليم مجرد مناورات كبيرة تستهدف تحسين التحالف عند البعض، كما في الحالة المصرية.
وقد تحمل معنى التهدئة الإستراتيجية لخور برز في قوى المتصارعين، كما في الحالة الأميركية الإيرانية.
وفي المجمل، فالتقاربان يأتيان في دائرة التكتيك حتى الآن، ولا يحملان معنى التحول الإستراتيجي بشكل حاسم، لأن قوى الشد العكسي الداخلية والإقليمية تمانع من إنضاج تحول جذري في بنية الإقليم.
وعلى الأرجح سيبقى التقاربان في إطار المناورة فقط، لأن المناخ السائد لا يسمح بتحول حاسم وجذري.
مع ذلك، فالتقاربان يجسدان السيولة القائمة في المنطقة، ويرسمان محاولة لتعديل نسبي في خارطة التحالفات، ويظل الأفق مفتوحا للمفاجآت في ظل السيولة الإقليمية العارمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.