مصر إلى أين؟

مصر إلى أين؟ علي بدوان

undefined

الارتقاء لمستوى الثورة
صياغة علاقات مراكز القوة
أثمان الديمقراطية
العودة للديمقراطية

لم تهدأ زوابع الأحداث الجارية في مصر، ويتوقع لها أن تتفاعل على الأرض وبمنسوب قد يكون أعمق وأوسع من الفترة القليلة الماضية، وذلك على خلفية مجموعة الإجراءات التي تم اتخاذها خلال الأسابيع الأخيرة، ومنها فرض الحظر على حركة تنظيمية سياسية اجتماعية، وتوقع عودتها للعمل السري وكأن قدرها أن تبقى تحت الأرض في بلد كبير تُعتبر فيه تلك الحركة ذات قوة وحضور على المستوى التنظيمي بين الناس في الشارع وعلى امتداد أرض مصر.

وبعد قيام محكمة استئناف القاهرة، بتحديد يوم الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2013 المقبل موعدا لبدء محاكمة الرئيس المعزول محمد مرسي وآخرين بتُهم مختلفة ومنها التهمة المُضحكة والمتعلقة بالتخابر مع حركة حماس الفلسطينية، يثار التساؤل حول المسارات المتوقعة للأحداث في ظل تلك التحولات الدراماتيكية اليومية والمتبوعة بتداخلات وتدخلات إقليمية ودولية بشأن الداخل المصري؟

الارتقاء لمستوى الثورة
نبدأ القول بأن ما جرى في مصر منذ ثلاثة أعوام خلت يعتبر ظاهرة سياسية هامة جدا من حيث سماتها الاجتماعية والتنظيمية، ونقطة انعطاف كبرى في مسار الحياة العامة في مصر بعد عقود من سيطرة اللون الواحد بنظامه الأمني.

ما حدث في مصر من تغيير لم يرق إلى مستوى الثورة المنشودة، وانتخاب رئيس بطريقة ديمقراطية نزيهة وشفافة وحضارية خطوة في مسار الثورة لكنها لا تكفي

ولكن ما حدث من تغيير حتى الآن لم يرق إلى مستوى الثورة المنشودة، فالدولة المصرية بأركانها وبنيتها الأمنية وحتى السياسية منذ زمن الرئيس أنور السادات مازالت راسخة الجذور بالرغم مما ألحقته بهذا الشعب العريق من شتى صنوف الإذلال والإفقار الاقتصادي والمعيشي والقمع السياسي الذي طال غالبية القوى والمؤسسات الوطنية والمجتمعية.

فملامح أي ثورة تتمظهر في التغيير السياسي الداخلي البنيوي، وعلى مستوى صناعة القرار والموقف من القضايا السياسية الكبرى.

وفي التغيير الاجتماعي لصالح عامة الناس وخصوصا منهم أولئك "الغلابى" من الشرائح الطبقية المسحوقة من عامة الناس الذين يُطلق عليهم في بلادنا مسمى "أصحاب الدخل المحدود" ومعهم الشرائح الأدنى في السلم الاقتصادي والمعيشي من أصحاب مهن المياومة. وفي التغيير في بنية الاقتصاد لنظام الدولة الاقتصادي وارتباطاتها الخارجية.

وفي التغيير في العلاقات الخارجية والتحالفات، وفي التغيير في مفهوم السيادة والاستقلال الوطني في بلد انتهكت سيادته منذ توقيع معاهدة كامب ديفد الأولى عام 1979 وإملاءاتها السيئة.

إن تغيير رئيس الجمهورية ليس ثوره تامة وناجزة، وانتخاب رئيس بطريقة ديمقراطية نزيهة وشفافة وحضارية خطوة في مسار الثورة لكنها خطوة لا تكفي.

كما أن إزاحة رئيس مُنتخب ليس ثورة على الإطلاق، فما حدث في مصر مؤخرا هو انقلاب عسكري بالمعنى التقني والفني واللغوي والقانوني للكلمة، فقد أقدمت المؤسسة العسكرية على الإطاحة بحكومة نيابية ورئيس مُنتخب بغض النظر عن مواقف القوى السياسية المختلفة بانتماءاتها الأيديولوجية وانحيازاتها السياسية من شخص الرئيس الذي تم انتخابه.

صياغة علاقات مراكز القوة
كما أن صعود العسكر ليس ثورة على الإطلاق، ولكنه تغيير ذو معنى بغض النظر عن الموقف منه، فما حدث كان انقلابا بالمعنى التقني والعسكري لكنه لم يكن انقلابا عسكريا بالمعنى الكلاسيكي للتعبير، بقدر ما كان انتهازا لفرصة سانحة من قبل المؤسسة العسكرية لإعادة صياغة علاقات مراكز القوة السياسية في البلد ومركز صنع القرار بعيدا عن نفوذ قوة سياسية تنظيمية حازت على أصوات مؤثرة في الشارع المصري واستطاعت إيصال مرشحها لسدة القرار الأول في مصر.

لم يخرج المصريون قبل نحو ثلاثة أعوام ليستبدلوا حاكما بحاكم فقط، ولم يلجؤوا للشارع كي يُنصبوا سلطة عسكرتاريا مكان سلطة مدنية منتخبة، وما حدث يمكن أن يفضي إلى عواقب وخيمة

إن ما حدث من تحول في الوضع المصري ومن انقلاب على النتائج التي أفرزها صندوق الاقتراع، وبغض النظر عن المواقف المسبقة تجاه طرف أو طرف آخر، يُمكن له وفي جانب خطير منه أن يفضي إلى عواقب وخيمة على فُرص نشر وتكريس الوعي بالديمقراطية وثقافة الديمقراطية وممارستها على الأرض وتأصيلها، واحترام الرأي الآخر، وحقوق المواطنة واحترام التعددية السياسية والمساواة وتكافؤ الفرص بين عموم الناس ونبذ العنف قولا وعملا.

فالمصريون لم يخرجوا قبل نحو ثلاثة أعوام ليستبدلوا حاكما بحاكم أو رئيسا برئيس فقط، ولم يلجؤوا للشارع كي يُنصبوا سلطة عسكرتاريا مكان سلطة مدنية منتخبة.

ويلحظ في هذا السياق، أن العديد من الفضائيات المصرية ومُقدمي البرامج وعدد لا بأس به من المثقفين والمحللين والإعلاميين وخبراء السياسية والمتابعين، ومعهم أيضا عددٌ من المُنظرين والمحسوبين على صف الأنتلجنسيا المصرية، يُجمعون على أن الذي حصل مع إزاحة محمد مرسي كان ثورة شعبية ثانية، ولم يكن انقلابا، وإلى هنا الأمر يحتمل الخلاف والاجتهاد كل من موقعه.

ولكن الأمر الذي لا يحتمل الاجتهاد والخلاف أن هؤلاء قد انقلبوا على مواقفهم الأولى، بعد أن كانوا يطالبون بالديمقراطية والدولة المدنية والتعددية السياسية وأن صندوق الانتخابات هو الفيصل وهو الحكم والمعيار، فتحولوا بين ليلة وضحاها من موقف إلى موقف آخر، فمن الذي انقلب، وعلى ماذا انقلب، وهل يجوز الحديث عن ديمقراطية انتقائية ومشروطة، وديمقراطية غير انتقائية؟

أثمان الديمقراطية
إن للديمقراطية أثمانا وقد تكون أثمانها باهظة، وتلك ضريبة يجب أن تُدفع، وتلك واحدة من شروط القبول بها وهي قبول الآخر والاستجابة لما تفرزه صناديق الاقتراع من رأي وموقف وانحياز شعبي.

كما أن الحياة الديمقراطية لا تتوقف عند دورة انتخابية واحدة بل هي مُتجددة حال تأصلها في بلد معين، ويمكن عندها لكل قوة سياسية أن تعاود الكرة بين الناس للفوز بأصوات الشارع وهزيمة مُنافسِيها أو الحد من حضورهم في الشارع بطريقة ديمقراطية سلمية حضارية محترمة لا يستطيع أحد الانقلاب عليها.

إن المؤشر الهام في كل ما يجري الآن في مصر، هو مؤشر يمكن التقاط دلالاته من الصحافة والإعلام والتلفزيونات ومن المناخ العام للناس، وهو مؤشر يؤكد بأن غالبية الشعب المصري تريد رئيسا مدنيا لمصر بعيدا عن حُكم العسكرتاريا، أي عسكرتاريا، من أي لون، أو من أي انتماء سياسي أو أيديولوجي جاء أصحابها.

من يخاف من سيطرة قوة سياسية تنظيمية على الحياة السياسية في البلد، عليه المشاركة بفعالية في إطار منافس وخوض غمار العملية الديمقراطية في ساحة تنافسية ميدانها ما تقدمه تلك القوى للناس من برامج عمل على مستوياتها المختلفة

وهو ما يزكي ارتفاع منسوب الوعي الشعبي للناس والبسطاء منهم، لدرجة أن قال أحدهم "هل تصدقني إذا قُلتُ لك إن الأزمة الحقيقية في مصر تكمن عند المتعلمين والمثقفين وليس في الناس الأميين الذين يمتلكون وعيا فطريا بالحق والعدل"، فالثورة الحقيقية حصلت في الوعي المصري ويقظة الشعب المصري.

فما حصل هو بروفة ثورية في بلد عاش إرهاصات مديدة على يد نظام أمني وعسكري وبارتباطاته الخارجية التي كبلت مصر طوال عقود خلت.

العودة للديمقراطية
وخلاصة القول، إن طريق خروج مصر من أزمتها الحالية، يمر عبر العودة للديمقراطية وخياراتها، ولصندوق الاقتراع، وإعادة العسكر لدورهم الأصلي في ثكناتهم وتحييد الجيش عن مسارات الحياة السياسية العامة، وبالتالي العودة الكاملة للحياة المدنية وإنهاء أي علاقة للعسكر بسلطة الشعب والناس التشريعية وعموم مؤسسات المجتمع المدني، وعلى طريق إعادة روح الحياة السياسية للشارع ليصبح مفتوحا تماما، قولا وعملا، أمام الجميع للمشاركة في الحياة السياسية.

والحقيقة أن من يخاف أو يخشى من سيطرة جماعة أو حزب بعينه أو قوة سياسية تنظيمية على الحياة السياسية في البلد، عليه المشاركة بفعالية في حزب أو إطار أو جهة منافسة وخوض غمار العملية الديمقراطية في ساحة تنافسية ميدانها ما تقدمه تلك القوى للناس من برامج عمل على مستوياتها المختلفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.