الصراع السوري والإرادة الأممية
أثار قرار مجلس الأمن المتعلق بتفكيك الترسانة الكيميائية السورية بعض التفاؤل والأمل بقدرة المجتمع الدولي على تغيير المشهد السوري، وفرض حل يزيح دوامة العنف التي تفتك بالبلاد، ويضع الصراع الدموي المتفاقم على سكة المعالجة السياسية.
واستدراكاً، فإن المجتمع الدولي لا يعجز، إن قرر، عن إخماد أية بؤرة توتر في العالم، ولا تعجز إرادة أممية، إن اتحدت، عن فرض حل في سوريا يضع حداً لعنف منفلت ويفتح الباب أمام تنفيذ خطة طريق للتغيير السياسي تنسجم مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان والقواعد الديمقراطية التي تمكن هذا الشعب المنكوب من تقرير مصيره.
ليس من صراع دامٍ عرف هذا الاستعصاء المزمن المثقل بالضحايا والخراب والمشردين كالصراع السوري، وليس من شعب وصلت مأساته بسرعة قياسية إلى هذا العمق والاتساع كما الشعب السوري، وليس من لحظة مفصلية تلح فيها حاجة السوريين للدعم والمساندة لإنقاذ اجتماعهم الوطني أكثر من اللحظة الراهنة، وليس من بلد نضجت فيه الدوافع الأخلاقية والقانونية لدور أممي ناجع يوقف العنف المفرط وينقذ أرواح المدنيين كما سوريا، لا بالمساعدات الإسعافية والإغاثية على أهميتها وإلحاحها إنسانياً بل بقرار سياسي يضع حداً لصراع متفاقم يزداد آلاماً وقتامة.
فيما مضى وبعيداً عن النظرة التآمرية، يصح القول بوجود ما يشبه التوافق العالمي على إطالة زمن الصراع السوري واستنزاف المجتمع، تبادلت من أجله دول الغرب والشرق أدواراً متباينة ومخزية |
والحال، عندما يستعصي الصراع السوري على الحل أو الحسم، وتصبح لغة السلاح هي الفيصل من دون اعتبار لأرواح الناس وحقوقهم وممتلكاتهم، وعندما يواجه المجتمع نخبة حاكمة لا تهمها سوى سلطتها وامتيازاتها وتوظف كل ما يقع تحت يدها للاستمرار في الفتك والتنكيل حتى آخر الشوط، وعندما يقف الحراك الثوري أمام معارضة سياسية مفككة ومشتتة لم تستطع بعد مخاض طويل وفداحة ما قدم من تضحيات أن تنال ثقته، وغلب على وجهها المدني والسياسي منطق القوة والمكاسرة وتخترقها جماعات متطرفة تحاول فرض أجندتها على الناس حتى لو كانت النتيجة تدمير اجتماعهم وتعايشهم، وتهديد حياة الآخر المختلف ومشروع التغيير الديمقراطي برمته، وأخيراً عندما تقف البلاد على مشارف المزيد من التدهور والهلاك وأمام نذير التحول إلى دولة فاشلة وإلى وطن مستباح تتنازعه باستخفاف قوى إقليمية ودولية هي أبعد ما تكون عن مصالح الشعب السوري ومشروعه الوطني، عندها يمكن أن نفسر حالة التسليم والرضا لدى كتلة مهمة من السوريين بالمخرج الدولي لمعالجة ما صارت إليه أوضاعهم، وأن نتفهم مشروعية حضور رأي جمعي بات يجد الدور الأممي مفتاح الإنقاذ الوحيد للبلاد من أتون هذا الفتك والدمار.
كتلة شعبية مهمة لا تقتصر على أقليات دينية وطائفية تنبذ ثقافتها العنف وتخشى الفوضى ووصول قوى أصولية ومتطرفة إلى السلطة، بل تتسع لتضم قطاعات مهمة من الفئات المدينية الوسطى التي تنتمي إلى الإسلام السني المعتدل ولا ترضى إخضاع حياتها لإرهاب المتشددين، وأيضاً بعض الأوساط الاجتماعية الملتفة حول النظام نفسه، وقد انحسرت ثقتها بوعوده وبقدرته على استعادة السيطرة وتجاوز أزمته، ويلتقي هؤلاء على اختلاف منابتهم ليس فقط على إيمانهم المشترك بحقهم في الحياة في وطنهم ورفضهم للقهر والقتل اليومي، أو على إحساس عام بدأ يتملكهم جميعاً بالهزيمة والضياع وبأنهم صاروا في "الهوى سوى" كما يقول المثل الدارج، وأن من لا يزال سالماً وآمناً اليوم قد لا تبقى أحواله كذلك غداً، وإنما أيضاً على خشية وحسرة توحدهم ضد استباحة بلادهم وتحويلها إلى ساحة صراع، وعلى رغبة مشتركة في تجنيب مجتمعهم المزيد من الهلاك والخراب وويلات الفوضى والحرب الأهلية وفي البحث تالياً عن حل إنقاذي يخلصهم بأقل الآلام والتكاليف مما هم فيه.
فيما مضى وبعيداً عن النظرة التآمرية، يصح القول بوجود ما يشبه التوافق العالمي على إطالة زمن الصراع السوري واستنزاف المجتمع، تبادلت من أجله دول الغرب والشرق أدواراً متباينة ومخزية، استرخصت دماء السوريين ومستقبل أجيالهم واستهانت بما يحل بهم من دمار وخراب، ولا تغير هذه الحقيقة المرة، الدعوات الصاخبة لوقف العنف المفرط، أو زيادة حجم المعونات المخصصة للمتضررين السوريين، ولا الجهود المبذولة لخلق مبادرات سياسية مسقوفة بالفشل وإرسال مبعوثين ومراقبين زاد حضورهم الأوضاع سوءاً على سوء.
وحوافز التوافق كانت كثيرة تبدأ بمنفعة متبادلة في الحفاظ على توازن النفوذ القائم بين المحاور المتشكلة في المنطقة لضمان استمرار الحاجة الى الدول الكبرى في درء أي توتر محتمل، مروراً بالاستفادة من الساحة السورية لاستجرار بقايا كوادر ومقاتلي القاعدة وتصفية الحساب معهم، انتهاءً بحضور المصلحة الإسرائيلية، وأولوية الأخذ برؤية تل أبيب حول تأثير التغيير في سوريا على استقرارها واستقرار الشرق الأوسط!
فإلى جانب اللوبي اليهودي في أميركا والمؤثر على مواقف واشنطن الشرق أوسطية، ثمة لوبي يهودي تنامى دوره في روسيا ولا يقل أهمية في التأثير على قرارات الكرملين المتعلقة بالمنطقة |
أما اليوم فظهرت مستجدات ضاغطة أثارت بعض الأمل حول احتمال تقدم المجتمع الدولي للعب دور جدي في وضع حد للمأساة السورية، ونبدأ بالبلدان المحيطة، فثمة قاسم مشترك جديد بات يجمعهم، هو تنامي مخاوفهم، وإن بدرجات متباينة، من استمرار العنف والصراع ومن احتمال انزلاق البلاد إلى حرب أهلية واسعة وانتقالها إلى مجتمعاتهم بفعل المساحات الحدودية الواسعة والتداخل العشائري والديني والقومي، ما انعكس بحماس ورغبة ضاغطة على الدول الكبرى للتوافق وبناء دور جاد وحاسم يضع حداً للعنف السوري المستعر.
حكومة أنقرة تتحسب جدياً من تصاعد الوزن العسكري لأنصار حزب العمال الكردستاني ومن احتمال عودة التحركات الشعبية ضدها والتي لا يمكن فصلها عن تفاقم الأحداث السورية، بينما يكتوي العراق بنار العنف السوري المتصاعد وبتنامي نفوذ تنظيم "دولة الاسلام في العراق والشام" وما يترتب على ذلك من عودة البلاد إلى المربع الأول إلى زمن هجمات القاعدة والصحوات العشائرية، ويرتبط الحافز الأردني بشدة الضغوط التي يشكلها تدفق اللاجئين إلى أراضيه وتطلعه إلى معالجة أممية تخفف عنه بعض الحمل وتعيد السوريين الهاربين من أتون العنف إلى ديارهم، في حين تتجاوز الحاجة اللبنانية أعداد اللاجئين ومشكلاتهم ومعاناتهم، إلى أولوية تخفيف الاحتقانات والاستقطابات المذهبية الحادة، بعد الدخول الصريح لحزب الله في الصراع الدائر، والتي ينذر تفاقمها بعودة الحرب الأهلية.
والأهم جديد الموقف الإسرائيلي المؤثر في السياسات الغربية والروسية على حد سواء، فإلى جانب اللوبي اليهودي في أميركا والمؤثر على مواقف واشنطن الشرق أوسطية، ثمة لوبي يهودي تنامى دوره في روسيا ولا يقل أهمية في التأثير على قرارات الكرملين المتعلقة بالمنطقة، والقصد أن تل أبيب ربما اكتفت، بعد أكثر من عامين ونصف العام من العنف المنفلت، بما حصل من دمار وتهتك اجتماعي وسياسي في سوريا واطمأنت إلى أن هذا البلد فقد أخيراً دوره الإقليمي، ولن يشكل لعقود قادمة مصدر إزعاج وقلق لها، خاصة بعد قرار نزع الكيميائي..
وصارت تالياً أقرب لإعطاء ضوء أخضر، من زاوية حسابات أمنها الإستراتيجي، للغرب عموماً وللولايات المتحدة خصوصاً، كي تأخذ على عاتقها أمر ترتيب ما تبقى من البيت السوري، وفي الطريق تحرير الكرملين من قسط العبء الإسرائيلي في بناء سياساته ومواقفه من الصراع الدائر، الأمر الذي انعكس بتشدد روسي في التعاطي مع النظام السوري تجلى بالموافقة على التلويح بالبند السابع في قرار مجلس الأمن، وبتفهم أميركي لأهمية الانفتاح على إيران ولمشاركتها ولمحاذير التغيير في سوريا من دون تحضير بديل مناسب.
هل يصح إرجاع ذلك لاهتزاز ثقة موسكو بالحكم السوري بعد أن خذل كفالتها بضبط السلاح الكيميائي، أم لأنها، بدأت تشعر مع كل يوم يمر بالمأزق وصار يقلقها احتمال غرقها في مستنقع استنزاف واستقطاب يضرها ويهدد مستقبل علاقاتها مع العرب؟!
مثلما لا يستطيع النظام بعد هذا الزمن الطويل تحقيق الحسم |
وهل يمكن القول إن أميركا باتت تخشى من تنامي وزن الجهاديين في سوريا، ومن احتمال تحول البلاد إلى مركز انطلاق للعمليات الإرهابية وصار يهمها جدياً خلق جهد سياسي دولي يقطع الطريق على هذا الاحتمال؟!
أم يصح ربط تطور التوافق اليوم، بدافع مشترك هو الحفاظ على الكيان السوري، بتنوعه وتعدديته، وتالياً على مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية، تجنباً للفوضى والتفكك والحرب الأهلية المديدة؟
وفي السياق نفسه، يمكن إدراج ما شهدته القيادة الإيرانية من تغيير بعد وصول حسن روحاني إلى سدة الرئاسة، فالتوافق على زعيم ديني يميل نحو الاعتدال في التعامل مع الغرب ومشكلات المنطقة، إذ يكشف عمق الأزمة التي تعانيها طهران وشدة حاجتها لالتقاط الأنفاس، يكشف تالياً مدى جهوزيتها لاتباع سياسة مرنة في التعاطي مع الملف النووي وتخفيف درجة توغلها في الصراع السوري، عساها تخفف حالة العزلة والحصار والتأثيرات السلبية لتواتر العقوبات الاقتصادية، ولنا في سرعة انفتاحها على الإدارة الأميركية خير مؤشر ودليل.
ومع أخذ حسابات الحليفين الروسي والإيراني في الاعتبار، ثم طول أمد الصراع والعجز عن الحسم في ظل الإنهاك المتزايد للقوى العسكرية والأمنية، وتفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، وتصاعد حدة الضغوط العربية والدولية، هناك احتمال، وإن لا يزال ضعيفاً، تبلور قوى داخل تركيبة السلطة نفسها تزداد قناعة بعجز الحل الحربي عن وقف التدهور، وبضرورة المعالجة السياسية وتكون مجبرة على اتخاذ قرارات قاسية في التعاطي الجدي مع الدور الأممي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وما يعزز فرصة تقدم هذا الاحتمال، ليس فقط ضغط مصالح الحلفاء، وإنما أيضاً سهولة إقناع أهم أطراف المعارضة في ظل الاستعصاء الدامي والعجز المتبادل عن تعديل توازنات القوى.
والحال، مثلما لا يستطيع النظام بعد هذا الزمن الطويل تحقيق الحسم الذي وعد به مراراً، بدليل الوقائع الدامغة التي تظهر شدة ما تعانيه قواته المدعومة من حلفاء متمرسين، من أجل التقدم مسافات بسيطة في مدينة حمص المحاصرة وريف دمشق ودرعا وغيرها، لا تستطيع المعارضة على اختلاف أطيافها الادعاء بأنها مطمئنة إلى قوتها وقدرتها على الحسم حتى لو وصلها دعم عسكري نوعي، أو أنها تستطيع الاستقرار في أماكن سيطرتها وتحويلها من عبء عليها إلى ظهير وعمق داعم.
سوريا التي نعرفها انتهت، هي عبارة تسمعها من مواطنين يتحسرون على ما حل ببلدهم، والأمر لا يتعلق فقط بفظاعة الفتك والتدمير وإنما أيضاً بالتشوهات والانقسامات التي تفعل فعلها في المجتمع، فتذكي العصبيات وتشجع روح التنابذ والنزاع، مهددة النسيج البشري المتعايش منذ مئات السنين بالانشطار إلى هويات ممزقة وإلى صراعات من طبيعة إقصائية ستترك آثاراً مريعة على وحدة البلاد والدولة والشعب.
نعم، كل شيء يذهب بسرعة في سوريا نحو الأسوأ، مؤسسات الدولة والنظام والمعارضة، الأمن وشروط الحياة، شكل الصراع وحدته وطريق الخلاص، تماسك المجتمع والاحتقانات الأهلية والطائفية، الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وشدة ما يكابده الناس، والقصد أنه لم تعد تصح قراءة الصراع السوري بعيداً عن عنف يتمادى، ويرجح ألا يخفت أو يهدأ إلا بدمار شامل، وإمعان في تخريب حيوات السوريين واجتماعهم ومستقبلهم، والقضاء على كل ما أنجزوه خلال العقود الماضية، مثلما لم تعد تصح قراءة الخلاص من دون إرادة أممية حازمة تضع حداً للعنف وتجبر أطراف الصراع على ترك ميدان الحرب، والخضوع لمعالجة سياسية تحفظ وحدة البلاد، وترسي قواعد الحياة الديمقراطية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.