الوسطيون عاجزون عن الاستمرار في المقاومة

الوسطيون عاجزون عن الاستمرار في المقاومة -الكاتب: كمال درويش

undefined 

في أكثر الديمقراطيات تقدما، تتنافس أحزاب يمين الوسط الكبرى مع أحزاب يسار الوسط الكبرى. ومن المؤكد أن مدى تفضيل أي نظام انتخابي للأحزاب الضخمة -من خلال تحديد عتبات تأييد شعبية عالية لدخول البرلمان، أو من خلال تمكين الفائزين في الدوائر الانتخابية بالاستحواذ على كل شيء- يؤثر على درجة التشرذم والتفتت السياسي. ولكن الديمقراطيات المتقدمة تتسم بالمنافسة بين أحزاب ضخمة على يسار الوسط ويمين الوسط.. ماذا يتعين على الوسطيين الحقيقيين، من أمثال ماريو مونتي رئيس الوزراء الإيطالي التكنوقراطي المحترم، أن يفعلوا إذن؟

الولاء الإقليمي والعرقي يلعب دوراً أعظم في بعض الأماكن في أوروبا، ولكنه يلعب دوراً أعظم في الدول الناشئة حيث تعكس الانقسامات السياسية أيضاً ظروفاً خاصة في مرحلة ما بعد الاستعمار

لا شك أن الولاء الإقليمي والعرقي يلعب دوراً أعظم في بعض الأماكن في أوروبا -على سبيل المثال في إسكتلندا وبلجيكا وكتالونيا- ولكنه يلعب دوراً أعظم في الدول الناشئة، حيث تعكس الانقسامات السياسية أيضاً ظروفاً خاصة في مرحلة ما بعد الاستعمار، وكثيراً ما تعكس إرث حكم الحزب الواحد. ولكن على الرغم من هذا، فحتى في ديمقراطيات "الأسواق الناشئة"، مثل تشيلي والمكسيك وكوريا الجنوبية والهند، يلعب الانقسام بين اليمين واليسار دوراً مهما، في حين يظل هؤلاء الذين يزعمون انتماءهم إلى الوسط السياسي عموماً على ضَعفهم.

فقد حاول الديمقراطيون الليبراليون البريطانيون -على سبيل المثال- لعقود من الزمان التحول إلى حزب ثالث وسطي قوي، ولكن دون جدوى. ورغم اختلاف المفردات السياسية في الولايات المتحدة، فإن الحزب الديمقراطي يشكل منذ رئاسة فرانكلين روزفلت قوة حقيقية تنتمي إلى يسار الوسط، في حين يحتل الحزب الجمهوري اليمين، ولا وجود هناك لأي حزب مهم آخر.

وفي فرنسا وألمانيا، هناك قدر أعظم من الانقسام. فلا تزال السياسة خاضعة لهيمنة حزب كبير ينتمي إلى يسار الوسط وحزب آخر ينتمي إلى يمين الوسط، ولكن هناك مجموعة أصغر من الأحزاب -بعضها يحتل الوسط وبعضها الآخر يحتل أقصى اليمين وأقصى اليسار- تنافس الحزبين بدرجات مختلفة.

وفي بعض الدول، نجح "الخُضر" في إنشاء هوية لأنفسهم، أقرب إلى اليسار، ولكن على الرغم من التقدم الملحوظ الذي أحرزته مثل هذه الأحزاب في ألمانيا، فإنها تظل غير قادرة على الوصول إلى الحجم الانتخابي الذي تتمتع به أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط الكبرى.

وبوسعنا أن نجد أشكالاً مختلفة لهذه البنية الأساسية في إسبانيا والبرتغال واليونان وتركيا، وبلدان الشمال الأوروبي. والموقف مثير للاهتمام بشكل خاص في إيطاليا، حيث اضطر مونتي، الذي قرر خوض الانتخابات العامة المقبلة، إلى الاصطفاف مع اليمين (وهو ما أشار إليه من خلال حضور اجتماع لزعماء أحزاب يمين الوسط في أوروبا). والآن يناضل هو ورئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني من أجل الفوز بمساحة على اليمين، مع تقدم الديمقراطيين المنتمين إلى يسار الوسط في استطلاعات الرأي.

هناك على الأقل أربعة اختلافات بين تعامل يمين الوسط ويسار الوسط مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية. فاليمين يُظهِر قدراً أعظم من الثقة في قدرة الأسواق على تخصيص الموارد وتوفير الحوافز المناسبة، ويفضل الاستهلاك الشخصي على المنافع العامة، ولا يلتفت إلا قليلاً إلى التفاوت الاقتصادي، ويميل إلى النزعة القومية، وهو أقل تفاؤلاً بشأن التعاون الدولي.

أما اليسار فهو على النقيض من ذلك يؤمن بأن الأسواق، وخاصة الأسواق المالية، تحتاج إلى قدر معقول من القيود التنظيمية الحكومية والإشراف حتى يتسنى لها أن تعمل على النحو اللائق، ويهتم بدرجة أعظم بالمنافع العامة (على سبيل المثال، المتنزهات والبيئة النظيفة ووسائل النقل الجماعي)، ويسعى إلى تضييق فجوة التفاوت الاقتصادي، إيماناً منه بأن هذه الفجوة تعمل على تقويض الديمقراطية وروح العدالة التي تشكل أهمية كبرى لرفاهة الناس، وهو أكثر استعداداً لتعزيز أواصر التعاون الدولي كوسيلة لتأمين السلام وتوفير المنافع العامة العالمية، مثل حماية المناخ.

وعندما ننظر إلى السياسات الاقتصادية الفعلية كما تطورت على مدى عقود من الزمان، فسوف يتبين لنا أنها تجمع دوماً بين عناصر من يمين الوسط وأخرى من يسار الوسط. فقد عملت الأزمات المالية المتكررة حتى على تخفيف يقين اليمين في كفاءة الأسواق غير الخاضعة للقيود التنظيمية، في حين أصبح اليسار أكثر واقعية وحذراً في التعامل مع تخطيط الدولة والعملية البيروقراطية. وعلى نحو مماثل، أصبح الاختيار بين "السلع" المستهلكة على المستوى الخاص والمستهلكة على المستوى العام غير واضح غالبا، مع ميل الساسة إلى تعزيز ميل المواطنين المفهوم إلى طلب السلع العامة ورفض الضرائب اللازمة لتغطية تكاليف هذه السلع.

ومع اتساع فجوة التفاوت في الدخول -بشكل كبير في بعض البلدان مثل الولايات المتحدة- تنتقل هذه المسألة إلى طليعة النقاشات، الأمر الذي يعزز الانقسام السياسي التقليدي.

ورغم هذا، يتجادل يمين الوسط ويسار الوسط حول درجة إعادة التوزيع، وليس الحاجة إلى بعض التدرج والتصاعد في الضرائب والتحويلات. ويتفق الجانبان أيضاً على الحاجة إلى التعاون الدولي في عالم مترابط على نحو متزايد، مع اقتصار الاختلاف في الأساس على حجم الجهود الواجب إنفاقها على التعاون الدولي.

فإذا كانت الاختلافات في التعامل مع السياسات أثناء تنفيذها أصبحت محصورة إلى حد كبير في تقدير درجتها، فلماذا تظل أحزاب الوسط ضعيفة؟ ولماذا فشلت في توحيد المعتدلين على جانبي الانقسام الأيديولوجي؟

هناك اختلافات جوهرية في القيم والفلسفات الاقتصادية، وكذلك في المصالح الاقتصادية، الأمر الذي يؤدي إلى تركز الناخبين بدرجة متماسكة نسبياً على اليمين أو اليسار

من بين الأسباب وراء هذا هو أن أقلية فقط من أي تجمع سكاني تنشط سياسيا. ويحمل الأعضاء النشطون في الأحزاب وجهات نظر أكثر اتساقاً على المستوى الأيديولوجي -ويعتنقونها بقدر أعظم من القوة- مقارنة بأغلب هؤلاء الأقل انخراطاً في السياسة، الأمر الذي يعطي الناشطين نفوذاً غير متناسب في العملية السياسية. وفي نهاية المطاف، فإن الأفكار والمقترحات السياسية الأكثر دقة يصعب الترويج لها ونشرها بالقدر الكافي من الفعالية لتوليد الدعم الشعبي الواسع والحماسي.

ولكن هناك أيضاً اختلافات جوهرية في القيم والفلسفات الاقتصادية، وكذلك في المصالح الاقتصادية، الأمر الذي يؤدي إلى تركز الناخبين بدرجة متماسكة نسبياً على اليمين أو اليسار. وقد يؤدي الخلاف إلى تنازلات وحلول وسط، ولكن هذا لا يغير من الاختلافات الأساسية في المواقف المبدئية. ولعله من المفيد أن تظل المنافسة المنظمة بين أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط الكبرى قائمة.

ذلك أن مثل هذه الأحزاب قادرة على المساعدة في دمج الأحزاب المتطرفة في التيار السياسي السائد، في حين تيسر عملية تناوب وتداول السلطة، التي تشكل ضرورة أساسية لديناميكية أي نظام ديمقراطي، فالنظام الذي سمح ببقاء حزب وسطي كبير واحد محتفظاً بالسلطة بشكل دائم ليس بالنظام المرغوب بكل تأكيد. وهؤلاء من أمثال مونتي، الذين يريدون أن يفرضوا تحديهم من الوسط، يواجهون عقبات حادة بصرف النظر عن تأثيرهم الشخصي، ويتعين عليهم أن يتغلبوا على هذه العقبات، ولأسباب وجيهة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.