الحركة الإسلامية في خضم الربيع العربي
ما من شك في أن الحديث عن الانتقال في المشهد العربي الراهن لا يشمل طرفا من الواقع دون الآخرين. فالانتقال للديمقراطية لا يتمثل في تفكيك منظومة الاستبداد فقط، بل يتعدى ذلك إلى بلورة مشهد سياسي جديد وما يقتضيه هذا العمل من إعادة صياغة المشاريع السياسية التي تطرح نفسها بدائل عن المنظومات السابقة.
وإن لم يكن غريبا ولا مفاجئا بروز الحركات الإسلامية كقوى صاعدة في هذا المشهد الانتقالي، إلا أن ما استحدثه هذا الحضور القوي من إشكاليات افترض مزيدا من تأمل آثار الانتقال على الحركية الإسلامية وقدرتها على الاستجابة لمقتضيات المرحلة التي تمر بها المنطقة.
وإذا ما انصب تفكيرنا اليوم على فكر وممارسة الحركيّة الإسلامية، فلأنّها تقف في القلب من التّحديات التي تواجهها الأمّة، وتتصدّى في الطّليعة لعوامل الوهن التي ارتسمت في كلّ مناحي حياتها، غير عابئة بحجم التّضحيات التي تقدّمها من بين أفضل كوادرها وطاقاتها البشرية والإستراتيجية. والحركيّة الإسلاميّة لا تزال تشغل العصب في جسم أمّتها ما دامت تضع نفسها حيث يجب عليها أن تكون في الانتصار لقضايا الحق والحرية والعدالة والمساواة.
والحركية الإسلامية تواجه تحدياتها المتصاعدة من دون أن يعيقها ذلك عن النظر في حالها، وإنجاز النقد الذاتي الذي تحتاجه لتواصل تقدّمها. فتشق طريقها مجتهدة باذلة أقصى الجهد دون تهاون ولا تقصير، كادحة إلى ربها كدحا لا يقسي قلوب أبنائها طول عهد الأمل ولا تفلّ في عزيمتهم العوارض.
وإذ بدا أنّ هذا النقد الذاتي يقوم من المشروع الحركي الإسلامي مقام القوّة المجدّدة لمفاهيمه وخياراته وآليّات عمله، أضحى نهوض بعض أبنائه له فريضة موجبها الفهم الأصيل لرسالة الإسلام |
وإذ بدا أنّ هذا النقد الذاتي يقوم من المشروع الحركي الإسلامي مقام القوة المجدّدة لمفاهيمه وخياراته وآليّات عمله، أضحى نهوض بعض أبنائه له فريضة موجبها الفهم الأصيل لرسالة الإسلام، وواجب المرحلة الحركيّة الإسلاميّة الحديثة التي لم تتشكّل خصائصها بعد بالكامل.
تمرّ الحركية الإسلامية إذن، ومنذ فترة، بمرحلة جديدة وخطيرة نحتاج الوقوف عندها حيث تتشكّل ملامحها على النحو التالي:
– المشروع الإسلامي في بعده الإجرائي يتقدم ويتراجع في نفس الوقت. فهو يتقدم بالنظر إلى معطيات عديدة: الصحوة الإسلامية تتوسع باستمرار، والخطاب الإسلامي أصبح سائدا في مجمل الوسائل الإعلامية، والإسلاميون يتقدمون في اتجاه السلطة بشكل أو بآخر في أغلب المناطق التي يوجدون فيها، والحركيّة الإسلامية أضحت تمثّل مستقبل المنطقة والمعبّر عن تطلّعات شعوبها، والفكر الإسلامي يتّخذ منهجا تصالحيّا مع الحداثة الغربية ويتبنّى العديد من مفاهيمها.
لكن المشروع الإسلامي يتراجع في مستويات عديدة أيضا: في مبادئه وأسسه، في قيمه وأهدافه، وفي مقوّماته وأبعاده. وهو يتراجع أيضا بالنظر إلى نفس المجالات التي يبدو أنّه قد حقق فيها تقدّما في الصحوة السطحيّة، وفي فوضى الخطاب، وفي فهم السلطة ووظيفتها، وفي خفوت جاذبيّته، وفي مأزق البحث عن المدخل المناسب لقضايا الناس ووسائل حفظها ورعايتها، وفي تجديد الفكر الإسلامي الذي يتحوّل في أحيان كثيرة تحت وطأة الملاحقة الفكرية والسياسيّة إلى مسخ للمعاني والمفاهيم.
– المشروع الإسلامي في فاعليّته يتردّد بين الأخذ بنهجين في العمل: إمّا المحافظة على ثوابته التقليدية من حيث هو، في جوهره، مشروع دعوي تربوي اجتماعي ثقافي يتوجّه للمجتمع دراسة وعملا ومعالجة، من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع إلى الدّولة، مثلما تعلن ذلك أغلب إستراتيجيات العمل التي تتبنّاها الحركات الإخوانية.
وإمّا التأسيس لإستراتيجيات جديدة في العمل الإسلامي محورها الحريات السياسية والديمقراطية والتجاذب مع السلطة طلبا ومنعا، وما يقتضيه ذلك من تحول في طبيعة الحركية الإسلاميّة في اتجاه التّشكّل الحزبي داخل الفضاء القانوني للنّظام السّياسي القائم، كما بدا الأمر في السودان إلى حين، وكما تصطبغ اليوم به سلوكيّات الإسلاميين في تركيا الجديدة وفي تونس منذ ثورة الحرية والكرامة.
المشروع الإسلامي في بعده الاعتباري يواجه تحدّيات تتعلق بالشرعيّة ومقتضياتها والمشروعية وشروطها، إذ لا يخفى أن الحركيّة الإسلاميّة كانت تطمح ولا تزال لأن تكون ضمير الأمة الحيّ وصوتها الرّاشد |
– المشروع الإسلامي في بعده الواقعي يعاني بين الأصل والأنجع. وفي الحقيقة فإنّ الإسلاميين أكثر الأطراف الفاعلة في الساحة العربيّة والإسلاميّة تمسّكا بمرجعياتهم الحركيّة، حتّى لو أدّى بهم ذلك إلى تفويت فرص تاريخيّة.
فهم في التفافهم حول هذه المرجعيّات الحركيّة آخر الدّغمائيين المعاصرين وآخر المعادين للنّهج البراغماتي الذي شعاره "تحقيق أكبر قدر من النّجاعة بالنظر إلى الأهداف المرجوّة" وما يستدعيه ذلك من مرونة في الفكر والممارسة.
– المشروع الإسلامي في بعده الاعتباري يواجه تحدّيات تتعلق بالشرعيّة ومقتضياتها، والمشروعية وشروطها. إذ لا يخفى أنّ الحركيّة الإسلاميّة كانت تطمح ولا تزال لأن تكون ضمير الأمّة الحيّ وصوتها الرّاشد.
غير أنّ الاستعجال وضعف الثّقافة العصريّة، فضلا عن الفشل في فهم الواقع وتفكيكه وضعف الوعي التّوجيهي في بعض المراحل، كل ذلك دفع في اتّجاه منزلق خطير عبّر عنه السّؤال التالي: هل الحركيّة الإسلاميّة هي جماعة المسلمين أم مجرّد جماعة من أمّة الإسلام؟ تبدو الإجابة بديهيّة اليوم وتبدو إعادة طرح المشكل غير مبرّرة، لكن لو ابتعدنا قليلا عن الإجابات ذات الطّابع السياسي المناور فإننا سنجد أنّ المشكل لا يزال قائما بعمق باعتبار تجلياته في مناحي متعدّدة من فضاءات الفكر الإسلامي الحركي، وبالنظر لما يثيره من صعوبات تاريخيّة وثقافيّة وأصوليّة.
إذن هل هذه المرحلة الجديدة التي يمرّ بها الفكر الحركي الإسلامي ستمثّل تأسيسا ثانيا للمشروع الإسلامي الحركي؟ ربّما لن يكون في إمكاننا أن نجيب عن هذا السؤال، لأن الإجابة عنه قد تكون بيد الأجيال القادمة، لأنّها هي التي ستحكم على ما نفعله اليوم إن كان في مستوى إعادة التّأسيس أم أنّ الأمر لا يعدو كونه صياغة معاصرة لمشروع رمى بعروقه في كبد هذه الأمّة، كتابا وروحا وقدرا.
ومع ذلك فإنّ ما قامت به أغلب الكتابات في شأن الحركيّة الإسلاميّة، والتي تستحقّ أن تذكر في هذا المقام، يمكن تصنيفها على النحو التالي:
أ- المتابعة التأريخيّة لمسار تطوّر الحركيّة الإسلاميّة ورصد أهمّ الأحداث التي رافقت أو أثّرت في هذا المسار، وهو عمل شبيه بالتوثيق إلى حدّ بعيد. وقد قام على هذا العمل خاصة: المؤرّخون، والصحفيّون، وبعض الكوادر الإسلاميّة الحركيّة.
ب- ممارسة أقدار من النقد الذاتي من خلال مقاربات داخليّة قامت بها مجموعة من المنتفضين على الأشكال التقليدية في العمل الإسلامي والرافضين للمفاهيم الحركية والسياسية والدينية التي يرون أنّها غير متناسبة مع وضع الحركيّة الإسلامية وعلاقتها بالفضاء الخارجي المحلي والدولي. وقد جاء ذلك خاصة من طرف قيادات إسلامية طلّق أغلبها العمل الحركي بأسباب مواقف سياسية أو إشكالات تنظيمية، ثم تجذّر عندها هذا الخروج بمراجعات فكرية.
كل هذا الجدل القائم في الساحة الحركيّة الإسلاميّة لا يقاس بحجم ما يكتب فقط، بل بعمقه أيضا وبتأثيره النوعي على مستقبل المشروع الإسلامي الحركي |
ت- دراسات ذات طابع إستراتيجي قامت بها مراكز دراسات غربية وعربية في إطار متابعتها للتحولات في المنطقة. وبالنظر إلى أن الحركيّة الإسلامية باتت في السنوات الأخيرة العامل الأبرز والفاعل في مستقبل المجتمع العربي والإسلامي، فإن هذه المراكز قد ركزت الضوء عليها وتخصصت في تفكيكها وتحليلها كظاهرة سياسية اجتماعية دينية.
ث- استعراض تاريخ ومنجزات الحركيّة الإسلامية من طرف بعض رموزها تأصيلا لكيانها ومراكمة لحضورها من دون أن يستغني ذلك عن نفس يتراوح بين الهمسات النقدية أحيانا والإشارات التمجيدية أحيانا أخرى.
ج- مراجعات حركيّة تتجاوز مجرد الوقوف عند الأشكال والوسائل والمؤسسات والأحداث، لتحاول الوقوف عند المسلّمات الحركيّة النظرية خاصة، وتحاول أن تبحث عن أفق جديد للمشروع الإسلامي اعتقادا منها أن أسسه الإخوانية قد فقدت مشروعيتها وأنه لا بد أن تتصدى الحركيّة الإسلاميّة لمهام جديدة تتعلق بإعادة إنتاج المشروع الإسلامي والمضي به في اتجاه أن يعبر عن "التيار الأساسي في الأمة" بحسب مصطلح الدكتور طارق البشري.
وقد قام على هذا العمل بعض المفكرين والقيادات الإسلامية الذين لم يثبت التزام أغلبهم سابقا بالمشروع الحركي الإخواني.
ح- كل هذا الجدل القائم في الساحة الحركيّة الإسلاميّة لا يقاس بحجم ما يكتب فقط، بل بعمقه أيضا وبتأثيره النوعي على مستقبل المشروع الإسلامي الحركي.
فما أنجز حول الحركيّة الإسلاميّة كان في أغلبه رهين المجالات التاليّة:
– استعراض التاريخ السياسي والتنظيمي والفكري للحركيّة الإسلاميّة باعتبارها ظاهرة اجتماعيّة كغيرها من الظواهر التي تكتسح عالمنا الحديث.
– صياغة رؤية نقديّة خارجيّة لا تحترم غالبا النّسق الداخلي للحركيّة الإسلامية وتلامس تموقعها السياسي وبعض أسسها الفكرية والأصولية.
– استشراف مستقبل الحركيّة الإسلامية وممكنات تطوّرها بناء على رصد الإرهاصات الفكرية والسياسية التي تظهر في خطابها وسياساتها وممارستها.
عندما نقول الحركيّة الإسلامية فإننا نختزل تنوعا كبيرا قد نجد صعوبة جمة في تجاوزه، وهو تنوع عائد أوّلا للطبيعة والأهداف، ثمّ للظروف والبيئة الحاضنة للمشروع، وأخيرا لنوعية الثقافة السّائدة داخل الجماعة |
ولئن بان وكأنّ هذه المجالات مختلفة في تناولها للحركيّة الإسلاميّة، إلاّ أنها تتفق جميعها في تغليب البعد النقدي في تناولها الذي يصبح أكثر وضوحا وتبلورا كلّما وقفنا على أهداف هذه الدراسات وخلفياتها والظروف الحافة بإنجازها، وذلك ليس بغريب في أرضيّة معرفيّة تعلو فيها أصوات المعاول على سِماك البنيان.
هذا الواقع الغالب على الدراسات التي تناولت الحركيّة الإسلاميّة، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ واقعها الداخلي بقي محصنا أمام نوازع السؤال والاحتجاج والرفض الذي يتصاعد بين عدد كبير من كوادرها. إذ لا تكاد اليوم تجد جماعة إسلاميّة لا تعلو داخلها الأصوات منادية بالتغيير ومطالبة بالحوار الداخلي.
فهل ذلك مؤشّر قوة داخل الحركيّة الإسلاميّة أم علامة ترهّل وضعف؟
في الحقيقة عندما نقول الحركيّة الإسلامية فإننا نختزل تنوعا كبيرا قد نجد صعوبة جمة في تجاوزه، وهو تنوع عائد أوّلا للطبيعة والأهداف، ثمّ للظروف والبيئة الحاضنة للمشروع، وأخيرا لنوعية الثقافة السّائدة داخل الجماعة.
ومع ذلك فإن ما يسوّغ اليوم الحديث عن الحركيّة الإسلامية بالإجمال، فضلا عن وحدة المرجعية الإسلامية وتناغم أفكارها "الإحيائيّة" وتموقعها الممانع عموما في الساحة العربية والإسلاميّة، ما يعيشه هذا التيار من حراك داخلي عبرنا عنه "بالحوار الفكري السياسي" وهو ما يجعل من واقع مختلف هذه الجماعات واحدا.
فالحوار الفكري السياسي بالقدر الذي قد يترجَم في حالة تنظيمية داخل الحركيّة الإسلاميّة، ويلعب دورا رمزيا في وحدتها ويحول دون تفكّكها، ويكون تعبيرا عن نضجها لا سذاجة بدائلها، مع كل ذلك تكمن أهميّة هذا الحوار في أنّه يعكس وحدة التحدّيات التي تواجه الحركيّة الإسلاميّة المعاصرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.