تلاوين ثورة ناهزت القرن

تلاوين ثورة ناهزت القرن - الكاتب: توجان فيصل

undefined 

ما جرى من تجميد الملك عبد الله الثاني لقرار حكومة فايز الطراونة رفع أسعار مشتقات النفط الذي هو إجراء اضطراري له حتما ما بعده من إقالة الحكومة ومجلس النواب وسلسلة تفاعلات أخرى أغلبها ليس في وارد الحكم وتحليلات وتصورات مستشاريه الذين أوصلوه للحال الراهن. هذا الحدث الصغير لا يمكن فهم أهميته دون وضعه في إطار الصورة الكلية للأردن التي تغيب عن القارئ في ظل سخونة الوضع في سوريا, الشقيقة الكبرى المجاورة.

انطلاقة الربيع الأردني كانت بداية عام 2011 والبوعزيزي لا يزال في المستشفى ولم يشر أحد إلى أثر حادثة البوعزيزي في انطلاقها, ولكن جرت الإشارة إلى هذا الأثر لاحقا عند حرق مواطنين لأنفسهم, ولم يكترث النظام حتى عندما حرق رب أسرة نفسه أمام الديوان الملكي.

ثورة الربيع الأردني كانت في مواجهة صورة من توريث الحكم ليس لها سابقة في أي بلد عربي ملكي أو جمهوري

ولكن منذ البداية, كان الربط يجري بانتفاضة الشعب الأردني في أبريل/ نيسان عام 1989 التي أنتجت ترحيل حكومة زيد الرفاعي وعودة الحياة النيابية. والصلة وثيقة لكون الحكومة التي انطلق الربيع الأردني بطلب عزلها وعزل مجلس النواب المزور الذي أتت به, كانت حكومة سمير الرفاعي بن زيد الرفاعي وحفيد سمير الملقب بالأول بأثر رجعي.. أي أن ثورة الربيع الأردني كانت في مواجهة صورة من توريث الحكم ليس لها سابقة في أي بلد عربي ملكي أو جمهوري. 

وفي أقل من شهر تسنى للحراك عزل الحكومة, ولكن مجلس النواب أبقي لتزوير إرادة الشعب بقوننة ودسترة كل ما يريده النظام, ولتبرئة الفاسدين المتورطين في قضايا الفساد التي جرى فيها التفريط بأهم ثروات البلد وأصول الدولة. 

والتغييرفي الحكومات لم يأت بأكثر من واجهات ضعيفة لذات الفاسدين الكبار باستثناء حكومة الدكتور عون الخصاونة التي جيء بعدها برئيس حكومة كان الأضعف والأبعد عن أية معرفة بإدارة الدولة, ولهذا فهو الأكثر حماسة في تبني مطالب حلقة الفساد. وقد جرت تزكية فايز الطراونة للموقع من ذات الذين كانوا قد شرعوا في استغلال وجوده في واجهة الرئاسة في فترة نزاع الملك الراحل وتولي الأمير حسن موقع نائب الملك, بما أملى أن لا يأتي رجل قوي ثالث لترؤس الحكومة.

ولكن ما جرى أن الطراونة, تحت إلحاح الصحافة وحماسته هو لما صدّق أنه حل "خلاّق" لمشكلة البطالة, أعلن نيته إعادة خدمة العلم ولكن ليعمل المكلفون لدى القطاع الخاص وبالحد الأدنى للأجور وبحيث تدفع الدولة نصف ذلك الأجر!! وهو ما كشف انصياعه لرغبات المتنفذين الموغلين في الفساد الجامع بين القطاع العام والخاص, بما لا يقل عن قبوله (غير عارف بالتوصيف القانوني لقرار كهذا وتبعاته) فرض التشغيل الإلزامي المحرّم في دستورنا وفي مواثيق حقوق الإنسان ومواثيق العمل الدولية, على نخب شبابية عالية التأهيل في أغلبها, لصالح أولئك الفاسدين.

وهو ما استدعى أن أكتب مقالا يوضح فداحة هذا الذي يخطط للبلد ونشرته "القدس العربي" لتحاشي مصادرته محليا.. فجرى كف يد الطراونة عن هذا وغيره لحين إقالته. ومثل هذا يشكل نهاية أي سياسي, ولكن هذا بالذات هو ما أهّل الطراونة لرضى من زكّوه لدى الملك عبد الله الثاني. 

وبذات الحماسة بدأ الطراونة استعداء الشعب قولا وفعلا. وإذا كان القول غير الموفق له, فإن الأفعال التي تتضمن مجازفات خطرة أحيلت فورا إليه, وبذات الحماسة امتثل لها وقفز لرفع أسعار المشتقات النفطية, وفرض قانون يكمم أفواه الصحافة وقانون انتخاب يشمل كل ما هو مبغوض شعبيا: الصوت الواحد المدان بقسمة الشعب وتصغير قدر النيابة, وإعادة العمل بالبطاقة الانتخابية التي كانت باب التزوير الأوسع تاريخيا.. والأخير تأكدت نيته بمحاولة إذلال الشعب الرافض لمجريات الانتخاب كما هي مطروحة الآن, باشتراط غير دستوري (وغير قانوني في حكم ذات قانون الانتخاب السيئ) بالتسجيل كناخبين لدى الحكومة وكأن الدولة تقوم الآن لأول مرة بحكومة ونظام ولكن ليس بشعب ذي حقوق.

وأُعلن أن من لا يسجل نفسه ناخبًا "لا صوت له".. وهو ما يقرب من أخذ الحكومة "للمواطنة" وحقوقها رهينة كي تسوق الشعب إليها "قطينا"!!

الشعب قبل التحدي ورفض التسجيل, مما أوقع الحكومة في مستنقع إجراءات تسجيل قسري لموظفيها وأسر الجيش وكوادر الأمن, صاحبته إجراءات مثلومة أبرزها التصرف غير الشرعي بالبطاقات الانتخابية.

رفض الشعب الأردني التسجيل في قوائم الناخبين, مما أوقع الحكومة في مستنقع إجراءات تسجيل قسري لموظفيها وأسر الجيش وكوادر الأمن

ومع ذلك لم يزد الرقم المزعوم للتسجيل على ثلث الناخبين المؤهلين دستوريا. وبالمقابل لم يسكت الشعب عن تحديه برفع أسعار المشتقات النفطية الذي اعتبره إجراء جباية لا أكثر ترافق مع أطول قائمة تعيينات توريثية في مواقع قرار وأبواب فساد برواتب خيالية, حُصرت في أبناء وبنات وأقرباء وأنسباء الرئيس وحفنة من المتنفذين الفاسدين مما أشّر على من تتم لصالحهم تلك الجباية.

هذه الإجراءات أججت الحراك الشعبي في أيام بدرجة لم تكن لتتحقق في أشهر لولا أن هذه الحكومة اندفعت هكذا لاكتساح مساحة "يخشى الشجاع أن يطأها بقدمه".. ومع ما نقل عن وقوف الحكومة منذهلة من تجميدها هي  وقرارها تمهيدا لعزلها, فإن هذا لم يثن مجلس نواب من نوعها ومجلس أعيان لا يختلف عنه بدليل قدوم الرئيس منه وانتقال مزوري الانتخابات السابقة إليه, عن إقرار مستعجل لقانون يهدف لتكميم أفواه المواقع الإلكترونية, بظن هؤلاء أن ذلك ممكن في عصرنا هذا!! 

درجة تأجيج الشارع تمثلت في أمرين لهما دلالة خاصة في الأدرن: الأول, أن جزءا من الطبقة الشعبية المسحوقة وهم سائقو التكاسي, تحركوا فجأة كما لو أنهم حزب سياسي منظم, ليقوموا باعتصام ضخم احتجاجا على رفع سعر البنزين, فأغلقوا الشارع الذي فيه مبنى وزراة النقل بسياراتهم وتوجهوا على الأقدام إلى مبنى الوزارة ومنها إلى الاعتصام على الدوار الرابع حيث مقرالحكومة.. كما هدّد سائقو التكاسي في مدينة الزرقاء بالتوجه في اليوم التالي نحو عمان لإغلاق الأوتوستراد الذي يصل المدينتين والأكثر ازدحاما بحركة السير في المملكة.

وهو ما أطلق عليه ناشطو مواقع الاتصال الإلكترونية اسم "الثورة الصفراء" وأطلقوا "هتش تاج" بالتسمية على "تويتر". والأهم أن هذا ذكّر بانتفاضة أبريل/نيسان عام 89 من القرن الماضي, التي بدأها سائقو السيارات والحافلات العمومية في معان والطفيلة والكرك إثر رفع حكومة زيد الرفاعي أسعار المشتقات النفطية, وهي الانتفاضة التي أسقطت حكومة الرفاعي وفرضت انتخابات نيابية.

وحقيقة أن تلك الانتخابات لم تنج من التزوير المتصاعد حد الاكتساح, وقد راكمت غضبا دفينا جاءت انتفاضة الربيع الأردني على خلفيته, ولكنها لم تكن قد فتحت كامل مخزونه بعد.

والسبب في أن ذلك المخزون الجاهز للاشتعال لم يفتح لحين هبة سائقي التكاسي العفوية تلك, أن السمة التي غلبت على انتفاضة الربيع الأردني لحينه كانت "عشائرية" لكونها تركزت في المحافظات حيث التهميش والإفقار على يد طبقة الحكم الساكنة غرب عمان, وحيث قضى "تسليع" الأرض المستملكة والمصادرة من أصحابها في بورصة العقارات على جزء كبير من النشاط الزراعي.. ولكن أيضا حيث حماية العشيرة لأبنائها من عسف القبضة الأمنية.

ومن هنا جاءت شعارات مسيرات واعتصامات المحافظات أعلى منها في المدن الرئيسة, لتليها مؤخرا شعارات مدينة إربد في الشمال بفعل مجاورة سوريا وسقوط النظام في ازدواجية دعم الحراك السوري وحتى "حماية" قواه الأمنية -بمن فيهم الجيش ذاته- للاجئين السوريين، وهو ما يتناقض مع القمع الأمني الجاري للحراك الأردني. 

ولكن انتقال سقف الشعارات المرتفع إلى ما يطال رأس النظام لم يصل إلى عمان العاصمة إلا حين جرى رفع أسعار الطاقة وتوريث جماعي لأبناء وأقارب وأنسباء المتنفذين لمواقع حساسة, تجاوزت كونها جميعا تفتح على المال العام باقترابها الشديد من أكثر الأموال "الخاصة" حساسية, وهي أموال الضمان الاجتماعي.

رفع سقف شعارات الحراك في عمان ترافق مع تأشير أوضح على رموز الفساد بإجراء يشبه الشروع في محاكمتهم وإدانتهم شعبيا, بما يعكس اليأس من كل الجهات المفترض فيها محاسبة الفاسدين.

وتمثلت هذه المحاكمة والإدانة الشعبية للمسؤولين المتهمين بفساد ضخم بسلسلة اعتصامات أمام بيوتهم (قصورهم), جرى في ثاني اعتصام منها ضرب أعداد كبيرة من البلطجية لحفنة من المعتصمين بعنف أرفق بشتائم وإهانات للمعتصمين مقابل تمجيد على طريقة الرؤساء المخلوعين, لذلك المتنفذ المفترض أنه نائب "منتخب". 

وهذا التعدي المعنوي والجسدي الذي لم يجر القبول به حين جرى باسم الملك ذاته فأدى لتوسيع الشرخ بين العشائر والعرش, كان محتما أن يؤدي إلى وقوف عشائر المعتدى عليهم مع أبنائهم ضد ذلك المتنفذ وبلطجيته. وهو ما دفع للواجهة أمرا كان قد تكرر في بدايات الحراك ولم يجر التوقف عنده ومعالجته, وهو خروج هتافات محدودة جدا في بعض المحافظات تدعم أبناء عشائر متنفذين متهمين بفساد كبير حين رفع الحراك أسماءهم مطالبا بمحاسبتهم.

ومنذ بداية أغلب هذا التخفي وراء العشيرة (التي من صلب عاداتها أنها تحضر ابنها المذنب زاحفا على ركبتيه لبيت صاحب الحق, بخاصة إن كان ذنبه مخلا بالشرف, و"عقاله في رقبته" بما يرمز لرفع الحماية عنه) لم تقبل به المحافظات موطن العشيرة والمنطلق الرئيس للحراك, فأصبح المتنفذون يأتون بأتباعهم ليعتصموا أمام  قصورهم في عمان بزعم دعم العشيرة لهم.

الاحتجاج بزعم "حرمة بيوت" المتنفذين غير ذي مصداقية, بخاصة أن بيوت المعارضة الشريفة بلا حرمة تاريخيا وتداهم أمنيا بصور تخرق الدستور والقوانين والأعراف المحلية

وهذا ما أوحى باعتصام الحراك من كل العشائر أمام تلك القصور بما يجعل الاحتجاج بزعم "حرمة بيوت" هؤلاء غير ذي مصداقية.. بخاصة أن بيوت المعارضة الشريفة بلا حرمة تاريخيا وتداهم أمنيا بصور تخرق الدستور والقوانين والأعراف المحلية وكل مواثيق حقوق الإنسان.

زعم دعم العشيرة لأحد أبنائها حتى في فساده في مواجهة شعب بكل مكوناته من عشائر وغيرها, تحدى مطالب الحراك الذي لا تقل عن "الدولة" التي أمرها بيد شعبها, وهو مطلب العشائر الأردنية منذ عقدهم "مؤتمر أم قيس" التاريخي بعد معركة ميسلون عام 1920, بكل مواصفات الدولة الحديثة التي جسدها لهم "دستور دمشق" عند اطلاعهم عليه قبل أشهر فقط في "المؤتمر السوري العام" بدمشق. وبعدها ظل الأردنيون يطالبون بتلك الدولة وذلك الدستور في كافة مؤتمراتهم، بل وثوراتهم التي قادتها العشائر وقمعت بالاستعانة بالقوات البريطانية بداية, ثم بقوات الأمن والجيش المدعومة بقوات خارجية عند اللزوم. 

هذا هو مشروع العشائر الذي أعيد إحياؤه في انتفاضة الربيع الأردني, وهو ذات مشروع النخب  السياسية من كافة الأصول والمنابت, ومشروع الحراكات الشبابية. وهو مشروع يلتقي, كحل أوحد, مع مطالب قوى غير مسيسة -كسائقي التكاسي الذين يتحاشون وقوع نظر شرطي سير عليهم كي لا يعيق تحصيلهم لرزقهم- بدأت تلقي بثقلها البشري الهائل وراء الحراك, وواجهت رؤساء حكومات ورأس الدولة وليس فقط شرطي مرورها. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.