من أجل مشروع عربي حديث
الهوية العربية
ضد الاستبداد والهيمنة
الرؤية الاقتصادية والاجتماعية
تيار رئيسي وتيارات سياسية
يمر العالم العربي بمرحلة تحول بالغة الحساسية والخطورة، فالمنظومة الرسمية القديمة تنهار فاتحة الباب على مصراعيه لكل أنواع الأسئلة والنقاشات فيما يخص مستقبل المنطقة بعد أن كان هذا النوع من النقاش مغيباً بفعل انسداد الأفق الذي أنتجه الاستبداد السياسي، ومن السهل ملاحظة فشل الأنظمة العربية المنهارة في إنتاج مشروع سياسي واقتصادي حقيقي، ما جعل المنطقة ساحة للصراع بين مشاريع الآخرين.
في هذا الوقت من المهم والمفيد طرح أفكار للنقاش حول مشروع عربي جديد ينهض بالأمة بعد ما صنعته الأنظمة الاستبدادية من تخلف وانحطاط على كل المستويات، وتبدو كل المواضيع مطروحة في حالة الولادة الجديدة هذه، فالثورات التي حصلت في العالم العربي أمام التحدي، فإما أن تنجح في إيجاد تحول حقيقي، وإما أن تفشل فتعيد إنتاج المنظومة القديمة أو صورها الرئيسية على الأقل.
يحتاج طرح مشروع جديد إلى إعادة النظر وتقييم ما حدث خلال العقود السابقة أولاً، وهذا لا يختص بالأنظمة الرسمية وحدها، بل إن المراجعة ضرورية أكثر للتيارات الفكرية والسياسية العربية لتقدم خطاباً يتناسب مع تحديات المرحلة، كذلك لا يمكن طرح مشروع جديد في مقال أو اثنين، بل هو بحاجة إلى تنظير معمق وتفصيلي، وإلى مزيد من النقاش والدراسة.
هنا نطرح مبادئ يمكن أن يرتكز عليها مشروع عربي حديث في عصر ما بعد الثورات العربية، وهي مبادئ تحتاج لمزيد من النقاش والتفصيل، كما أنها بحاجة لتحويلها إلى برامج عمل سياسية، إذ إنها كمبادئ عامة لا تجيب على الأسئلة التفصيلية في الحالات العربية المختلفة.
لم تنجح الأنظمة العربية في إيجاد هوية جامعة لمواطنيها، وما يشاهد اليوم من انقسامات حادة داخل المجتمعات العربية هو نتاج لغياب الهوية الجامعة لكل المواطنين |
الهوية العربية
لم تنجح الأنظمة العربية في إيجاد هوية جامعة لمواطنيها، وما يشاهد اليوم من انقسامات حادة داخل المجتمعات العربية هو نتاج لغياب الهوية الجامعة لكل المواطنين، وحتى الأنظمة التي رفعت شعارات القومية العربية لم تتمكن من صهر المكونات الاجتماعية في هوية وطنية جامعة.
فالأنظمة البعثية في العراق وسوريا لم تتجاوز استخدام العروبة كشعار، ولم تترجمه عملياً عبر التعاطي مع مواطنيها كعرب لا كطوائف وعشائر، كذلك لم ينجح النظام في ليبيا في إنتاج هوية جامعة رغم تشدقه لفترات بشعار العروبة، فقد أعلى المنطق القبلي في تعاطيه مع مواطنيه على كل اعتبار آخر، وفي المحصلة لم تنجح هذه الأنظمة إلا في العمل على انفجار الهويات الفرعية في المجتمعات العربية وتسيدها الفضاء السياسي.
تحولت الدولة في العالم العربي إلى مزارع عائلية، ولم تكن العلاقة بين الأنظمة والمواطنين مبنية على مواطنة تعاقدية تحفظ الحقوق، وبات الطريق مهيئاً لتسييس الانتماء المذهبي وتحول الطائفة الدينية إلى جماعة سياسية فاعلة تحفظ حقوق رعاياها في مواجهة الدولة كما في مواجهة الجماعات الأخرى، وهكذا نهشت الطائفية السياسية والجماعات الأهلية الأولية (مكونات ما قبل الدولة) ما تبقى من فكرة الدولة وهيبتها.
المشكلة في الدولة القطرية في العالم العربي أنها لم تصنع هوية وطنية خاصة بها تجمع مواطنيها، ولا قدمت نفسها كجزء من أمة عربية لم تتمكن من إقامة دولة الأمة على غرار الأمم الأخرى، وهو ما أفرز حالة من التشظي في المجتمعات العربية ترجمته الطائفية السياسية، لذلك يبقى السؤال حول هوية الدولة العربية الجديدة في عصر ما بعد الثورات العربية ملحاً ورئيسياً، وتبقى العروبة كهوية الإجابة الأقرب والأكثر قبولاً على هذا السؤال الكبير.
لا نتحدث عن العروبة هنا بوصفها رابطة دم أو عرق، بل هي هوية ثقافية تجمع أفراداً ينتمون إلى لغة وثقافة وتاريخ مشترك داخل رقعة جغرافية ممتدة من المحيط إلى الخليج، وهكذا فإن هذه الهوية العربية تجمع المواطنين في هذه المنطقة ضمن جماعة كبرى هي الأمة العربية، وتربطهم ببعضهم البعض من خلال عروبة اللسان والثقافة وأيضاً من خلال القضايا والتحديات المشتركة والمشاريع المعبرة عن مجمل مصالح هذه الأمة.
لا يمكن تصور تعبير عن إرادة الأمة ومصالحها من خلال نخبة صغيرة تستفرد بالسلطة أو عبر تسليم القرار بالكامل للقائد الضرورة |
الدولة القطرية في العالم العربي تستطيع تجاوز الإشكال الطائفي وانفجار الهويات الفرعية باعتماد العروبة كهوية للدولة، والتسليم بكون هذه الدولة القطرية جزءاً من الأمة العربية، ولا يكون هذا عبر ترديد شعارات فارغة من المضمون العملي، بل عبر التعاطي مع المواطنين بوصفهم عرباً، وتحقيق المواطنة المتساوية كواقع معيش، وترسيخ العروبة كهوية في التعليم والإعلام، وحفظ الحقوق الاجتماعية والثقافية للأقليات غير العربية والتعاطي معهم من منطلق المواطنة، وبناء الإستراتيجيات الداخلية والخارجية على أساس المصالح العربية.
الهوية العربية هي المخرج من الاحتقان الطائفي والتعبير عن الذات بالهوية المذهبية في الفضاء السياسي، والمشروع العربي هو القادر على جمع الجماهير حوله، لأنه يعبر عن مجمل مصالح الأمة، لا عن مصالح طائفة منها (كما هو الحال مع المشروع السني أو الشيعي مثلاً)، وهو بالتالي الأقدر على مواجهة حالة التفتيت التي تنتجها مشاريع الطوائف.
ضد الاستبداد والهيمنة
لا يمكن تصور تعبير عن إرادة الأمة ومصالحها من خلال نخبة صغيرة تستفرد بالسلطة أو عبر تسليم القرار بالكامل للقائد الضرورة، فقد انتهى هذا كله مع الثورات العربية، وبات من الضروري القول إن مقاومة الاستبداد جزء أصيل من أي مشروع عربي حديث، وإن الديمقراطية هي البديل الممكن للاستبداد في وقتنا الحالي، وإنه لا يمكن فرض خيارات أيديولوجية من أي نوع على الأمة، لأن ما أنتجه الفرض والإكراه الأيديولوجي طوال العقود الماضية كان كارثياً بمعنى الكلمة.
وبالتالي لا مناص من جعل هذه الخيارات كلها متاحة ضمن حالة التعددية والتنافس السياسي، وتسليم قرار الاختيار من بينها للشعب ضمن عملية تداول للسلطة يحدد الناس فيها خيارهم في مرحلة زمنية معينة ثم يعدلونه أو يبقونه لاحقاً.
ليست المسألة الديمقراطية مطروحة في المشروع العربي الحديث كآليات مفرغة من مضامينها ومبادئها، فلا يمكن حصر الديمقراطية في صناديق الاقتراع، ولا يمكن تخيل ديمقراطية دون حرية عمل مدني وسياسي، وحريات تعبير واعتقاد، وحريات الممارسة الدينية، وحقوق الإنسان الأساسية كما جاءت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا بد من توضيح فكرة الديمقراطية باعتبارها حكم أكثرية سياسية (لا دينية أو عرقية) بموجب مبادئ الديمقراطية وليس بموجب أي أمر آخر.
مفاهيم الديمقراطية والمواطنة المتساوية وسيادة القانون لا بد أن تناقش بعمق في هذه المرحلة من تاريخ الأمة، ولا بد لكل التيارات الفكرية والسياسية (وليست التيارات الدينية وحدها المطالبة بهذا الأمر) أن تحدد موقفها من كل القضايا التي تتعلق بالممارسة الديمقراطية كونها أصبحت الحالة المطلوبة عربياً بعد الربيع العربي.
لكن الديمقراطية وحدها لا تكفي لتحقيق سيادة الأمة، إذ إن الحديث عن الديمقراطية وحدها قد يقود إلى منطق النيوليبراليين العرب المتصالحين مع الاستعمار باسم الديمقراطية، والذين يعبر بعضهم عن الإعجاب الشديد بالنموذج الإسرائيلي.
مقاومة الهيمنة الغربية ومواجهة إسرائيل هي قضايا مرتبطة بمصلحة الأمة وتحقيق سيادتها، وهي تعمل على توحيد الأمة حولها في مقابل دعوات قلب أولويات العداء التي تعمل على إيجاد صراع بيني داخل المجتمعات العربية |
لا يمكن تصور سيادة الأمة مع الاستعمار بأشكاله المختلفة، المباشر منها عبر الاحتلال (وإسرائيل نموذجه الأبرز في المنطقة) وغير المباشر عبر الوصاية السياسية والاقتصادية (وهو الشكل الأبرز في غالب الدول العربية والتي لا تتمتع باستقلال القرار)، لذلك لا يمكن تحقيق سيادة الأمة بشكلها الكامل دون مقاومة الهيمنة الغربية والتخلص من الوصاية الغربية على القرار السياسي والاقتصادي لدولنا.
مقاومة الهيمنة الغربية ومواجهة إسرائيل هي قضايا مرتبطة بمصلحة الأمة وتحقيق سيادتها، وهي تعمل على توحيد الأمة حولها في مقابل دعوات قلب أولويات العداء التي تعمل على إيجاد صراع بيني داخل المجتمعات العربية يستفيد منه الأعداء الحقيقيون للأمة، ومن هنا يصبح التذكير بفلسطين كجامع مشترك عنواناً ضرورياً من عناوين العروبة.
مقاومة الاستبداد والهيمنة الغربية (وكل هيمنة أخرى) تعطي معنى جديداً أكثر شمولية لفكرة التحرر الوطني، فالتحرر لا يكتمل بدون التخلص من معيقات حرية الجماعة وحرية أفرادها، ولا معنى للتحرر إن ظل قرار الأمة مرتهناً بيد مستبد أرعن أو مستعمر طامع، وبالتالي لا بد للمشروع العربي الحديث أن يحارب الاستبداد والاستعمار معاً لتحقيق نهوض وتكامل عربيين، ولا يسمح بطرح مقابلة بين مقاومة الاستبداد والاستعمار، فهما يكملان بعضهما على طريق التحرر الوطني ولا ينفصلان.
الرؤية الاقتصادية والاجتماعية
لا يستطيع أي مشروع عربي حديث تجاهل ما أحدثته السياسات الاقتصادية للأنظمة العربية المتهالكة من فوارق طبقية هائلة بين أفراد المجتمعات العربية، ومن الطبيعي أن تكون العدالة الاجتماعية والسعي لتقليص الفوارق الطبقية بين الناس ومحاربة الفساد مبادئ رئيسية في أي رؤية اقتصادية تتطلع لتصحيح المسار عربياً.
كذلك من المهم التشديد على بناء اقتصاد إنتاجي يقيم صناعة وطنية كبديل للنموذج الاستهلاكي الذي قدمته الأنظمة العربية طوال العقود الماضية، وهذا الأمر مهم جداً لتحقيق استقلال اقتصادي ينتج استقلالاً سياسياً. الحديث هنا عن مبادئ عامة، لكنها بحاجة إلى ترجمة متمثلة في برامج عمل اقتصادي تفصيلية لتحقيق الأهداف الرئيسية.
في الجانب الاجتماعي تمثل الحريات الشخصية وقضايا المرأة مسألة مهمة في السجال الاجتماعي العربي، وكل من يحمل فكراً تقدمياً يرفض بالتأكيد إكراه الناس على مظاهر التدين كجزء من الانحياز للحريات، ويحترم المرأة وحقها في ممارسة الأنشطة الحياتية دون وصاية ذكورية، ويعمل على مواجهة ثقافية اجتماعية للفكر الرجعي سواءً انطلق من عناوين دينية أو عناوين تراثية.
باعتماد الهوية العربية ومقاومة الاستبداد والإيمان بالديمقراطية ومواجهة الهيمنة الغربية والسعي لاستقلال القرار السياسي والاقتصادي وصولاً لتحقيق التكامل العربي بكل الدرجات والمستويات |
الحديث في القضايا الاجتماعية يتخذ أشكالاً أكثر إغراقاً في التفاصيل، لكن الكلام العام هنا مهم لإيجاد أرضية يمكن الانطلاق منها لاحقاً لنقاش هذه القضايا تفصيلياً.
تيار رئيسي وتيارات سياسية
باعتماد الهوية العربية ومقاومة الاستبداد والإيمان بالديمقراطية ومواجهة الهيمنة الغربية والسعي لاستقلال القرار السياسي والاقتصادي وصولاً لتحقيق التكامل العربي بكل الدرجات والمستويات الممكنة يمكن تقديم تيار رئيسي في الأمة ينطلق من هذه المبادئ ويؤكد عليها كقاعدة عمل أساسية.
وهذا التيار وإن كان يضم أحزاباً وأفراداً يختلفون في الخلفيات الأيديولوجية والبرامج السياسية فإنهم يتفقون على هذا المعنى للعروبة كأساس لمشروع نهضوي عربي، ولا يفرطون بالمبادئ الرئيسية من أجل تحقيق مصالح آنية.
تتفرع من هذا التيار الرئيسي تيارات سياسية قد تختلف قليلاً أو كثيراً في البرنامج الاقتصادي والرؤية الاجتماعية، وتنظم اختلافها عبر التنافس السياسي ضمن العملية الديمقراطية، لكنها تعود لتتمسك بمبادئ أساسية تتفق عليها وتنضوي تحت لواء العروبة كحاضنة ثقافية ومعبر عن الانتماء والهوية.
إن التنظير لمشروع عربي حديث أمر ضروري في واقعنا الحالي، والحاجة ماسة له في مواجهة أسئلة من نوع من نحن؟ وكيف ننهض؟ وما العمل؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.