الانقلابيون الجدد ومستقبل الثورة المصرية

الانقلابيون الجدد ومستقبل الثورة المصرية الكاتب: حمدي عبد الرحمن

undefined

نمط الانقلاب التقليدي
نمط الانقلاب الذاتي
الانقلاب ما بعد الحداثي
سيناريوهات المستقبل

لقد بات سؤال الانقلاب العسكري مهيمنا على خطاب التحول الديمقراطي في مصر منذ الإطاحة بنظام الرئيس مبارك في فبراير/شباط 2011، وذلك بالنظر لتسليم السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة على غير ما تسمح به النصوص والتقاليد الدستورية المرعية. على أن قرار المحكمة الدستورية العليا حل مجلس الشعب المنتخب يوم 14 يونيو/حزيران 2012، أي قبيْل إجراء الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، يعد من وجهة نظر الكثيرين انقلابا ناعما أو حتى بطيئا.

واكتملت معالم الصورة الانقلابية في المشهد المصري مساء يوم 17 يونيو/حزيران 2012 حينما أصدر العسكر -على عجل، وفي غياب المشورة السياسية- الإعلان الدستوري المكمل الذي ينتقص من صلاحيات رئيس الجمهورية بدرجة كبيرة. فالرئيس ليس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولا يستطيع مراقبة ميزانية الجيش أو التدخل في شؤونه، ناهيك عن عدم قدرته على إعلان قرار الحرب دون موافقة الجيش. وربما يطرح ذلك إشكالية مفاهيمية ونظرية تقتضي إعادة النظر في تفسير معنى وماهية الانقلاب العسكري، والتغيير غير الدستوري الذي يحدث في أنظمة الحكم المختلفة في العالم.

واللافت للانتباه أن شهر يونيو/حزيران من العام الحالي قد شهد ظهور أشكال جديدة من الظاهرة الانقلابية في دول الجنوب. ففي باكستان قضت المحكمة العليا بعزل رئيس الوزراء يوسف رضا جيلاني من وظيفته، بعد رفضه فتح تحقيق بحق الرئيس آصف علي زرداري بتهمة الفساد، وهي الخطوة التي أطلق عليها بعض الكتاب اسم "الانقلاب القضائي". وعلى صعيد آخر، فإن قيام برلمان باراغواي بمحاكمة الرئيس فرناندو لوجو على عجل بتهمة التقصير في أداء مهامه وإقالته من منصبه يعد هو الآخر "انقلابا برلمانيا".

إن ما حدث في كل من مصر وباكستان وباراغواي -وهي تمثل القارات الثلاث الآخذة في النمو- أثار جدلا واسعا حول مشروعية استخدام كلمة انقلاب لوصف التطورات الدرامية التي حدثت في هذه البلدان. صحيح أنه لم يعد التغيير من خلال الأشكال التقليدية لتدخل العسكريين في الحياه السياسية أمرا مقبولا، ولكن ذلك لا يمنع من مناقشة الأشكال الحديثة للمسألة الانقلابية.

الشكل التقليدي للانقلابات العسكرية لا يزال مؤثرا في عمليات التحول السياسي والاجتماعي في القارة الأفريقية وبعض مناطق عالم الجنوب الأخرى

نمط الانقلاب التقليدي
يمكن القول إن الشكل التقليدي للانقلابات العسكرية لا يزال مؤثرا في عمليات التحول السياسي والاجتماعي في القارة الأفريقية وبعض مناطق عالم الجنوب الأخرى. وتؤكد الأحداث التي شهدتها دول مثل توغو وأفريقيا الوسطى والنيجر ومالي وموريتانيا على عودة الانقلابات العسكرية بالشكل الذي اعتاد عليه الأفارقة في فترة ما بعد الاستقلال.

وفي العادة تقوم بالانقلابات العسكرية مجموعة من صغار الضباط الطامحين إلى الاستيلاء على السلطة، حيث إنهم كانوا يتبنون في غالب الأحوال شعارات ثورية وراديكالية. بيد أنه للأسف الشديد كانت هذه الانقلابات أبعد ما تكون عن الثورية، وهو ما مثل انتكاسة كبرى في طريق النهضة والتنمية في هذه المجتمعات.

وخلال فترة ما بعد الحرب الباردة وضغوط التحول الديمقراطي في أعوام التسعينيات من القرن الماضي، تراجعت حدة المد الانقلابي في دول الجنوب بشكل ملحوظ. ومع ذلك فإن الظاهرة لم تختف تماما كما شاهدنا في بعض الدول الأفريقية، وهو ما دفع المنظمات الدولية والإقليمية، وكذلك الدول المانحة إلى عدم التسامح مع التغيرات غير الدستورية في أنظمة الحكم المختلفة، حيث تقف لمثل هذه المحاولات بالمرصاد من خلال فرض عقوبات صارمة على النظم الانقلابية.

نمط الانقلاب الذاتي
 قد تبدو فكرة الانقلاب على الذات self-coup غريبة لأول وهلة!، فما الذي يدفع برئيس منتخب  إلى تقويض الأسس الدستورية التي يعتمد عليها في ممارسة حكمه؟ إن هذه الظاهرة الانقلابية ليست نادرة الحدوث على الإطلاق. فثمة أمثلة تاريخية لعل من أبرزها انقلاب رئيس الجمهورية الفرنسية لويس نابليون بونابرت عام 1851، حينما أعلن نفسه إمبراطورا، ليصبح اسمه نابليون الثالث.

وخلال عقديْ العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي كان الانقلاب الذاتي هو الطريق الأمثل للحكام المستبدين في أوروبا للهيمنة على السلطة، كما حدث على يد جوزيف بيسودسكي في بولندا، وبينيتو موسوليني في إيطاليا، وبطبيعة الحال أدولف هتلر في ألمانيا.

معنى ذلك أن الحالة المثالية لهذا الانقلاب تتحقق عندما تقوم الحكومات المدنية المنتخبة بالانقلاب على نفسها، والتخلص من مؤسسات الدولة بغية الاستئثار بالسلطة. ففي 5 أبريل/نيسان 1992 قام الرئيس ألبيرتو فوجيموري بحل البرلمان في بيرو، وإعادة تنظيم السلطة القضائية من خلال الاستعانة بالجيش واعتقال زعماء المعارضة السياسية.

وهناك من يرى أن الدولة العميقة في باكستان -التي تمثلها شبكات من العسكريين ورجال الأمن والاستخبارات وأصحاب الأعمال- تقوم بعملية انقلاب ذاتي بشكل بطيء وهادئ. وفي أغسطس/آب 2009 قام الرئيس ممادو تانغا في النيجر بإقرار دستور جديد يسمح له بالاستمرار في السلطة لمدة ثلاث سنوات إضافية، ويعزز صلاحياته بشكل كبير، وهو ما أدى إلى أزمة سياسية حادة. وقد دفع ذلك ببعض ضباط الجيش إلى الاستيلاء على السلطة والإطاحة بنظام الرئيس تانغا من خلال انقلاب عسكري كلاسيكي مضاد في يناير/كانون ثاني 2010.

الانقلاب ما بعد الحداثي 
 يطرح ستيفن كوك Steven Cook المتخصص في الشؤون المصرية مقارنة بين النموذجين التركي في عام 1997 والمصري في عام 2012، حيث عمل الجيش المصري جاهدا على تقويض صلاحيات الرئيس محمد مرسي قبل إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية المصرية ببضعة أيام. وطبقا للخبرة التركية، فقد عمل جنرالات الجيش يوم 28 فبراير/شباط 1997 إلى استخدام كافة الضغوط والتهديدات من وراء ستار من أجل إسقاط حكومة نجم الدين أربكان.

الضغوط الشعبية المتزايدة منذ ثورة 25 يناير، إضافة إلى القوة التنظيمية الفاعلة التي تتمتع بها جماعة الإخوان المسلمين، سوف تجعل الأمور أكثر صعوبة بالنسبة لجنرالات الجيش المصري في سيطرتهم على التطورات السياسية

ولعل السمات البارزة للانقلاب ما بعد الحداثي Post Modern -كما يوضحها بحق إبراهيم غانم في مقارنته المتميزة للخبرتين المصرية والتركية في التطور السياسي- تتمثل في ثلاثة أبعاد رئيسية:

أولها: عدم استخدام القوة العسكرية بشكل مباشر، كما كان يحدث في الظاهرة الانقلابية الكلاسيكية.

وثانيا: الاستفادة من شبكات ومؤسسات الدولة العميقة وطبيعة العلاقات المدنية العسكرية السائدة.
وعادة ما نجد أن العسكريين يحققون أهدافهم من خلال حلفائهم المدنيين، لاسيما تلك النخب الرسمية المعادية لتيار الإسلام السياسي.

وثالثا: العمل على تقسيم وتشرذم القوى السياسية المدنية من خلال عمليات التفكيك والتركيب في التحالفات القائمة، وتلك عملية أشبه ما تكون بعمليات التفكيك في نص الخطاب ما بعد الحداثي.

وتذكر روايات أن رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر المشير محمد حسين طنطاوي طلب نسخة من الدستور التركي لعام 1982، الذي يعطي المؤسسة التركية العسكرية سلطات رقابة واسعة على مؤسسات الدولة الأخرى. ولعل تصريحات كبار القادة العسكريين في مصر، بل وظهورهم الإعلامي اللافت للانتباه، تؤكد محورية دور العسكر في صياغة المرحلة الانتقالية في مصر بعد رحيل نظام حسني مبارك.

ومع ذلك، فإن الانقلاب ما بعد الحداثي يثبت في حقيقته مدى هشاشة وضعف النظام السياسي الذي يهيمن عليه العسكر. فالجيش التركي كان عليه التدخل دوما في السياسة للحفاظ على التوجهات السياسية التي يريدها. غير أن تكرار النموذج التركي في الحالة المصرية، وبنفس الصيغة، يعد أمرا صعب المنال.

فالضغوط الشعبية المتزايدة منذ ثورة 25 يناير، إضافة إلى القوة التنظيمية الفاعلة التي تتمتع بها جماعة الإخوان المسلمين، سوف تجعل الأمور أكثر صعوبة بالنسبة لجنرالات الجيش المصري، وهو ما يؤثر سلبا على سيطرتهم على التطورات السياسية.

سيناريوهات المستقبل
لا شك أن تولي محمد مرسي رئاسة الجمهورية الثانية في مصر -باعتباره أول رئيس مدني منتخب بإرادة شعبية حقيقية- يمثل لحظة فارقة في تطور الدولة المصرية ومشروعها الحداثي منذ عهد محمد علي باشا. ورغم ذلك فإن إشكالية العلاقة بين حكومة مرسي المدنية وبين المؤسسة العسكرية سوف تشكل طبيعة المرحلة القادمة للنظام السياسي المصري بعد ثورة 25 يناير.

ونستطيع الإشارة إلى سيناريوهين أساسيين:
السيناريو الأول: وهو يشير إلى عظم التحديات التي تواجه الرئيس محمد مرسي، في ظل ثورة التطلعات المتزايدة للشعب المصري في مرحلة ما بعد الثورة، في نفس الوقت الذي يعاني فيه الرئيس المنتخب من نقص صلاحياته وسلطاته، وذلك لحساب الجيش المصري.

تولي مرسي رئاسة الجمهورية الثانية في مصر -باعتباره أول رئيس مدني منتخب- يمثل لحظة فارقة في تطور الدولة المصرية ومشروعها الحداثي منذ عهد محمد علي باشا

ولعل ذلك يدفع إلى الفشل وعدم النجاح لا محالة. ولتجنب ذلك المصير يستطيع الرئيس الاحتماء بشرعيته الثورية، وأن يناضل من أجل إلغاء الإعلان الدستوري المكمل وإعادة النظر في قرار حل البرلمان المصري. بيد أن مكمن الخطورة في هذا السيناريو أنه يؤدي إلى التصادم مع العسكر، وهو ما يعني عدم استقرار الأوضاع السياسية في مصر خلال الفترة القادمة.

أما السيناريو الثاني فإنه يتمثل في عقد الصفقات السياسية بين الرئيس وجماعة الإخوان المسلمين من جهة، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة من جهة أخرى. على أن هذه التسوية وإن ضمنت الأمن والاستقرار فإنها سوف تعبر عن انتهازية سياسية وتضر بطموحات وتطلعات القوى الثورية في مصر.

ولعل ذلك يجعل مصير الثورة المصرية في أيدي مؤسستين التحقتا بقطار الثورة لأهداف وغايات محددة. فالمؤسسة العسكرية كانت ترفض مشروع توريث الحكم، ولكنها ترغب في المحافظة على أركان النظام السياسي الحاكم، أي استمرار "المباركية" بدون مبارك. أما جماعة الإخوان المسلمين -التي أثارت الجدل حولها طوال المرحلة الانتقالية بسبب برغماتيتها السياسية وميلها لعقد الصفقات السياسية- فإنها محل شك وريبة من قبل القوى الثورية المصرية.

واستناداً إلى تلك التطورات التي شهدتها الساحة المصرية منذ رحيل مبارك، فإن الثورة لم تبلغ منتهاها بعد، وهي لا تزال مستمرة. وسوف يظل ميدان التحرير بمثابة القوة السياسية الضاغطة التي تؤثر على مسار التطورات السياسية في مصر خلال المرحلة القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.