ماذا حدث للمصريين؟

ماذا حدث للمصريين؟ - الكاتب: حمدي عبد الرحمن

undefined

الثورة والدولة العميقة
أزمة القيادة الثورية
الحاجة إلى الرشد السياسي

على الرغم من أن معظم المحللين والكتاب نظروا إلى نتائج الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة المصرية التي جرت بعد ثورة 25 يناير باعتبارها تمثل السيناريو الأسوأ والكارثي، ليس فقط لمصر ولكن لبلدان الربيع العربي الأخرى، فإن النظرة الفاحصة تظهر أن هذه الانتخابات جاءت معبرة عن حقيقة موازين القوى السياسية الفاعلة في مصر بعد الثورة.

وإذا كانت الانتخابات في مجملها قد شابها كثير من النقص والقصور، فإن نتائجها تتسم بدرجة كبيرة من المعقولية والشفافية. فالتيار الإسلامي والثوري أبلى بلاء حسناً في هذه الانتخابات، كما أن الأقباط وغيرهم من المواطنين الذين يشعرون بغياب الأمن رأوا في مرشح النظام القديم الملجأ والملاذ.

لقد تضاربت ردود الأفعال على هذه النتائج، وتراوحت ما بين رافض لها ينادي بحتمية العودة إلى الميدان والتمسك بالشرعية الثورية، ومؤيد لخيار الشعب الديمقراطي كما أظهرته صناديق الاقتراع. على أن أغرب التفسيرات للمشهد الانتخابي المصري ذهبت في غلوائها إلى حد وصف جمهور الناخبين بعدم النضج وعدم الوعي السياسي.

ويأتي في هذا السياق قيام أحد المتخصصين في علم النفس بوصف الشعب المصري بأنه يعاني قصورا في تكوينه المعرفي والأخلاقي. ولا يخفى أن هذا كلام انفعالي يجافي حقيقة أن الفلاح المصري الفصيح هو باني الحضارة عبر العصور. ولعل ذلك كله يدفعنا -في سعينا للفهم والتفسير- إلى التساؤل عن ماذا حدث للمصريين منذ ثورة 25 يناير؟!

الثورة والدولة العميقة
طرح البعض -ربما على استحياء- مفهوم الدولة العميقة "Deep State" كأداة تحليلية لفهم التطور السياسي في مصر منذ ثورة 23 يوليو/تموز 1952 وحتى ثورة 25 يناير/كانون الثاني وما بعدها. وترجع سيرة هذا المصطلح إلى الخبرة التركية، حيث يشير مفهوم الدولة العميقة إلى شبكة من التحالفات المرتبطة بالمؤسسة الأمنية والعسكرية، والتي ترجع إلى تقاليد الجمعيات السرية زمن الدولة العثمانية. وعادة ما يكون الهدف الأسمى لهذه الجماعات هو المحافظة على السلطة والنظام القائم. كما تشكل هذه الجماعات "دولة داخل دولة"، بحيث تعمل دوماً من وراء ستار لضمان هيمنتها على أجهزة الدولة الأمنية والإدارية.

لا يمكن تجاهل الدور الذي لعبته شبكات الدولة العميقة في مصر، والتي استطاعت تجميع صفوفها والدفاع عن مصالحها من أجل المحافظة على بقاء النظام بعد التضحية برأسه

ومن الواضح تماماً أن سوء إدارة المرحلة الانتقالية في مصر من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة أدى إلى غياب الثقة بينه وبين القوى الثورية التي انتهى بها المطاف لرفع شعارات مطالبة بسقوط حكم العسكر. لكن -مع ذلك- لا يمكن تجاهل الدور الذي لعبته شبكات الدولة العميقة في مصر، والتي استطاعت تجميع صفوفها والدفاع عن مصالحها من أجل المحافظة على بقاء النظام بعد التضحية برأسه.

وأحسب أن مفهوم الدولة العميقة في الحالة المصرية كان واضحاً منذ هيمنة الضباط الأحرار على تقاليد الأمور في مصر عام 1952. ويمكن أن نشير في هذا المقام إلى ما كتبه إحسان عبد القدوس بعد ثورة يوليو/تموز بعامين فقط عن "الجمعية السرية التي تحكم مصر". ولا شك أن ميل الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك إلى إقامة تحالف بديل بهدف توريث الحكم لابنه جمال قد أزعج مجموعات الدولة العميقة في مصر ولا سيما داخل المؤسسة العسكرية، وهو ما دفع بهم إلى الاستفادة من أجواء الثورة الشعبية للتخلص من مشروع التوريث والدفاع عن أركان النظام القائم.

لقد استطاعت قوى الدولة العميقة في مصر توظيف حالة الانفلات الأمني والتردي الاقتصادي للتأثير على مزاج المواطن المصري العادي، من خلال تحميل المسؤولية كاملة للقوى الثورية. وليس بخاف أن ماكينة شبكات الدولة العميقة استطاعت خلال الفترة الماضية التي سبقت الانتخابات الرئاسية أن تكرس عداء قطاعات شعبية واسعة للثورة والمحرضين على استمرارها.

بل إن المبررات التي كان يسوقها النظام السابق بات يتم ترديدها اليوم. ومن ذلك أن مصر أكبر وأعظم من أن يعبر عنها ميدان التحرير، كما أن الثوار ما هم إلا عابثين بأمن مصر واستقرارها ويسعون إلى خرابها.

أزمة القيادة الثورية
لقد عانت القوى الثورية بعد سقوط رأس النظام -ومنذ البداية- من الانقسام والتشرذم الشديدين، وهو الأمر الذي جسده غياب القيادة الثورية الملهمة والموجهة للجماهير. أدى ذلك كله إلى عدم واقعية الخطاب الثوري وطرحه بدائل تبدو مستحيلة لخريطة الطريق التي أقرها الشعب في الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي أجري يوم 19 مارس/آذار 2011.

سيناريو الإعادة بين مرسي وشفيق يعني في حقيقته ومبناه الاختيار بين الثورة وبين إعادة إنتاج النظام القديم، وهو الأمر الذي يجعل المنافسة تلقائيا لصالح مرسي الذي خرج من رحم الثورة

والمتأمل لنتائج الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة المصرية يلاحظ أنها أظهرت عورات القوى الثورية غير المنظمة والتي تعاني من افتقاد البوصلة الصحيحة، كما أنها أظهرت من ناحية أخرى حالة الاستقطاب في النظام السياسي المصري بعد الثورة بين قوتين رئيسيتين: أولاهما جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسي المتمثل في حزب الحرية والعدالة، حيث إنها تمتلك قدرة هائلة على الحشد والتعبئة ولا سيما في أوقات الانتخابات، وهو ما دعا البعض لوصف الإخوان المسلمين بأنهم "كائنات انتخابية". أما القوة الثانية فهي تتمثل في بقايا النظام القديم (الفلول) الذين يمتلكون -عبر شبكات الدولة العميقة وأجهزة الحزب الوطني المنحل- القدرة على حشد الأصوات إما طوعاً أو كرهاً، من خلال عمليات التأثير على إرادة الناخبين.

وأحسب أن سيناريو الإعادة بين مرشح حزب الحرية والعدالة الدكتور محمد مرسي ومرشح النظام القديم الفريق أحمد شفيق يعني في حقيقته ومبناه الاختيار بين الثورة وإعادة إنتاج النظام القديم، وهو الأمر الذي يجعل المنافسة تلقائيا لصالح المرشح الإسلامي الذي خرج من رحم الثورة المصرية. بيد أن النخب والقوى السياسية -التي انشغلت منذ قيام الثورة بالخوض في معارك وهمية عبر الصحف السيارة والفضائيات- مارست درجة غير مسبوقة من الابتزاز السياسي في مواجهة مرشح الإخوان، وتحدثت عن "الضمانات المكتوبة"، وهو الأمر الذي يعيد إلى الأذهان ظاهرة "الإخوان فوبيا" التي نجح نظام مبارك في تكريسها وإرهاب القوى السياسية بواسطتها.

الحاجة إلى الرشد السياسي
لاشك أن التعلم من تجارب الآخرين يفيد في ترشيد الحركة السياسية، وفي القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة. فالقراءة الفاحصة لنتائج الانتخابات الرئاسية في جولتها الأولى تظهر حصول مرشحي الثورة على أكثر من (60%) من أصوات المقترعين الصحيحة، في حين حصل كل من أحمد شفيق وعمرو موسى على نسبة (35%) فقط من الأصوات الصحيحة.

يعني ذلك أن روح الثورة وجذوتها لا تزال مشتعلة في قلوب وعقول جل المصريين، وإن كانت بحاجة إلى تنظيم وترشيد لحركتها ووجهتها. وفي هذا السياق نسوق مثالين يمكن الاقتداء بهما في الحالة المصرية وغيرها من حالات الربيع العربي.

المثال الأول أفريقي وتطرحه السنغال، حيث التفت قوى المعارضة السياسية الرئيسية في جولة الإعادة التي أجريت في مارس/آذار 2011 خلف مرشحها ماكي صال في مواجهة الرئيس المنتهية ولايته عبد الله واد. لقد كان لافتاً دعوة مرشحي المعارضة الذين خسروا في الجولة الأولى جميع أنصارهم للتصويت لصالح ماكي صال "دون قيد أو شرط"، حيث كان الهدف واحداً وهو إسقاط الرئيس عبد الله واد ومشروع التوريث المرتبط به.

أما المثال الثاني فينبع من التجربة الفرنسية، حيث رفضت مارين لوبان Marine Le Pen زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا تأييد أي من المرشحين في جولة إعادة الانتخابات الفرنسية ساركوزي وهولاند. وقد خاطبت جماهيرها قائلة: "ليس بمقدور كل من ساركوزي وهولاند توفير الحماية اللازمة لإنقاذكم"، وأشارت إلى أنها سوف تبطل صوتها الانتخابي. وعلى النقيض من ذلك كان موقف مرشح أقصى اليسار الفرنسي جان لوك Jean Luc  -الذي حصل على نسبة (11%) من جملة أصوات الناخبين الفرنسيين في الجولة الأولى- مختلفا تماما، حيث أعلن دعمه بلا قيد ولا شرط لهولاند من أجل الإطاحة بساركوزي.

إن الضمانة الأساسية لاستمرار الثورة المصرية لا تكمن في مجرد وعود انتخابية، أو صياغة نصوص مكتوبة، أو تسلط إرادة الأقلية على الأغلبية، وإنما تتمثل في الجمع بين مصادر ثلاثة للشرعية هي: الميدان الذي يعبر عن روح الثورة الجديدة التي دفعت إلى تأسيس الجمهورية الثانية في مصر. أما المصدر الثاني فإنه يتمثل في البرلمان الذي يعبر عن الشرعية الدستورية والقانونية وهي التي تؤسس لمرحلة ما بعد الثورة.

الضمانة الأساسية لاستمرار الثورة المصرية لا تكمن في مجرد وعود انتخابية، أو صياغة نصوص مكتوبة، أو تسلط إرادة الأقلية على الأغلبية, وإنما تتمثل في الجمع بين مصادر ثلاثة للشرعية هي: الميدان والبرلمان وديوان الرئاسة 

ويتمثل المصدر الثالث في شرعية ديوان الرئاسة، وهو يكتسب -في تقاليد الثقافة السياسية المصرية- القدرة على القيادة والتوجيه وبسط هيبة الدولة. ولا شك أن الإبقاء على شرعية الميدان يمثل سلطة شعبية عليا تمنع انحراف أي من مؤسسات الدولة المنتخبة سواء التشريعية أو التنفيذية.

وأياً كان الخيار الشعبي في جولة الإعادة للانتخابات المصرية، فإن الرئيس القادم سوف يواجه تبعات سوء إدارة المرحلة الانتقالية والتحديات المصاحبة لها. ومن ذلك الأزمة الدستورية، إذ إننا -والحالة هذه- أمام رئيس منتخب دون اختصاصات دستورية واضحة، وهو ما قد يؤدي إلى إساءة استخدام السلطة، أو إعادة إنتاج نمط رئاسة مبارك المطلقة مرة أخرى.

وربما يدفع ذلك إلى تقويض سلطات الجمعية التأسيسية قبل إصدار الدستور الجديد. ولعل ملفات الأمن والاقتصاد ووضع المؤسسة العسكرية -التي أضحت جزءاً لا يتجزأ من المنظومة السياسية والاقتصادية- تمثل قنابل حقيقية قابلة للانفجار أمام أي قاطن جديد للقصر الجمهوري في مصر.

وعلى أية حال، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه الثورة المصرية -حتى بعد إجراء جولة الإعادة وانتخاب رئيس جديد- يتمثل في مستقبل شبكات الدولة العميقة في مصر. فهل تستطيع قوى التغيير تتبع خيوط هذه الشبكة العنكبوتية التي تحاصر أوصال المؤسسات الأمنية والعسكرية والبيروقراطية في مصر، بما يؤدي إلى إنهاكها والإجهاز عليها. أم أن القوى الثورية سوف تظل على حالة الانقسام والتشرذم وعدم الاستفادة من أخطاء الماضي، وهو الأمر الذي يجعلها لقمة سائغة يسهل على الشبكة العنكبوتية نسج خيوطها حولها والتهامها، وهو ما يعني عودة إنتاج النظام القديم وإن كان في رداء جديد؟ ذلك هو الخطر الحقيقي الذي يواجه ثورة المصريين!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.