مشهد انتخابي مصري مزلزل
مسؤولية الإخوان
صعود الفلول
إخفاق التيار الثوري
مستقبل الصراع
نتائج الانتخابات الرئاسية التي أظهرت مفاجآت عديدة تلزم كل القوى والأطراف التي تصارعت فيها وحولها بمراجعة حساباتهم والتأمل في النتائج، لفهم ما حدث وما كان يمكن أن يحدث بسبب الأخطاء المتوالية للأحزاب والتيارات الثورية.
مسؤولية الإخوان
لا يمكن إنكار دور الإخوان المسلمين في الثورة التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، فبوصفهم القوة السياسية الأكثر تنظيماً والأكثر قدرة على الحشد، كان لهم دور رئيسي في التعبئة ضد النظام وفي صد عدوانه في معركة الجمل الشهيرة. ولأنهم الأكثر تنظيماً والأكثر قدرة على الحشد، فإنهم يتحملون أيضاً جزءاً كبيراً من مسؤولية ما آلت إليه الأمور بعد الإطاحة بمبارك، فقد تغلبت السياسة بحساباتها ومساوماتها على الثورية عند قيادة الإخوان، كما ظهرت النزعة الاستحواذية والطمع في تحقيق مكاسب سياسية عبر التواجد بقوة في كل المؤسسات.
انتقال الإخوان اليوم إلى موقع صناعة القرار بشكل رئيسي يعني أن عهد المظلومية انتهى، وأن الإخوان اليوم أمام مسؤوليات جديدة |
هكذا يمكن تذكر الخطيئة الأولى للإخوان ومن ساندهم حينها من القوى والشخصيات المحسوبة على معسكر الثورة، فقد قام الإخوان بتعبئة الناس للتصويت بنعم للتعديلات الدستورية المقترحة من اللجنة المكلفة من المجلس العسكري (وقد كان عضو الجماعة السيد صبحي صالح أحد أعضاء اللجنة)، وكانت التعبئة قائمة على أساس حماية المادة الثانية التي تقول بأن "الإسلام دين الدولة"، رغم أن هذه المادة لم تكن مشكلة ولم يكن هناك خطرٌ يتهددها كما أوحت بذلك دعايات الإخوان والسلفيين.
التعديلات الدستورية ثم الإعلان الدستوري المعدَّل كانا يمهدان لاحتكام القوى الثورية إلى قوانين النظام القديم، وتحول الثورة إلى إصلاح داخل النظام، وهكذا كان يجب على الإخوان أن يتذكروا مع استبعاد مرشحهم للانتخابات الرئاسية خيرت الشاطر ودخول الفريق أحمد شفيق في التنافس الانتخابي ورفض قانون العزل السياسي، ثم حل البرلمان والإعلان الدستوري المكبّل لصلاحيات الرئيس، وغيرها من الحوادث، أنهم هم من أسسوا لهذا الوضع حين ارتضوا الدخول في لعبة سياسية ضمن قواعد النظام القديم، بدلاً من السعي لوضع دستور جديد للبلاد يبنى عليه نظام جديد يمكن لهم ولغيرهم من خلاله التنافس السياسي ضمن أجواء ديمقراطية سليمة خالية من قوانين النظام السابق وفلوله.
يمكن تعداد أخطاء الإخوان المتوالية بعد الإعلان الدستوري والتي نتجت عن غرور زائد بالشعبية في الشارع وبقدرتهم وحدهم على تحديد مصلحة الثورة، وأنتجت فقدان الثقة بين القوى الثورية والإخوان لدرجة تصنيف الإخوان كقوة غير ثورية من الشباب الثوري، وانخفاض شعبيتهم التي فوجئوا بها في الانتخابات الرئاسية، حتى عندما باتوا لوحدهم أمام فلول النظام السابق، فاضطرتهم نتائج الجولة الأولى إلى تغيير سلوكهم وخطابهم، وتقديم "الحمائم الإصلاحية" في الجماعة كالعريان والبلتاجي رغبة في خطب ود القوى الثورية من أجل جولة الإعادة.
لم يكن سبب انخفاض شعبية الإخوان الدعاية الإعلامية الشرسة ضدهم، فهذه كانت موجودة منذ زمن مبارك، لكن ما جعلها مؤثرة بشكل أكبر انتقال الإخوان من موقع الضحية إلى موقع المسؤولية السياسية (وإن لم يكن بشكل كامل)، لذلك كان لسلوكهم السياسي طوال الشهور التي تلت الانتخابات البرلمانية أثره في انخفاض شعبيتهم وتدعيم الدعاية الإعلامية المضادة لهم.
انتقال الإخوان اليوم إلى موقع صناعة القرار بشكل رئيسي يعني أن عهد المظلومية انتهى، وأن الإخوان اليوم أمام مسؤوليات جديدة، ليس فقط في إدارة الدولة، بل أيضاً في تحقيق أهداف الثورة عبر الشراكة مع الآخرين، ولابد أن ينتظروا محاسبة الجماهير التي انتخب كثير منها مرشحهم رفضاً للفلول لا قناعة بهم.
صعود الفلول
ردد كثير من مؤيدي الإخوان هذه الجملة بعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية "المقاطعة تصب في صالح مرشح الفلول"، داعين الثوريين الراغبين في المقاطعة إلى مراجعة مواقفهم كي لا يساهموا في وصول الفلول إلى رئاسة الجمهورية، لكن كثيرين لم ينتبهوا إلى دلالات هذه الجملة، فهي تعني أن الفريق أحمد شفيق منافس جدي، وأن الإخوان ليسوا متأكدين تماماً من قدرتهم على الانتصار، فما الذي جعل الفلول قادرين على كسب الجماهير ومفاجأة الإخوان والثوريين بقدرتهم على الحشد والمنافسة؟
من الصعب اختزال الأمر بالمال السياسي الذي يملك شفيق وحزبه الوطني المنحل ورقياً والفاعل على الأرض عملياً الكثير منه، ولا بنسج تحالفات مع الكنيسة مستغلين تخوفها وتخوف المسيحيين من الإخوان، أو بالتحالفات القبلية في بعض المحافظات كالمنوفية والقليوبية، فكل هذا وإن كان صحيحاً، لا يفسر بشكل كامل كل الأصوات التي صبت في صالح مرشح فلول نظام مبارك.
الثقافة الديمقراطية لن تحل في يوم وليلة في مجتمع عمل نظامه على تكريس حالات الجهل والفقر والمرض ونشرها بسياساته السيئة، لكن تَقَدُّم الممارسة الديمقراطية مع الوقت كفيل بترسيخ هذه الثقافة في المجتمع |
ربما الأمر بحاجة إلى دراسة معمقة، خصوصاً في الجولة الثانية حين أصبح الخيار بين مرشحي الفلول والإخوان وتفوق الدكتور محمد مرسي بفارق ضئيل، فالأصوات التي دعمت شفيق زادت بشكل كبير في جولة الإعادة، فصار ما يقارب نصف الناخبين في صفه، ويمكن الإشارة إلى أسباب تتعلق بالخوف من الدولة الدينية، وأسباب أخرى تتعلق بالرغبة في الاستقرار الذي رأى كثيرون أن شفيق يمثله.
ما يظهر بشكل واضح دون أن يلتفت إليه كثيرون من المعسكر الثوري في تحليلاتهم، أن كثيراً ممن صوتوا لشفيق قاموا بعملية مفاضلة بين الحرية والديمقراطية من جهة، والأمن والاستقرار من جهة ثانية، وكأنهما ضدان متقابلان. ولا يتم الالتفات أيضاً إلى أن نصف من يحق لهم الانتخاب لم يصوتوا أصلاً في انتخابات كانت أشبه بمعركة مصيرية للثورة والتحول الديمقراطي في مصر والعالم العربي، وقد تكون نسبة المشاركة معقولة بالمقارنة بمثيلاتها في الدول الديمقراطية العريقة، لكنها في واقع ثورة قائمة وعملية تحول ديمقراطي مهددة تصبح مثار استغراب، ويمكن إحالتها إلى أن كثيرين لا يهتمون أصلاً بالثورة ولا بالتحول الديمقراطي، ولا يرون فيه ما يمكن أن يفيدهم، فاهتمامهم منصب بشكل رئيسي على لقمة العيش، ولا أهمية لصراعات السياسيين بالنسبة لهم.
من المهم بالنسبة للطليعة الثورية المؤمنة بالديمقراطية والقوى السياسية المؤيدة للثورة، ضرب المقابلة بين الديمقراطية والأمن، نظرياً عبر توضيح عدم تعارضهما بل توافقهما، وعملياً عبر العمل على تحقيق الديمقراطية وتقديم برامج عملية تعيد الأمن والاستقرار وتحارب الفساد وتحقق تنمية اقتصادية متوازنة في كل المناطق، إضافة إلى تطمين المسيحيين والخائفين على مدنية الدولة.
الثقافة الديمقراطية لن تحل في يوم وليلة في مجتمع عمل نظامه على تكريس حالات الجهل والفقر والمرض ونشرها بسياساته السيئة، لكن تَقَدُّم الممارسة الديمقراطية مع الوقت كفيل بترسيخ هذه الثقافة في المجتمع.
إخفاق التيار الثوري
لم تنجح القوى الشبابية والقوى السياسية الثورية غير الإسلامية في التحول من العمل الميداني الاحتجاجي إلى الفعل السياسي القادر على الإنجاز، لكنها بعد انسحاب الدكتور محمد البرادعي من سباق الرئاسة (والذي ظهرت مواقفه الراديكالية من الوضع القائم كمواقف محقة بعد كل ما جرى)، وجدت في الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والسيد حمدين صباحي مرشحين معبرين عن تيار الثورة خارج دائرة الإخوان، لكنهما لم يتمكنا من تحقيق إنجاز للتيار الثوري المدني في هذه الانتخابات.
أخفق الاثنان أولاً في فهم طبيعة اللعبة القائمة كما فهمها البرادعي، وبالتالي شاركا في هذه اللعبة ضمن قوانين النظام السابق، ثم تضررا أشد الضرر بسبب فوز شفيق عليهما، وكان هذا الفوز تأكيداً لإخفاق آخر تمثل في عدم قدرتهما على تقدير حجم شفيق والحزب الوطني، وعدم تمكنهما من التوحد معاً عبر ترشيح أحدهما ودعم الآخر له حيث حالت نرجسية كليهما دون ذلك.
طرح أبو الفتوح نفسه كمرشح توافقي وطني، وهو الخارج من جماعة الإخوان بخلاف عميق مع قيادتهم، لكن تحالفاته الإسلامية وتحديداً السلفية أضرته كثيراً، فقد بث هذا التحالف الذعر في المجموعات المدنية، ولم يحسن الرجل الرد على اتهامه بتقديم تنازلات معينة للسلفيين ليتحالفوا معه، ورغم محاولته جمع الصف الوطني خلفه فإنه -فيما يبدو- كان يعول على الإسلاميين أكثر من غيرهم بناءً على نتائج الانتخابات البرلمانية، فرأى في التحالف مع السلفيين قوة الدعم الأهم.
لكن السلفيين أضروا به ثانية وقت الاقتراع حين صوت كثير منهم لمرشح الإخوان، ورغم أن قيادات السلفيين ساندته بقوة، فإن الحركات السلفية ليست مثل الإخوان في علاقتها بمناصريها، فلا تستطيع تجيير كتلتها التصويتية بالكامل لشخص ما عبر إعطاء الأمر بذلك، ويبقى السلفي حائراً بين التصويت لمرسي الأقرب إلى الدين أو "اعتزال الفتنة"، وبين عدم التصويت تماماً كي لا يقع في محظور التصويت لأبو الفتوح "الليبرالي"، وهكذا خسر الأخير المجموعات المدنية والسلفية معاً.
رغم إخفاق صباحي وأبو الفتوح فيمكنهما في مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية العمل على استكمال مسيرة الثورة، بالتعاون مع الرئيس الجديد والتأكيد على ديمقراطية ومدنية الدستور القادم |
أما حمدين صباحي فقد كان مفاجأة الجولة الأولى من الانتخابات، حيث اكتسح في عدد من المناطق التي تعتبر معاقل للإخوان والإسلاميين، وكان فيما يبدو خيار التيار المدني بشكل واسع في مواجهة الإسلاميين والفلول، وأظهرت نتائج هذه الجولة أن المزاج الشعبي المصري ليس مع الإسلاميين حيث صوتت الأغلبية لمرشحين علمانيين، كذلك لم يكن كل الذين صوتوا لأبو الفتوح من الإسلاميين، وهنا انهارت أسطورة رددها كثير من الإسلاميين في فترات سابقة مفادها أن المجتمعات العربية هي بالضرورة مع خيار الإسلام السياسي.
لكن صباحي فيما يبدو تفاجأ بنفسه أيضاً، وكان للمفاجأة وقعها السيئ عليه، حيث تعرض لتضخيم إعلامي كبير من بعض مناصري الثورة المدنيين نصبه زعيماً للثورة، وبدا أن الرجل انبهر بالتصويت الكثيف له لدرجة أن المسألة الانتخابية باتت قضية شخصية، فظلت مواقفه تدور حول طمعه بالفوز في سباق الرئاسة حتى بعد تأكد خروجه منه، وكان موقفه المساوي بين مرشحي الإخوان والفلول مسيئاً في حقه، فمهما كان الخلاف مع الإخوان لا يمكن مقارنتهم بفلول نظام مبارك، ولا يمكن التعاطي مع المسألة وكأنها معركة تفصيلية في مسيرة الثورة ليس لنتائجها أهمية، وهنا أخطأ صباحي ومعه الثوريون الداعون إلى مقاطعة الانتخابات في جولة الإعادة.
رغم إخفاقهما يمكن لصباحي وأبو الفتوح في مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية العمل على استكمال مسيرة الثورة بالتعاون مع الرئيس الجديد والتأكيد على ديمقراطية ومدنية الدستور القادم، وتشكيل تيارات سياسية جديدة تتمايز عن تيارات الإخوان والسلفيين وعن بقايا النظام القديم والتيارات العلمانية المفككة والمترهلة.
مستقبل الصراع
الرئيس محمد مرسي يعرف أن الثوار صوتوا له وأوصلوه إلى موقع الرئاسة رغم الخلافات الكبيرة، لذلك عليه أن يعي أن التحرك القادم في المواجهة مع العسكر يستلزم رص الصفوف الثورية وعدم الإقدام على خطوات منفردة دون مشاورة القوى الثورية، كما أن تطمين الفئات الخائفة وبناء جسور الثقة مع القوى المتشككة فيه أمر ضروري يلزمه تقديم ممارسات عملية تتجاوز الخطاب المعسول، وعلى القوى الثورية أيضاً تقديم مصلحة الثورة على كل خلاف أيدولوجي مع الإخوان.
لا يمكن تجاوز دور المؤسسة العسكرية في الدولة المصرية تاريخياً، لكن هذا الدور يجب أن لا يكون على حساب مدنية الدولة ولا بتنصيب العسكر أوصياء على الدولة، وبذلك يكون الإعلان الدستوري المكمل ودور العسكر المتضخم في الدستور الجديد تحدياً أمام الثوار الذين يجب أن يضعوا لأنفسهم هدفاً رئيسياً لمرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية: إنجاز التحول الديمقراطي، فالصراع سيتمحور في المرحلة القادمة على الدستور وشكل النظام الجديد الذي ستنتجه الثورة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.