انتخابات في ظلال الخوف

انتخابات في ظلال الخوف

undefined

يمنعنا الصمت الانتخابي من أن نتحدث عما سيجري في مصر، لكنه لا يحول دون أن نتحدث -مرتاحين- عما جرى.

(1)

"
ثمة قرائن عديدة تدل على أن رجال النظام السابق يعتبرون انتخابات الرئاسة مسألة حياة أو موت
"

لن نقع في المحظور إذا قلنا إن باب المفاجآت مفتوح على مصراعيه لأكثر من سبب، فقلة خبرتنا بالانتخابات الديمقراطية تجعلنا لا نستطيع أن ندّعي إحاطة كافية بخرائط المجتمع المصري بتوجهاته السياسية وتركيبته الاجتماعية والثقافية. لذلك لا مفر من الاعتراف بأن اهتمامات النخب وتأثيرات وسائل الإعلام أصبحت هي التي تفرض نفسها على الجميع، وتشكل مرجعنا الحقيقي في التعرف على ملامح تلك الخريطة.

وإذا كان الحضور المعتبر للسلفيين يعد إحدى مفاجآت الانتخابات التشريعية، فإن ظهور أركان ورجال النظام السابق يشكل إحدى الملاحظات الهامة على الانتخابات الرئاسية، إذ من الواضح أن رجال النظام السابق الذين سقطوا في اختبار الانتخابات التشريعية يحاولون استعادة دورهم واعتبارهم في الانتخابات الرئاسية، وربما اعتبروا تلك الانتخابات فرصتهم الأخيرة للعودة إلى الساحة. وثمة قرائن عديدة تدل على أنهم يعتبرونها مسألة حياة أو موت، إذا فشلوا في استثمارها ولم ينفضوا، فقد غدا بديلهم الوحيد أن يخرجوا من الساحة وينفضوا.
 
لعلنا لا نبالغ أيضا إذا قلنا إنه باستثناء الأحزاب الإسلامية، فإن الأحزاب الأخرى العلمانية والليبرالية لم يعد لها تأثير يذكر في الساحة السياسية. ينطبق ذلك على حزب الوفد الذي صار جزءا من التاريخ وليس جزءا من السياسة، أو حزب التجمع الذي لم يعد يذكر إلا من خلال استدعاء بعض قادته في برامج التلفزيون أو ظهورهم على صفحات الصحف، أو الحزب الناصري الذي يعتمد على الحنين إلى الماضي وعلى التوجس من الإسلاميين أكثر مما يعتمد على الكوادر الفاعلة على الأرض.
 
وإذا كان ذلك شأن الأحزاب التي كانت موجودة قبل الثورة، وعاشت تجربة موت السياسة، فإن حداثة ميلاد الأحزاب التي تشكلت بعد الثورة تعد سببا قويا لمحدودية حضورها في الشارع المصري في الوقت الراهن.
 
غير أن هذا الغياب للتيار العلماني والليبرالي على الأرض، لم يلغ وجود شخصيات منتمية إلى ذلك التيار في المجال العام. وقد أثبتت هذه الشخصيات حضورها وتأثيرها لسببين: أحدهما انتشارها في وسائل الإعلام المرئي والمقروء التي أصبحت الساحة الأوسع التي يمارس فيها الحضور السياسي. والثاني سوء أداء أبرز قوى التيار الإسلامي الذي أثار مخاوف البعض ودفعهم إلى الاصطفاف مع الطرف العلماني والليبرالي، ليس انحيازا إليه ولكن توجسا وابتعادا عن الإسلاميين.

(2)

عودة المصريين إلى السياسة ظاهرة ارتبطت بسقوط النظام السابق، واختفاء لافتة مصر مبارك وانضواء الجميع تحت شعار مصر للمصريين. وقد رفعت الحملات الانتخابية من مؤشرات انغماس المصريين في السياسة، ليس فقط بسبب كثافة الحملات الدعائية التي ظلت مادة يومية لوسائل الإعلام المختلفة منذ 18 شهرا تقريبا، ولكن أيضا بسبب احتدام المواجهة خصوصا بين المرشحين الإسلاميين ومرشحي النظام السابق، ومحاولة مرشحي البين بين أن يلفتوا الأنظار إليهم في ذلك السباق.

ومن العلامات الفارقة في هذا التنافس، تلك الصدمة التي أصابت المجتمع جراء إقدام بدائل مبارك على الترشح، الأمر الذي وسع كثيرا من دائرة الخوف وأعاد إلى الأذهان كابوس سنوات المعاناة من الاستبداد والفساد.

مع الاستقطاب تراجعت فرصة التوافق، وانفرط عقد الجماعة الوطنية، وتعمقت أزمة الثقة بين الجماعات والقوى المختلفة

ولم يعد خافيا على أحد أن أحداث العنف التي شهدتها مصر وكان الثوار ضحية لها، وكذلك وقائع الانفلات الأمني التي تعددت، كانت من العوامل التي دفعت كثيرين إلى التطلع للعودة إلى الاستقرار والتعافي، خصوصا حين أدت هذه الأحداث وتلك إلى الإضرار بمصالح الناس ومعايشهم.

ولست واثقا مما أشيع عن أن ذلك كله مدبّر لإيصال الناس إلى تلك النتيجة، لكن الذي لا شك فيه أن الشعور بالقلق كان حقيقة وليس وهما، وأن المنسوبين إلى النظام السابق اعتمدوا عليه في دعايتهم وحاولوا إقناع الناس بأن مفاتيح الأمن والاستقرار بأيديهم، وليست في ما تنشده من ديمقراطية، وكأنهم أبرياء مما حل بالبلد من دماء وتشوهات طوال السنوات الثلاثين الماضية.
 
إذا أضفنا إلى هذه الخلفية حالة الاستقطاب التي تعمقت في مصر بين الإسلاميين على اختلاف فصائلهم من جانب، وبين العلمانيين والليبراليين من جانب آخر، فسنجد أن ذلك كان عنصرا آخر رفع من وتيرة الاستنفار ووسع من دائرة الجدل السياسي. وكانت النتيجة أن موضوع مرشحي الرئاسة فرض نفسه على كل حوار يدور في أي محفل. وأصبح من المألوف أن يسأل سائق سيارة الأجرة أي راكب معه عن المرشح الذى سينحاز إليه، أو أن تصبح المفاضلة بين المرشحين مادة للجدل الصاخب بين الجالسين في أي منتدى أو مقهى.
 
مع الاستقطاب تراجعت فرصة التوافق، وانفرط عقد الجماعة الوطنية، وتعمقت أزمة الثقة بين الجماعات والقوى المختلفة. ولم يكن غريبا في هذه الأجواء أن تختفي روح ميدان التحرير، حين كان الجميع حقا يدا واحدة، وكان المطلب الذي رددته هتافات تلك المرحلة أن يكون الثوار مع الجيش يدا واحدة. لكن الأمور انقلبت رأسا على عقب، فلا بقي ثوار التحرير كما كانوا، ولا نجحوا في أن يصبحوا مع الجيش يدا واحدة.

(3)

حتى التيار الإسلامي لم يعد يدا واحدة في ما بين فصائله المختلفة، والمرشحون الثلاثة الذين التزموا بالمرجعية الإسلامية تعبير عن ذلك التشرذم. والتباين في المواقف من المرشحين بين الإخوان من ناحية وبين السلفيين وحزب البناء والتنمية (الجماعة الإسلامية) نموذج آخر. بل إننا نجد أن ذلك التباين حاصل أيضا في محيط السلفيين أنفسهم، فحزب النور -المعبر عن جماعة الدعوة السلفية- انحاز إلى أحد المرشحين، في حين أن آخرين من السلفيين أيدوا مرشحا آخر، ووجدنا أن الجانبين تبادلا التراشق اللفظي جراء ذلك التباين الذي اتسع نطاقه ووجدنا له امتدادات أثرت سلبا على الجسور الممتدة بين الإخوان وحزب النور.

الصورة النمطية التي جرى تعميمها إعلاميا على السلفيين، ظلمتهم كثيرا وشوهت المعتدلين منهم والعقلاء

حين ظهر السلفيون إلى العلن اكتشفنا ثلاثة أمور مهمة: أولها أنهم يمثلون كتلة تصويتية معتبرة في المجتمع المصري ينبغي أن يعمل لها حساب في المعادلة السياسية. الثاني أنهم ليسوا شيئا واحدا ولكنهم مدارس مختلفة لا يجمع بينها أي إطار تنظيمي، باستثناء الدعوة السلفية التي عمدت إلى تشكيل حزب النور. وهذا الحزب مقره في الإسكندرية حقا، لكن له أفرعا في بقية المحافظات المصرية. أما الآخرون فهم مجموعات تلتف حول بعض شيوخ السلفيين، وكل واحد له طريقته التي يمكن أن تختلف عن الآخر.

الأمر الثالث أن الصورة النمطية التي جرى تعميمها إعلاميا على السلفيين ظلمتهم كثيرا وشوهت المعتدلين منهم والعقلاء جراء الإصرار على التركيز على المتطرفين منهم والمشوهين فكريا. وكل من يقترب منهم يستطيع أن يتبين أن بينهم عقلاء على استعداد لتطوير أفكارهم والتفاعل مع متغيرات الواقع السياسي. وقد قيل لي إن مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام نظم دورة تدريبية لأعضاء مجلس الشعب الجدد، وكان ممثلو السلفيين وحزب التنمية والبناء أكثر المشاركين حرصا على الانتظام في الدورة حتى آخر يوم فيها.

لقد أدهشني المتحدثون من حزب النور الذين سمعتهم في أحد المؤتمرات الانتخابية، وكان رئيس الحزب الدكتور عماد عبد الغفور في المقدمة منهم، حينما ركزوا في خطابهم على أهمية إحلال العدل في مصر، مستندين في ذلك إلى الآية القرآنية التي تقول "إن الله يأمر بالعدل.."، ولم يذكر أحد منهم كلمة الشريعة، ليس إنكارا لها بطبيعة الحال، ولكن إدراكا منهم أن التركيز على قيمة العدل يحقق أحد مقاصدها الشريعة، بل مقصدها الأكبر. وبدا ذلك نموذجا لمنظور الخطاب ونضجه لدى عقلاء السلفيين في نفس الوقت.

(4)

لا أستبعد أن ترتفع كثيرا نسبة المشاركين في عملية التصويت في الانتخابات، وإن كنت أستبعد أن تصل النسبة إلى 90% كما ذكرت جريدة الأهرام. ذلك أن الحماس والاستنفار على أشده في كل أنحاء مصر، ورغم التأكيد على ضرورة احترام النتائج -أيا كانت طالما توافرت لها ضمانات الحرية- فإنني لا أستطيع أن أتجاهل أن ذلك الحماس يختلط بدرجات متفاوتة من الخوف.

الإعلام لعب دورا كبيرا في تعميم الخوف والمبالغة فيه، وسلبيات الإسلاميين وفرت للإعلام المتصيِّد والمخاصم زادا مستمرا

وفي ما أستشعره فإن ثمة خوفا من أن يكون الخيار في نهاية المطاف محصورا في الإعادة بين من انتسب إلى عصر مبارك وجرحت ذمته السياسية، وبين أحد الإسلاميين الذين جرحت خبرتهم السياسية. وإذ أشارك الخائفين من عودة أعوان مبارك قلقهم، فإنني لا أعفي الإسلاميين من المسؤولية عن تخويف الناس منهم.

أدري أن الإعلام لعب دورا كبيرا في تعميم الخوف والمبالغة فيه، لكنني أسجل أيضا أن سلبيات أدائهم وفرت للإعلام المتصيِّد والمخاصم زادا مستمرا لإشاعة ذلك الخوف. وأعني بالإسلاميين في هذا السياق الإخوان المسلمين بالدرجة الأولى وبعض السلفيين أو المنسوبين إليهم. وأخص بالذكر موقف الإخوان من الحكومة والرئاسة واللجنة التأسيسية للدستور، وموقف السيد حازم أبو إسماعيل وأمثاله.
 
ما زلت عند رأيي بأن مصر أجرت جراحة كبرى بإسقاط نظام مبارك، ولا بد لها أن تمر بفترة نقاهة قبل أن تتعافى وتؤسس بنيانها الديمقراطي. وهذا الذي نمر به أحد أطوار مرحلة النقاهة التي لن تخلو من بطء في الحركة وتعثر في المسيرة، إلا أن ذلك لا يهم ما دمنا نسير في الطريق الصحيح الذي أحسب أننا ماضون على دربه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.