تيار الشباب العربي في الزمن الثوري

تيار الشباب العربي في الزمن الثوري

undefined 

لا مركزية الحراك
التخفف من الأيديولوجيا
بناء النظام الجديد
ثورة على القوى التقليدية

لا يمكن تجاهل حقيقة مفادها أن نسمات الربيع العربي هبت على شعوب المنطقة بفعل حراك شبابي فاعل أسس لمرحلة التغيير التي نشهدها على الساحة العربية ونعايش تفاعلاتها المستمرة، بدايةً من إضرام محمد البوعزيزي النار في جسده احتجاجاً على كل ما أنتجه النظام التونسي السابق من خرابٍ عايشه مع جيله، مروراً بإضرام الشباب التونسي النار في جسد نظام بن علي، ووصولاً لتلقف الشباب العربي شعلة النار وإحراق الأنظمة المستبدة بها في أكثر من بلد عربي.

لعب الشباب دوراً أساسياً في الثورات القائمة وما زالوا، وأخذ تيار جديد يتشكل من رحم انسداد الأفق الذي أنتجته المنظومة القديمة بكل آلياتها وجماعاتها وأشخاصها، فلا السلطة نجحت في تقديم حياة كريمة للناس، ولا الجماعات والأحزاب التقليدية المُعارِضة نجحت في إحداث التغيير المنشود، وبالتالي قام الشباب بانتفاضات وثورات شعبية أطلقت الرصاصة الأولى على المنظومة القديمة، وانطلقت معركة التغيير الكبرى في العالم العربي.

تيار الشباب (فكراً لا عمراً فقط) ليس حزباً أيديولوجياً واضح المعالم، كما أنه ليس كتلة واحدة متجانسة بشكل كامل، لكنه تعبير بدأ عفوياً عن حالة من الغضب والاحتقان من الواقع القائم في العالم العربي من جهة، وعن الرغبة في التغيير للأفضل والتطلع إلى المشاركة الفاعلة في إدارة أمور الدولة من جهة أخرى، وإذا كان لهذا التيار مزايا عديدة مكنته من إنجاز تغييرات حقيقية حتى الآن (وإن كانت في بدايتها) في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، فإن عجزه وقصوره في بعض الجوانب بدا واضحاً في المرحلة اللاحقة لانطلاق الثورات أو لسقوط رؤوس الأنظمة الاستبدادية.

 لامركزية الحراك الشبابي أحد أهم عناصر قوته لأنه يؤكد فيما يؤكد رفض تصنيم الأشخاص ويستبطن الرغبة في الانتقال من وصاية الزعامات الفردية إلى حكم المؤسسات

لا مركزية الحراك
تميز الحراك الشبابي باللامركزية، وطبع الثورات العربية بهذا الطابع، لذلك يمكن ملاحظة غياب زعامات كبيرة تلتف حولها الجماهير وتصدرها كرموز للحراك الثوري، ولم تفلح النخب السياسية والثقافية بكل تنوعاتها في تصدير نفسها كقيادة للحراك الشبابي، كما أن الحراك نفسه لم ينتج زعامة وقيادة مركزية حقيقية رغم محاولة بعض وسائل الإعلام إيجاد هذه الزعامة في شخص أو مجموعة أشخاص من أهل هذا الحراك.

فاجأت لا مركزية الحراك الشبابي جميع الأطراف، حيث كان المعتاد في العقلية التقليدية أن يكون لأي حراك زعامة أو قيادة مركزية واضحة على الأقل، فكان التخبط في التعاطي مع هذا الحراك في بداياته سيد الموقف عند شريحة لا بأس بها من النخب السياسية والثقافية ومن وسائل الإعلام، والأهم أن التخبط استمر سيد الموقف في تعاطي الأنظمة الاستبدادية مع هذا الحراك، فقد تعودت تلك الأنظمة على ضرب "رأس" التمرد لتصفيته كما جرت العادة في تعاطيها مع قوى المعارضة التقليدية على مر العقود الماضية، لكنها فوجئت هذه المرة بعدم قدرتها على استخدام هذه الإستراتيجية مع حراك يظهر في كل مكان ليحاصر النظام، وكلما زاد القمع والترويع زادت حدة الحراك واقترب أكثر من تحقيق أهدافه.

البلدان التي لم يصلها الربيع العربي بعد ترتبك أنظمتها أيضاً في التعاطي مع تيار الشباب وحراكهم، فالآليات والإستراتيجيات القديمة غير قادرة على الحد من هذا الحراك وتحجيمه، فيما هو يقوم بإنتاج زخم أكبر مع مرور الوقت، ولا يمكن لهذه الأنظمة إيجاد "رأس مدبر" للحراك تضربه لينتهي الأمر، وهي عاجزة عن إنتاج آليات تحجمه بنفس قدر عجزها عن فهم لغة هذا التيار الشبابي ومطالبه واحتياجاته، وتحقيق التغييرات المطلوبة التي يمكنها وحدها استيعاب هذا الحراك ونقل البلاد إلى العصر الحديث.

لا مركزية الحراك أحد أهم عناصر قوته،لأنه يؤكد فيما يؤكد رفض تصنيم الأشخاص ويستبطن الرغبة في الانتقال من وصاية الزعامات الفردية إلى حكم المؤسسات، واستمراره بهذا الشكل يشل حركة الأنظمة الاستبدادية في مواجهته، لكنه بعد إسقاط الأنظمة الاستبدادية بالكامل بحاجة إلى إعادة ترتيب ليتكيف مع مرحلة مختلفة وواقع مختلف ويثمر تغييراً ضحى الناس من أجله في الثورات العربية.

التخفف من الأيديولوجيا
أحد أهم أسباب قدرة الحراك الشبابي على الحشد هو تخففه من الأيديولوجيا وتقديم المشترك الإنساني والحقوقي كهوية لهذا الحراك، ومن هنا تمكن هذا الحراك من حشد الجماهير والأحزاب الأيديولوجية المعارضة خلفه، ولم يكن هذا الأمر ليتم عبر حراك فصيلٍ أيديولوجي معارض، لأنه كان سيقع في مشكلة انعدام الثقة بين الأطراف الأيديولوجية المتناحرة، وكان سيطبع بالتأكيد الحراك الشعبي بطابعه الأيديولوجي بما يعني تحويل الحراك من شعبي شامل إلى فئوي ضيق.

لم تسقط الأيديولوجيا بالكامل من وعي الشباب المشارك في الحراك، لكنها كانت في الخلفية وتمت إزاحتها بنجاح من منطقة التأثير الأساسي على الحراك، فشارك الشباب من منطلقات أيديولوجية مختلفة في إطار واحد قدموا فيه المشترك بينهم فنجحوا فيما أخفقت فيه لعقود الأحزاب والتيارات السياسية المعارضة، وبالتالي فرض المشترك بينهم نفسه كأيديولوجيا جديدة تُميّز الحراك الشبابي: الديمقراطية والحريات العامة والخاصة والدولة المدنية والتعددية الفكرية والسياسية والمواطنة كمظلة جامعة.

لم تسقط الأيديولوجيا بالكامل من وعي الشباب المشارك في الحراك، لكنها كانت في الخلفية وتمت إزاحتها بنجاح من منطقة التأثير الأساسي على الحراك

لعل رفض الاستبداد والظلم والتطلع للحرية بمعناها الواسع كان المشترك الأوضح بين فئات الشباب في كل الثورات العربية، لكن الديمقراطية والرؤية المدنية لمستقبل البلدان العربية كان واضحاً في كثير من الأحيان، وظهر كنتيجةٍ لقناعة مفادها أن الاستبداد لا بديل له غير الديمقراطية، وأن الرؤية المدنية هي القادرة على إيجاد أرضية مشتركة يمكن أن يعيش في ظلها الجميع ويحصلون على حرية العمل والحركة.

عاد الحراك الشبابي إلى الأصل بعيداً عن المعارك الهامشية بين التيارات الأيديولوجية على القضايا الفرعية: الأصل هو غياب الحقوق الأساسية وتهميش كل أفراد المجتمع، لذلك لا مفر من قيام التحرك على أساس المطالبة بالحريات والحقوق الأساسية، وإبعاد الخلافات الأيديولوجية عن المشهد دون التفكير بإلغاء الأيديولوجيات. المطلوب في هذه المرحلة هو التأكيد على هذا الأصل في حراك الشباب، واستكمال هذه الفكرة باتجاه بناء الأرضية الصالحة لتنافس سياسي وفكري بين كل التيارات على أساس مدني ديمقراطي.

بناء النظام الجديد
لم يفلح الشباب الثائرون في بعض البلدان العربية في التحول من الفعل الثوري العفوي إلى الفعل السياسي المُنجِز، ولعل هذا طبيعي في ظل عدم وجود خبرة سياسية عند الغالبية منهم، وكون بعضهم يعرفون ما لا يريدون ولا يعرفون ما يريدون، وبالتالي لا رؤية أو تصور لهم لما بعد إسقاط النظام، لكن المشكلة أنهم حين لم يتمكنوا رغم محاولاتهم من تنظيم أنفسهم بشكل جيد، ولا استطاعوا في مصر وتونس تحديداً إيجاد مكان لهم في اللعبة السياسية التي أعقبت سقوط رأسي النظامين السابقين.

لا ينتهي دور الشباب عند القيام بالثورة وإشعال شرارتها الأولى، بل إن المسألة تتعلق بهم بشكل أساسي لحفظ الثورة واستكمالها، فهم من بدأها، وهم الأكثر تحرراً من غيرهم من القوى السياسية من الحسابات المتعلقة بالحفاظ على مكاسب معينة أو تحقيق أرباح سياسية، وهم أيضاً الأكثر تخففاً من عبء الأيديولوجيات ما يجعلهم الأكثر قدرة على الضغط باتجاه استكمال التحول الديمقراطي ورفض أي هيمنة أيديولوجية على الدولة الوليدة.

من الواضح أن الشباب غير قادرين في هذه المرحلة على لعب دور سياسي مؤثر، وهم بحاجة إلى سنوات لبناء قاعدة جماهيرية مؤثرة على أساس برامج عمل يفتقدونها في هذه الفترة، لكن الدور التعبوي الضاغط الذي مارسوه منذ بداية الثورات بحاجة إلى التأكيد عليه، فالتكتل الشبابي يمكنه ببعض التنظيم القيام بمهمة الضغط لاستكمال أهداف الثورات بإنهاء سيطرة بقايا الأنظمة السابقة والضغط على القوى السياسية الفاعلة كي لا تنحرف بالثورات عن مسارها، وفي الثورات التي لم تنجح بعد في إسقاط رؤوس أنظمتها من الضروري التأكيد على أهداف الثورات الديمقراطية ورفض الطروحات الحزبية الضيقة والطائفية التي تهدم الكتلة الوطنية القادرة على إحداث التغيير.

أمام الشعوب العربية فرصة تاريخية لإعادة بناء دولها على أسس حديثة، وتيار الشباب يمكنه لعب دور حاسم في هذا الأمر عبر التأكيد على مفاهيم المدنية والمواطنة والديمقراطية من أجل تغيير يرضي الشباب الغاضب الثائر ويرضي جميع المواطنين ويوفر سنوات وعقودا أخرى من الإشكالات التي توصلنا لنفس النتيجة ولكن بعد دفع أثمان كبيرة.

مرحلة الربيع العربي وما بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية تتطلب روحاً جديدة يعبر عنها تيار الشباب العربي بخطاب مختلف يقدم القيم التي افتقدناها لعقود

ثورة على القوى التقليدية
تيار الشباب له دور مهم في مرحلة ما بعد الانتصار الكامل للثورة وتغيير النظام، ويتمحور هذا الدور حول تجديد الحياة السياسية والفكرية والثقافية في البلدان العربية، فالمشهد الحالي يُبرز عدم قدرة القوى والأحزاب والتجمعات التقليدية على مواكبة التغييرات الحاصلة في المنطقة والعالم، وهي بحاجة إلى تجديد شامل لخطابها وأدبياتها لينعكس في ممارستها السياسية، وهنا دور الشباب القادم من خلفيات فكرية وحزبية مختلفة للدخول في معركة التجديد هذه داخل الأحزاب القديمة وإيجاد خطاب جديد يواكب المتغيرات، أو يمكن للشباب إنشاء أحزاب جديدة وفق برامج وأدبيات جديدة تعمل على التواصل المباشر مع الناس وكسب ثقتهم.

يشكل غياب الهوية الوطنية الجامعة في بعض الدول التي قامت فيها ثورات وفي دول أخرى لم تقم فيها ثورات تحدياً رئيسياً لتيار الشباب الجديد، حيث يصبح الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني وتقديم مبادرات مدنية ضرورياً لإنشاء قوى حديثة تكسر سيطرة البُنى التقليدية (القبيلة والطائفة) وسيادة الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، ويمكن للشباب المتخفف من إرث الماضي والمتطلع للمستقبل تحقيق هذه النقلة النوعية الضرورية لحياة ديمقراطية سليمة في بلداننا العربية بعيداً عن منطق المحاصصة القبلية والطائفية التي تقدم مجموعة من الحروب الأهلية الباردة والساخنة والتوترات المستمرة بين المكونات الاجتماعية المختلفة.

إن مرحلة الربيع العربي وما بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية تتطلب روحاً جديدة يعبر عنها تيار الشباب العربي بخطاب مختلف يقدم القيم التي افتقدناها لعقود، ويؤكد بشكل عملي التطلع الشعبي للنهوض والتقدم والخروج من واقع التخلف الذي كرسته أنظمةٌ ادعت التقدمية وزعمت أنها توفر الرفاه والحماية للناس.

الزمن الثوري يحتاج شباباً يثور على كامل المنظومة القديمة، ويملك من الوعي ما يمكنه من إنتاج أنظمة حديثة لا مكان فيها للنهج الذي أفسد دنيا العرب لعقود عديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.