مثقفون.. وما شبه لنا!

التعامل اللامبالي للمصطلحات
جذور المصطلح واشتقاقاته
مثقفون في بلادنا!
لا شك في أننا عُوِّدنا، على نحو زائد عن المعقول والمقبول، على عمومية معنى المصطلح "ثقافة/ مثقف"، الذي كثيرًا ما يوظف في الصحافة بمختلف فروعها المرئية والمقروءة والمسموعة. فهناك "قنوات ثقافية" و"ملاحق ثقافية" و"مؤسسات ثقافية" و"صفحات ثقافية"، إضافة إلى "مسؤول الصفحة الثقافية"، و"المشرف على…" إلخ.
في الوقت نفسه، فإن قليلا جدًا منا يعرف ما المقصود بالمصطلح، أو لنقل: ليس ثمة من تعريف عربي متفق عليه لمعنى "ثقافة" وبالتالي "مثقف". نعم، هناك منا من يجتهد فيعود إلى معنى جذر المفردة اللغوي (ثقف) ويسحب ذلك على المعنى العام. ربما هذا صحيح لغويًا لكنه لا يفي بالغرض لأن المطلوب ليس المعنى الحرفي (وفي كثير من الأحيان، الممات) وإنما إدراك المعنى المنعكس في فكرنا وأذهاننا، وبالتالي في كيفية استعمالنا له وتوظيفه في حياتنا العامة. وهنا مكمن الخطورة.
التعامل اللامبالي للمصطلحات
قبل الالتفات إلى معنى المصطلح أود أولاً استحضار أمثلة على تعامل البعض اللامبالي، بل حتى "الغوغائي" مع مصطلحات مرتبطة بقضايا معرفية ومصيرية، ومن ذلك على سبيل المثال، إصرار البعض، وهم قلة، على رفض استخدام المصطلح العام "مستعمَرَة" على المستوطنات الصهيونية في فلسطين المحتلة، من منطلق أن الاشتقاق يأتي من "العمار"، (ومن ذلك "العُمرة")، ذو المعنى الإيجابي، متجاهلين في الوقت ذاته أن المصطلح "استعمار" لا يحمل، في أذهاننا أي معان إيجابية.
أُفضِّل توظيف المصطلح "معاداة اليهود" بدلاً من "معاداة السامية" المرتكز إلى أساطير ما أنزل الله بها من سلطان |
في الحقيقة إن المصطلح الإنجليزي (colony, colonization) المترجم إلى العربية "مستعمرة، استعمار" مشتق من اللاتينية "colonia" ذات المعاني العديدة وفي مقدمتها "المزرعة، الحقل" إلخ. والمفردة الأخيرة مشتقة من المفردة اللاتينية "colonus" التي تعني: مزارع، فلاح، حارِث، في إشارة إلى أن أصل الاستعمار هو السيطرة على الأرض أو مصادرتها، ومن ثم زرعها وفلاحتها، أي: عمارها. ومن الجدير بالذكر أن بريطانيا كانت تطلق على مستعمراتها مصطلح "Plantation"، أي: مزرعة.
والأمر ذاته يسري على المفردة "معاداة الساميَّة/ anti-semitism" حيث يصر البعض، من منطلقات غوغائية أو بسبب الجهل بالمقصود، على "عدم صحة منطلق المصطلح لأن العرب (ساميين كذا)". نقول كذا! لأن المرجع الوحيد لهذا التقسيم "العرقي" أو "الإثني" هو كتب اليهودية والمسيحية المقدسة. نعلم أن الأكاديمي النمساوي شتاينشنايدر هو من اجترح هذا المصطلح في معرض رده على أطروحات الفرنسي إرنست رينان الذي ادعى تفوق العرق الآري على العرق السامي، وقصد بالأخير اليهود الذين هم أبناء سام، وفق أساطير أسفار "العهد القديم"، وبالتالي "العهد الجديد"، وخرافاتهم، ومنهم تفرعت شعوب الكون.
المقصود هنا إذن "معاداة اليهود"، وهو تحديدًا ما يعكسه المصطلح بالألمانية "Judenhass" الذي يعني "كراهية اليهود". ولهذا السبب فإنني، كما غيري من الزملاء، أُفضِّل توظيف المصطلح "معاداة اليهود" بدلاً من "معاداة السامية" المرتكز إلى أساطير ما أنزل الله بها من سلطان. فالفقه الإسلامي لا يقبل بهذا من منطلق قوله تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين)، والمقصود، وفق الفقهاء، ذرية نوح، وليس ابنه سام. على أي، لنترك هذا لأنه ليس موضوع مقالنا هذا.
جذور المصطلح واشتقاقاته
الآن ونحن ننظر إلى بلادنا ومعارفنا العلمية في مختلف الحقول، الإنسانية والطبيعية والتطبيقية، بل وحتى زينا السائد، علينا الاعتراف بأنها وأُسسها أتتنا من الغرب، وليس في هذا شتيمة أو نقيصة. ما أقصده أنه حتى نفهم معنى المصطلح ودلالاته علينا العودة إلى معناه الأصلي في لغات أوروبا (الغرب) أي البلاد الأم التي اجترحت المصطلح ومشتقاته.
لا تتوافر لدي معرفة عن بدء استعمالنا المصطلح "مثقف" في اللغة العربية، لكني على يقين من أنه جاء ترجمة للمصطلح "الغربي" (intelligentsia)، حيث وضع فقهاء لغتنا مرادفًا هو "مثقفون"، وهو الفهم السائد، مع أن بعض القواميس تفيد بأن الرديف هو "أهل الفكر"، ولكن البعض يفضل تعريب المصطلح ليستحيل "إنتلجنسيا"، لكن من دون تفصيل المعنى. وثمة رأي عام سائد بين "أهل الاختصاص" بأن "المثقفين/الإنتلجنسيا" لا يشكلون طبقة بحد ذاتها وإنما "فئة".
أما اشتقاق المفردة فهو (intellectualis) المرتبط بالفهم، أي: بالعقل.
في الوقت نفسه، نجد تعميم استخدام المصطلح "مثقف" ليكون رديفًا للمفردة (intellectual) مما يعكس التباسًا، حيث تتم ترجمة المصطلح (Intellectual property) إلى "الملكية الفِكرِية"، سواء أكان المنتَج فكريًا أو لا فكري إطلاقًا.
بالعودة إلى أصل المفردة نجد أنه روسي "إنتلجنسيا" عممه الأديب والمسرحي والصحفي بيتر بوبريكين، في عام 1860، ومنها انتقل إلى اللغات الأخرى حيث دخل اللغة الإنجليزية في عام 1920 واستعمل أولاً بالارتباط مع الفئة في شرقي أوروبة فقط. لكن ثمة أبحاثا جديدة تثبت أن أصل المفردة اللغة الألمانية، من المفردة "intelligenz" استعملت للمرة الأولى عام 1840 لتعني "مجموعة من الأفراد تتميز من بقية المجتمع بمستواها التعليمي ونظرتها التقدمية".
مع هذا فقد اكتسب المصطلح معاني مختلفة تتباين من بلد إلى أخرى، وكذلك جذر الكلمة. فالرديف الحالي في اللغة الألمانية هو "gebildete" المشتق من "Bildung" بمعنى "تعليم". كما تتعامل مدارس فكرية مختلفة مع معنى المصطلح من منطلقات متباينة.
المقصود بالإنتلجنسيا حصرًا العاملون في حقول العلوم الإنسانية، ولا يضم المصطلح العاملين المبدعين في حقول العلوم الطبيعية والعلوم التطبيقية والطب والرياضيات والهندسة |
فمن منظور ماركسي، تشكل "الإنتلجنسيا" فئة متذبذبة انتهازية تقف بين الطبقات (المُستَغِل والمُستَغَل"، وهو ما دفع كل من لينين وتروتسكي إلى اتخاذ مواقف حادة تجاهها، حيث وصفها الأول بأنها "ليست عقل الأمة".
كما أن المفكر الألماني ماكس فيبر عد "الإنتلجنسيا" فئة اجتماعية تتميز من بقية الفئات أو الطبقات من منطلقي الخاصية، أي الصفة المميِزة، وكذلك المصلحة.
معنى المفردة حاليًا، كونها صفة: الارتباط بالمقدرة على التفكير على نحو منطقي بما يعني بالضرورة الدراسة والتفكير العميقين. وهذا يعني بالتالي التطور على أسس معرفية وليس عاطفية، أي: استخدام العقل (على نحو خلاق ومبدع).
كما يستخدم المصطلح (المفكِّر/intellectual) المرتبط بالمصطلح "إنتلجنسيا"، على نحو عام، للدلالة على مفكرين محترفين ينتمون إلى أعلى الطبقة الوسطى، هدفهم الرئيس اجتراح المعرفة ونشرها. هذه التعريفات المتقاربة تعني أن المقصود بالإنتلجنسيا حصرًا العاملون في حقول العلوم الإنسانية ولا يضم العاملين المبدعين في حقول العلوم الطبيعية والعلوم التطبيقية والطب والرياضيات والهندسة.. إلخ.
مثقفون في بلادنا!
نلاحظ مما سبق أن ثمة مدرستين فكريتين بخصوص الإنتلجنسيا. فمن ناحية ثمة مدرسة فكرية ماركسية ما زالت قائمة وحية وتسود عوالم الأبحاث الإنسانية، رغم هزيمة المعسكر الشيوعي واندثاره عالميًا، تنظر إلى المثقفين على أنهم فئة متذبذبة وانتهازية، أي نظرة سلبية للغاية.
المقصود بالنظرة السلبية هنا ليس التشكيك في مقدرات أفرادها الإبداعية في مختلف المجالات ذوات العلاقة من فن وكتابة وأدب وما إلى ذلك من فنون، وإنما الحكم على مواقفها السياسية. فوقوفها بين الطبقات، أي بين المستغِل و"المستغَل"، بين الفقير والغني، بين القوي والضعيف، بين المالك ومن لا يملك. قلة قليلة منهم يتخذون موقفًا منحازًا للطرف الأضعف، وهم عادة من يوصفون بأنهم "ملتزمين، ثوريين"، إلخ.
المدرسة الثانية، وكما أسلفنا تميز الإنتلجنسيا بمقدراتها ليس غير. فالقول إنها "الارتباط بالمقدرة على التفكير على نحو منطقي بما يعني بالضرورة الدراسة والتفكير العميقين.. وبالتالي التطور على أسس معرفية وليست عاطفية، أي: استخدام العقل (على نحو خلاق ومبدع)" لا يلامس، في ظننا، المسألة الجوهرية التي هي، كما نرى، ما المكان الذي تصب فيه نتائج هذا "التفكير المنطقي" وفي خدمة من؟. ثمة نظريات اجتماعية عديدة نتاج دراسة وتفكير عميقين، أي نتاج استخدام العقل، لكنها تخدم أهدافا غير سوية لصالح فئة ظالمة، سواء كان الظلم فكريا أو ماديا.
بالعودة إلى "مثقفينا" العرب، الذين كثيرًا ما تردنا إشارات إليهم ومنهم في مختلف وسائل الإعلام، فإننا نصاب بالتخمة، ليس بسبب دسم "الوجبات" وإنما نتاج ورم. فعلى سبيل المثال، معظم الصحف العربية تحوي صفحات ثقافية، إما يومية أو أسبوعية، وبعضها يخصص ملحقًا أسبوعيًا "للشؤون الثقافية" وما إلى ذلك.
وعندما ننظر إلى أسماء مسؤولي تلك الصفحات، فعادة ما نرى أن صفته "شاعر" (يبدو لنا أن ثمة منا من يتوهم أن "رجولته" لا تكتمل إلا إذا صار شاعرًا! ونرى أن هذه الآفة قد اخترقت صفوف شقيقاتنا أيضًا)، طبعًا مع حفظ الألقاب، والاعتذار من المتنبي ومن آخر كبار شعراء العرب في العصور الحديثة الجواهري .
وفي أحيان أخرى نرى المسؤول (ملاحظة عارضة: ليس ثمة من (مسؤولة) عن صفحة ثقافية، على ما اطلعنا عليه) أديبًا؛ مرة أخرى مع حفظ الألقاب والاعتذار من أدبائنا ومفكرينا ومبدعينا الكبار، من دون ذكر أسماء، فقط كي لا نظلم من نكون قد سهونا عنه. مع ذلك نؤكد أن اختيار هذا المسؤول أو ذاك في أي من وسائل الإعلام (أو التضليل، إن أردتم) يتم على أسس الولاء السياسي والشهرة التي عادة ما تروجها الوسائط الشعبوية، المسيسة، في كثير من الأحيان، حتى نخاع العظم.
هذا يقودنا إلى فرع آخر من "الإنتلجنسيا" ألا وهو الإبداع الأدبي ونستثني هنا الشعر، الذي هو ديوان العرب، ولسنا في حاجة إلى تعلم فنونه في لغتنا من غيرنا. ففي لغات من تعلمنا منهم الكثير، وعلينا مواصلة تعلمنا وأخذ ما يفيدنا ونطوره إبداعيًا، ثمة مفردات عديدة للأعمال الأدبية مثل الرواية والقصة والقصة القصيرة والمقالة (essay) وغيرها.
وثمة أيضًا ما يسمى (belles-lettres) والمقصود به أعمال أدبية ذات قيمة جمالية أو كمال قالت العرب قديمًا، أسطاطيكا، وهي تعريب للمفردة اليونانية (aisthetikos) التي تعني: حساس، حاد، متسم بالتفهم العاطف، والفعل يعني: الإدراك بطريق الحواس.
ليس كل من كتب كتابًا صار أديبًا، وليس كل من رص مفردات غير مترابطة صار شاعرًا، وليس كل من كتب عامودًا صار صاحب مقالة، وليس كل من كثر ظهوره على التلفزيون صار محللاً أو مفكرًا |
لا نود الاستطالة في هذا الموضوع حيث نرى أننا نقلنا الأفكار الرئيسة ذات العلاقة بما يساعدنا على امتلاك أدوات التحليل الصارمة عند الحكم على هذا أو ذاك من الأعمال، وهذا أو ذاك من الأفراد والمجموعات التي عينت نفسها "مثقفون"!.
لكن ليس كل من كتب كتابًا صار أديبًا، وليس كل من رص مفردات غير مترابطة أكثرها غير مفهوم المعنى صار شاعرًا (وطبعًا، فيلسوفًا)، وليس كل من كتب عامودًا صار صاحب مقالة (essayist)، وليس كل من كثر ظهوره على التلفزيون صار محللاً أو مفكرًا.
الواقع أن كثيرًا ما يشكوا أهل الاختصاص في الغرب من قيام وسائل الإعلام (أو التضليل) في بلادهم، بتعيين خبراء للحديث في مواضيع لا علم لهم بها، أو أنهم ينشرون أفكارًا شعبوية سياسية الأهداف والمآرب.
لذا، ننصح أنه عندما نقرأ بيانًا أو إعلانًا صادرا عن "مثقفين" أو نسمع عن ملحق ثقافي أو مجلة ثقافية.. إلخ أن نأخذ نفسًا عميقًا كي نتجنب ارتفاع ضغط دمنا، الضار حقًا، وأن لا نصدق كل ما تحاول وسائل التضليل إيهامنا بأنه حقيقة، لأن: ليس ذهبًا كل ما يلمع!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.