التيار القومي في سوق السياسة التونسية
السياسة هي السوق الأعظم بل هي أم الأسواق جميعا، فهل يدخلها التيار القومي ويلتزم قانونها الأساسي القائم على إتقان التفاوض، ومبدئها الرئيسي المعروف بفن تحقيق الممكن، وهدفها المنشود القائم على تحقيق الحد الأدنى المطلوب؟
للتذكير فقط، ولد التيار القومي في تونس في ظل إرث كبير من النضال والمعاناة التي خلفتها تجارب قومية سابقة، بداية من اليوسفية ووصولا إلى عملية قفصة المسلحة التي نفذتها الجبهة القومية التقدمية.
ولد في شهر أبريل/نيسان من سنة 1977، في أروقة الجامعة التونسية من رحم النضال الطلابي، وفي ذكرى اليوم العالمي لمقاومة الإمبريالية، وفي ساحة سياسية تهيمن عليها الفصائل الماركسية ويتحسس فيها اتجاه جديد هو الاتجاه الإسلامي طريقه إلى التوسع والانتشار وافتكاك المواقع.
ولد التيار القومي في ظل دولة قمعية بوليسية رغم شعارات الحداثة التي كانت ترفعها، والبلاد تئن تحت هيمنة الحزب الواحد هو الحزب الاشتراكي الدستوري الذي انصهر في الدولة وتقمص دورها |
ولد التيار القومي في ظل دولة قمعية بوليسية رغم شعارات الحداثة التي كانت ترفعها. ولد التيار القومي والبلاد تئن تحت هيمنة الحزب الواحد هو الحزب الاشتراكي الدستوري الذي انصهر في الدولة وتقمص دورها إلى أن أصبح هو هي والعكس صحيح.
ولد التيار القومي حاملا ذكرى التنظيمات القومية التي سبقته ومستبطنا نضالها ضد البورقيبية وخياراتها الفرنكو-تغريبية. ولد مناضلا ضد "الدولة الإقليمية" لأن مشروعه الوحدوي كان نقيضا لها ولوجودها. ولد باحثا عن ضالة سياسية فوجدها في إرث جمال عبد الناصر وفي الناصرية، وأخرى فكرية فوجدها في أعمال عصمت سيف الدولة وفي نظريته للثورة العربية.
ولد في شكل تنظيم يسمى "الطلبة العرب التقدميون الوحدويون". ولد مدافعا عن فلسطين بدرجة أولى وعن كل قضايا الأمة العربية، تحرك كلما تعرض قطر عربي للاعتداء أو الاحتلال سواء كان في المحيط أو في الخليج. نشأ مساندا للقضايا العربية الوطنية منها والقومية مع أنه لم يعرف عنه الارتباط أو حتى مجرد التعامل بأي شكل من الأشكال مع أي من الأنظمة العربية بما في ذلك تلك التي تبنت التوجه القومي العربي، فقد كان ذلك كفرا لا يُغتفر.
كان التيار القومي حاضرا في المحطات السياسية المهمة منددا بزيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس وتوقيع اتفاقية كامب ديفد سنة 1979 ومجرّما إياها، ومتظاهرا ضد غزو لبنان واحتلال عاصمة المقاومة العربية بيروت ومجزرة صبرا وشتيلا سنة 1982، وضد قصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط سنة 1985 وضد الاعتداء على ليبيا سنة 1986 وضد عدوان 39 دولة على العراق سنة 1991.
لقد كان حاضرا في كل المحطات العربية ولكنه لم يغب عن المحطات الوطنية مثل الإضراب العام سنة 1978 وأحداث قفصة سنة 1980 وانتفاضة الخبز سنة 1984، لقد كان حاضرا في كل الصراعات الطلابية حول قضايا الاتحاد العام لطلبة تونس وتجاذبات المؤتمر 18 وفكرة التأسيس الموازية وأفق التجاوز في ظل الأزمة المزمنة التي دامت طيلة الفترة الممتدة ما بين 1971 و1988.
ولد التيار القومي وخاض معارك فكرية شرسة مع اليساريين الماركسيين وطلبة الاتجاه الإسلامي وكل من عاش الجامعة التونسية في تلك الفترة يعرف ذلك جيدا، واستطاع أن يكسر ثنائية اليسار واليمين فأرسى خطا سياسيا وسطيا بين الطرفين سرعان ما تنامى حجمه وتوسع أنصاره حتى شدّ إليه أنظار كافة المهتمين بالشأن الطلابي والسياسي عموما، قبل أن تضرب حكومة بن علي الحركة الطلابية بيد من حديد سنة 1992 في إطار صراعها مع حركة النهضة وتقضي على أي وجود سياسي طلابي ولو إلى حين.
نشأ التيار القومي وتوسع ليتحول إلى تيار شعبي له امتدادات في الأوساط الشعبية والمنظمات الجماهيرية النقابية والحقوقية وحتى الطلابية من خلال تنظيم جديد هو الطلبة القوميون الذين خاضوا كل النضالات الطلابية ضد نظام بن علي منذ مطلع التسعينيات وإلى حين سقوطه سنة 2011.
ولقد اختارت الأغلبية الساحقة الاحتماء بالنشاط النقابي والحقوقي والطلابي، فالتيار القومي كان طرفا يتم التفاوض معه على تلك الخلفية في مؤتمرات المنظمة الشغيلة، وفي الجلسات العامة لهيئة المحامين وتشكيل عمادتها وفي جمعية المحامين الشبان.
عاش التيار القومي كل المحطات النضالية ضد نظام بن علي من داخل المنظمة النقابية الكبرى وساهم في إضراباتها وتحركاتها، وكثيرا ما كان يقود تلك التحركات على رأس النقابات المحلية والجهوية الكبرى مثل نقابتي التعليم الثانوي والابتدائي، قاد التحركات المناوئة لاحتلال العراق سنة 2003، وكان حاضرا في أحداث الحوض المنجمي وقدم المساجين سنة 2008، ولم يغب عن أحداث بنقردان سنة 2010.
ومن غير المبالغة القول إن التيار القومي كان فاعلا متميزا وليس الوحيد في انتفاضة 17 ديسمبر/كانون الأول التي انتهت ثورة أسقطت نظام بن علي، ولقد بات الناس في سيدي بوزيد وفي العاصمة وفي غيرها من الحواضر يعرفون جيدا الأسماء النقابية التي تنتمي إلى ذلك التيار ولم تتخلف أبدا عن صدارة الأحداث والمظاهرات والمواجهات منذ أن أحرق البوعزيزي نفسه يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 وإلى يوم 25 فبراير/شباط 2011 يوم أن سقطت حكومة الغنوشي الثانية وسقط معها نظام بن علي نهائيا.
الاختبار الأول الذي خاضه التيار القومي من أجل الانتظام الحزبي والمشاركة في الانتخابات، أفضى إلى فشل ذريع وإلى خيبة أمل لم يعش مثلها القوميون في تونس |
لقد فكت الثورة التونسية أسر التيار القومي، لكن الاختبار الأول الذي خاضه هذا التيار من أجل الانتظام الحزبي والمشاركة في الانتخابات قصد الدخول إلى المجلس التأسيسي المؤتمن الوحيد على مستقبل البلاد وفق مطالب الثورة، أفضى إلى فشل ذريع وإلى خيبة أمل لم يعش مثلها القوميون في تونس.
لقد أفضى الاختبار إلى أن دعاة الإيمان بوحدانية الخالق والوحدة العربية والوحدة الفكرية هم أكثر الناس ميلا إلى التشتت والانقسام وإلى الزعامة المفرغة من أي رصيد قيادي أو زعامي حقيقي، فتجربة السرية التي امتدت طيلة نظام بن علي لم تفرز زعيما أو قائدا مُجمعا عليه من قبل أبناء التيار القومي يستطيع أن يحظى بإجماع الداخل ويملأ عيون مريديه في الخارج بسبب دوره الإعلامي والدعائي والنضالي وقدرته على الإقناع.
وبسبب ذلك برزت الزعامات الخالية من مثل ذلك الرصيد وانتهت أول تجربة حزبية إلى تأسيس حزبين كل يدعي تمثيليته للتيار القومي (حركة الشعب وحركة الشعب الوحدوية)، وغياب آخرين عن كليهما (رابطة القوميين التقدميين) لاعتقادهم أن كلا الحزبين لا يمثل ذلك التيار.
ورغم محاولات التوحيد فإن وجود الحزبين كان هو الحقيقة العارية من كل مسوغ أخلاقي والتي ميزت المشاركة في الانتخابات وكانت معها حقائق أخرى تمثلت في وجود قائمتين مستقلتين على الأقل في كل ولاية يوجد على رأسها أو هم كافة أعضائها من التيار القومي التقدمي، مما يعني أن التيار القومي خاض انتخابات التأسيسي بأربع قوائم على الأقل في كل ولاية يضاف إليها قائمات قومية أخرى بعثية وعروبية يسارية.
ولقد أفضت تلك الحقائق المتعددة إلى حقيقة مرّة هي أكبر الحقائق تمثلت في أن خمسين سنة من نضال الحركة القومية في تونس بيوسفييها وناصرييها وبعثييها قد ذهبت هباء منثورا ولم تتحصل تلك الحركة إلا على مقعدين يتيمين في برلمان الثورة التونسية أي المجلس التأسيسي، ولم يكن ذلك عن جدارة وإنما بواسطة أفضل البقايا مكرمة من المرسوم الانتخابي ومن الأحزاب الفائزة بأغلب المقاعد. وقد عبرت عن ذلك إحدى الناشطات القوميات في الفضاء الافتراضي قائلة: "ماذا فعلنا لشعبنا لكي يعاقبنا شر عقوبة ولا نحصل إلا على عدد لا يكاد يذكر من مقاعد المجلس التأسيسي"؟
إن الواقع يجيب على هذا السؤال المرير بأن الشعب كان دائما ينظر بعين الاحترام والإيجابية للتيار القومي ولكل من ناضل من التيارات والأحزاب الأخرى ضد استبداد نظام بن علي وفساده، وفي أقل الأحوال لمن لم ينخرط فيه. ولكن التيار القومي أو هم قياداته قادوه في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ تونس إلى التشظي والانقسام والتراشق بالسب والشتم على أعمدة الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية، وقد بلغ الأمر إلى حد العنف المتبادل بين إخوة الأمس.
استيقظ الضمير بعد أن كانت النكبة كبيرة وعاد الفرقاء الإخوة الألداء من جديد إلى فكرة التوحيد على ما في ذلك من تأخر عسى أن يفرزوا حركة سياسية جديدة واحدة موحدة. لكن ذلك مشروط بشروط عسيرة هي الآتية:
– إن تأمين نجاح المرحلة الجديدة يستوجب انسحاب الوجوه القيادية القديمة التي ارتبطت أسماؤها بالفشل الانتخابي والانقسام الحزبي مهما كانت نقاوتها وصدقيتها.
– إن مقتضيات السياسة في ظل الثورة والديمقراطية تقتضي تغيير قوالب التحالفات القديمة والانفتاح السياسي على مختلف الأحزاب والكتل السياسية وعدم الاقتصار على البعض منها ممن كانت معه صداقة ومصالح في المنظمة النقابية أو الحقوقية أو غيرها زمن السرية.
– إن التيار القومي في تونس وعلى عكس العديد من الأحزاب الأخرى لا يعيش غربة عن مجتمعه، فأرضية العروبة والإسلام التي يفترشها والمتأصلة في فكر رواد الحركة الإصلاحية في المغرب العربي من أمثال الثعالبي التونسي وابن باديس الجزائري وعلالة الفاسي المغربي وفي الفكر السياسي لدى صالح بن يوسف زعيم المقاومة التونسية وأحمد بن بلة قائد الثورة الجزائرية وعبد الكريم الخطابي قائد ثورة الريف المغربية، توفر له مصداقية لدى شعبه وتمكنه من كسب ثقته على أن يفعّل رؤيته للعروبة ويخرج بها من الطوباوية المعلقة إلى الترجمات العملية الملموسة، وأن يفعّل رؤيته للإسلام ويخرج بها من مجرد الالتزام ببعض العبادات التي يقوم بها أنصاره شأنهم شأن عامة الناس إلى مشروع مجتمعي متأصل ولا يتميز بالجمود.
– إن إعادة إنتاج النظريات والأيديولوجيات القومية التي تملأ الكتب والتي صيغت في زمن المد القومي في الستينيات وهو الزمن العربي المختلف، وعدم ترجمتها إلى برامج سياسية واقعية وخطط طريق في كيفية تنفيذها سيأتي على تجربة التيار القومي، لأن الناس لا يأكلون نظريات أو شعارات وصور الزعامات وإنما يأكلون خبزا، ناهيك أن المقولات الفكرية الكبرى للقوميين قد تفرقت في السنوات الأخيرة بين الأحزاب والتنظيمات السياسية وباتت ملكا مشاعا بينها مثل فكرة الهوية العربية الإسلامية لتونس والدفاع عن القضية الفلسطينية.
رسالة جديدة يجب أن يبلغها التيار القومي للأصدقاء قبل الأعداء وهي أن العروبة الجديدة تأبى الاستبداد ولو كان باسم القومية العربية أو باسم الإسلام، وأن الديمقراطية هي صمام أمان العيش المشترك في المجتمع |
– إن رسالة جديدة يجب أن يبلغ فحواه للأصدقاء قبل الأعداء وهي أن العروبة الجديدة تأبى الاستبداد ولو كان باسم القومية العربية أو باسم الإسلام، وأن الديمقراطية هي صمام أمان العيش المشترك وهي الآلية الوحيدة لتنظيم الاختلاف والتعدد في المجتمع الواحد وعلى أرضيتها يحدد التيار القومي علاقاته وتحالفاته مع الأقربين في الهوية الفكرية وفي المشروع المجتمعي ككل.
– إن ملائمة رؤية اقتصادية وتنموية واقعية لدى التيار القومي قابلة للتنفيذ آخذة بعين الاعتبار التشابك الحاصل اليوم في الاقتصاد العالمي بين الاقتصاديات الوطنية والشركات الكبرى والدور الذي تقوم به المؤسسات الدولية القارضة في التحكم في تلك الاقتصاديات، مع رغبة ذلك التيار وحنينه إلى المقولات الاشتراكية التي وضعها منظروه، هو السبيل الوحيد دون الوقوع المدوي في أول مشاركة في السلطة قد يوفرها له الصندوق الديمقراطي إذا هو استجاب للشروط التي تقتضيها سوق السياسة.
عموما يمكن الإقرار أن التيار القومي في تونس الذي بات يشتغل سياسيا من خلال حزب ناشئ بعد الثورة اختار له اسم حركة الشعب وعقد مؤتمره التأسيسي للتيار القومي الموحد في الأسبوع الأخير من شهر فبراير/شباط 2012، يتميز بميزة قد لا تتوفر لغيره من الأحزاب السياسية الناشئة أو حتى القديمة منها، وهي الانتشار الواسع في الطبقة الوسطى المتعلمة وفي مختلف مناطق البلاد، حيث تمسح مقراته أكثر من 60 مقرّا.. فأي دور يستطيع أن يقوم به في لعبة الحكم بعد أن طال به الأمد في مقعد المقاومة والمعارضة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.