من يخلف البابا شنودة؟
اعتاد البابا شنودة أن يمسك بكل خيوط الأمور، واستطاع أن يحقق كاريزما قبطية متميزة وأن يفرض نفسه على الشأن القبطي المصري داخل الكنيسة وخارجها، ومن المعروف أن منصب البابا يظل مرتبطا بالشخص الذي تم اختياره حتى يموت ولا يمكن تغييره بقرار سياسي أو كنسي طالما ظل مرتبطاً بالكرسي.
وحتى الرئيس السادات عندما أراد الإطاحة بالبابا شنودة عام 1981 في إطار ما يسمى بقرارات سبتمبر 1981 لم يجد طريقة إلى ذلك إلا شلحه عن كرسي البابوية فقط، وليس عزله وتعيين كاهن آخر مكانه.
البابا شنودة كان شخصية قوية يتمتع بكاريزما كبيرة، وظل بطريركا للكنيسة المصرية "بطريرك الكرازة المرقسية" منذ اعتلائه المنصب عام 1971 خلفا للبابا كيرلس السادس |
على أي حال؛ فإنّ البابا شنودة كان شخصية قوية يتمتع بكاريزما كبيرة وقد ظل بطريركا للكنيسة المصرية "بطريرك الكرازة المرقسية" أي كنيسة القديس مرقص، الأرثوذكسية التي تضم المسيحيين الأرثوذكس الشرقيين خاصة في مصر وإفريقيا وبعض بلاد المهجر، منذ اعتلائه المنصب عام 1971 خلفا للبابا كيرلس السادس.
والبابا شنودة هو البطريرك رقم 711 في تاريخ الكنيسة المصرية، ولا شك أن فترة رئاسته للكنيسة شهدت العديد من التطورات الإيجابية والسلبية.
إلا أن السمة الرئيسية لتلك الفترة كانت الارتباط القوي بشخصية البابا، وأنه استطاع أن يمسك بكل الخيوط، ويربط الكنيسة بشخصه بصورة واضحة، ولا شك أن فترة رئاسة البابا شنودة للكنيسة اختلفت اختلافاً نوعياً عن الفترة السابقة فترة البابا كيرلس.
ويرجع هذا الاختلاف إلى عاملين أساسيين هما: شخصية البابا شنودة القوية، واختلاف الظرف السياسي والاجتماعي المصري والعربي والدولي في فترة حكم البابا شنودة، فقد شهدت تلك الفترة تطوراً داخلياً مصريا، باتجاه الانفتاح الاقتصادي ثم التحالف المصري الأميركي، وتوقيع اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني عام 1978 والصدام مع الدول العربية، ثم نهاية عصر السادات وصعود الرئيس مبارك للسلطة، ثم تتابع انفراط الصمود العربي باتجاه التطبيع السري أو العلني مع الكيان الصهيوني، وسقوط الاتحاد السوفياتي السابق، وانفراد أميركا بالهيمنة على العالم ثم اندلاع ثورة يناير/كانون الثاني 2011.
وترجمة ذلك بالنسبة للأرثوذكس في مصر هو تغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي الداخلي وضعف قبضة الدولة وخاصة في المجال الفكري، ومن ثم أصبحت هناك أفكار تعادي سياسة الدولة أو لا ترتبط بها.
ومن ثم وجود ولاءات دينية أو طائفية عابرة للدولة، وكذا تقلص مساحة الطبقة الوسطى المصرية، ووجود عامل خارجي يمكن له أن يلعب على الوتر الطائفي، أو يمكن للقوى الطائفية أن تستفيد منه في تعظيم قيمتها ومكاسبها داخليا، ويمكن أن نقول إن هناك عدداً من التميزات ارتبطت بالبابا شنودة وفترة رئاسته للكنيسة على النحو التالي:
ـ زيادة ارتباط المسيحيين الأرثوذكس بالكنيسة، لغياب أو ضعف الدور السياسي للدولة، أو لشخصية البابا نفسه أو لوجود ظروف دولية تدفع في هذا الاتجاه.
ـ ظهور أحداث فتنة طائفية متكررة، بل يمكن أن نقول إن الفتنة الطائفية تحولت من ظاهرة عابرة إلى أزمة بنيوية.
ـ تدخل البابا شنودة شخصيا في الشأن السياسي العام والخاص، بمعنى أن البابا خالف تقاليد الكنيسة المصرية التاريخية والتي تميز بها بصورة خاصة البابا كيرلس في عدم التدخل في السياسة، والاهتمام فقط بالشأن الروحي المسيحي الأرثوذكسي. وكان لذلك آثار كبيرة على الشأن المصري حيث أصبح المراقبون ينظرون إلى الكنيسة كحزب سياسي يضم كل الأرثوذكس بقيادة البابا شنودة.
ـ زيادة نفوذ ما يسمى بأقباط المهجر، نظراً لاتساع أهمية الإعلام والتداخل الدولي وكون العالم أصبح قرية إلكترونية صغيرة وكذا نظرا للنفوذ المالي لهؤلاء، وأيضاً لتلقيهم الدعم المباشر وغير المباشر من المنظمات أميركية وأوروبية وأحيانا صهيونية.
من المتوقع حدوث هزة كبيرة في الكنيسة المصرية بغياب البابا شنودة، أولا لأن من الصعب أن يخلف البابا شخصية قوية قادرة على فرض طاعتها، وثانيا لأن هناك قوى وتيارات تتربص بتلك اللحظة |
وهكذا فنحن أمام شخصية قوية، حكمت الكنيسة لمدة طويلة -41 عاماً- أحدثت تغييرات قوية في البنيان الكنسي التقليدي، وشهدت تغييرات درامية على الصعيد المصري والعربي والعالمي.
ومن ثم فإن غياب مثل هذه الشخصية سوف يكون له تأثير كبير على الواقع الكنسي المصري وربما الواقع الاجتماعي والسياسي المصري، وبديهي أن الشخصيات القوية عندما تحكم مؤسسات معينة لمدة طويلة، فإن غيابها يحدث نوعا من الهزة وأحياناً التفكيك في تلك المؤسسة، وهذه حقيقة يعترف بها علم الاجتماع السياسي، ولكن لكل حقيقة بالطبع استثناءات.
يبلغ المسيحيون المصريون عموما حوالي 6% من سكان مصر وفقا للإحصاءات الرسمية، ولكن هناك من يقول إن النسبة أقل من ذلك، وآخرون يقولون -خاصة داخل أوساط الكنيسة- إن النسبة تبلغ 10%، ولكن على كل حال فإن النظرة العلمية تقول إن النسبة الرسمية المعلنة من أجهزة الإحصاء المصرية صحيحة إلى حد كبير، لأن التعدادات السابقة حتى في عصر الاحتلال الإنجليزي كانت تقترب من ذلك. وبديهي أن النسبة تقل باطراد لأسباب الهجرة، وأسباب تتصل بارتفاع سن الزواج عند المسيحيين وعدم وجود تعدد زوجات.. الخ.
ويبلغ الأرثوذكس من مجموع المسيحيين النسبة الأكبر "حوالي 90% من المسيحيين المصريين"، وتبلغ عدد الكنائس في مصر 1683 كنيسة رسمية بالإضافة إلى 717 كنيسة جارٍ حصولها على التراخيص. أي أن العدد الكلي حوالي 2400 كنيسة.
ووفقا لتقاليد الكنيسة المصرية فإن انتخاب البابا يكون عن طريق القانون الصادر عام 1957 والذي تم على أساسه انتخاب البابوين الأخيرين "كيرلس – شنودة" وتنص لائحة ذلك القانون على أن يصوت على المرشحين للمنصب أعضاء المجمع المقدس المكون من الأساقفة في الداخل والمهجر، وكذا وجهاء الأقباط في كل مدينة تقع فيها مطرانية.
ويقدر البعض عدد من لهم حق التصويت على البابا حاليا بحوالي 2000 شخص، ويتم اختيار أعلى ثلاثة من المرشحين حصولاً على الأصوات، ثم تكتب أسماؤهم في أوراق ثم توضع في صندوق صغير، في غرفة مظلمة، ثم يقوم أحد الأطفال بسحب ورقة واحدة من الصندوق، ومن يخرج اسمه في هذه الورقة يكون هو البابا، ويصدر رئيس الجمهورية قرارا بترسيمه بابا للكنيسة، ولا يحق له عزله بعد ذلك.
ويمكننا أن نرصد ثلاثة اتجاهات تتصارع للفوز بمنصب البابوية، وبديهي أن هناك تداخلات وتقاطعات داخل هذه الاتجاهات. وبعيدا عن الخوض في أسماء من يمثلون تلك الاتجاهات أو من سيقع عليه الاختيار داخل كل اتجاه لدفعه للترشيح لمنصب البابوية، فإن تلك الاتجاهات تتمثل في:
ثلاثة اتجاهات تتصارع للفوز بمنصب البابوية: الأول مجموعة البابا نفسه، والثاني التيار المنفتح على أميركا والمهجر، أما الثالث فيرى ضرورة الاقتصار على الأمور الروحية وعدم ممارسة السياسة |
وهناك اتجاه ثالث يرى ضرورة عودة الكنيسة إلى سابق عهدها في الاقتصار على الأمور الروحية وعدم ممارسة السياسة، وأن سلوك البابا شنودة السياسي قاد الكنيسة والمسيحيين الأرثوذكس إلى مجموعة من الأزمات بلا داع ولا ضرورة، وإن من الخطر المراهنة على المشروع الأميركي بل يجب الانحياز إلى المشروع الوطني والانفتاح على القوى السياسية المصرية، خاصة مع صعود التيار الإسلامي في مصر والمنطقة.
وهذا الاتجاه بالطبع يحظى برضا المؤسسات المصرية، وهذه بلا شك لا تملك أصواتاً داخل المجمع الانتخابي الأرثوذكسي، ولكنها تملك نفوذاً غير منظور يمكن أن يؤثر تأثيراً كبيراً على العملية الانتخابية.
ويمكننا أن نتوقع صراعا ساخنا، علنيا ومستترا بين تلك التيارات والاتجاهات، وبين اتجاهات أخرى قد تبرز لإحداث نوع من التوازن أو حدوث انشقاقات أو تغير طبيعة المعركة من معركة بين اتجاهات سياسية وفكرية إلى اتجاهات تمثل جهات أو مناطق أو أجيالا داخل الكنيسة.
وعلى نتيجة ذلك الصراع سوف تتحدد الكثير من الأمور والقضايا، وسوف يكون لها تأثير كبير على مستقبل الكنيسة المصرية، وعلى شكل الحياة السياسية في مصر لفترة غير قصيرة قادمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.