إيران في انتظار "الخروج الآمن" للرئيس

ايران في انتظار "الخروج الآمن" للرئيس الكاتب: محمد عباس ناجي

undefined

صراع الكبار
محاولة احتواء الرئيس
خاتمي يرتدي عباءة النظام
رفسنجاني يعود إلى الواجهة

كان مثول الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أمام مجلس الشورى الإسلامي يوم 14 مارس/آذار 2012 سابقة في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عبرت إلى حد كبير عن مدى الانشقاق والأزمة التي يعاني منها النظام الإيراني، وهي أزمة ليست جديدة وإنما "متجددة" بسبب التداخل الشديد في الصلاحيات التي يمنحها الدستور لكل من المرشد الأعلى للجمهورية والرئيس.

فقد تصور البعض أن التشكيك في شرعية فوز الرئيس أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية في الانتخابات التي أجريت في يونيو/حزيران 2009 والذي تسبب في أزمة سياسية حادة ما زالت تداعياتها باقية حتى الآن، فضلا عن التأييد العلني والقوي من جانب المرشد للرئيس في مواجهة خصومه من الإصلاحيين المعترضين على نتائج الانتخابات الرئاسية، سوف يدفع الرئيس إلى تأكيد ولائه للمرشد والعمل من داخل عباءته.

صراع الكبار
لكن العكس هو ما حدث، فقد وسّع فوز الرئيس بولاية ثانية من حرية الحركة وهامش المناورة المتاح أمامه، على أساس أن الدورة الثانية هي الأخيرة له طبقا للدستور، ومن ثم بدأ في انتهاج سياسة مستقلة وسعى إلى توسيع صلاحياته التنفيذية، فاتجه أولا إلى الهجوم على البرلمان معتبرا أنه لم يعد محورا للنظام السياسي الإيراني كما كان خلال عهد الخميني، ثم سعى إلى الإطاحة بالمقربين من خصومه في التيار المحافظ الأصولي من داخل الحكومة مثل وزير الخارجية السابق منوشهر متكي الذي صدر قرار إقالته خلال اجتماعه مع الرئيس السنغالي في ديسمبر/كانون الأول 2010 مما شكل أيضا سابقة في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأخيرا تعمد تحدي بعض قرارات المرشد نفسه مثل المماطلة في إقالة نائبه الأول أسفنديار رحيم مشائي ثم تعيينه مديرا لمكتبه.

اضطر خامنئي إلى الدخول في مواجهة علنية مع نجاد من أجل إحراجه وإظهار قوته الحقيقية، لا سيما بعد الدعم الملحوظ الذي أبداه الرئيس للتيار الذي يقوده رحيم مشائي

وهنا اضطر المرشد إلى الدخول في مواجهة علنية مع الرئيس من أجل إحراجه وإظهار قوته الحقيقية، لا سيما بعد الدعم الملحوظ الذي أبداه الرئيس للتيار الذي يقوده رحيم مشائي والذي بات يسمى في إيران بـ"تيار الانحراف" بسبب تبنيه فكرة "العودة القريبة للإمام" و"المدرسة الإيرانية للإسلام" وغيرها.

وكانت أزمة إقالة وزير الاستخبارات حيدر مصلحي من منصبه في أبريل/نيسان 2011 هي ذروة الخلاف بين الطرفين، حيث طالب المرشد الرئيس بإعادة الوزير إلى منصبه. ورغم أن أحمدي نجاد ماطل في الاستجابة إلى طلب المرشد واعتكف في منزله لمدة أحد عشر يوما، فإنه أجبر في النهاية على الاستجابة.

وفي هذه اللحظة بدأ الرئيس يتعرض لمزيد من الضغوط سواء من جانب رجال الدين الذين أخذوا عليه تمرده على قرارات المرشد وتبنيه فكرة "العودة القريبة للإمام" التي تخصم من أهمية منصب الولي الفقيه الذي يمثل "همزة الوصل" بين الإمام وجمهور الشيعة، أو من جانب خصومه من المحافظين الأصوليين الذين انتقدوا سياساته الانفرادية ومحاولاته الالتفاف على صلاحيات مجلس الشورى. 

ومن هنا اكتسبت انتخابات الدورة التاسعة لمجلس الشورى التي أجريت في الثاني من مارس/آذار 2012 أهميتها، حيث أنضجت معالم الاستقطاب السياسي الجديد الذي سوف يفرض نفسه على الساحة السياسية الإيرانية في المرحلة المقبلة، بعد أن أصبح انقسام التيار المحافظ الأصولي إلى أكثر من جناح سياسي حقيقة لا تقبل الشك بسبب السياسات والتوجهات التي تبناها الرئيس أحمدي نجاد والتيار الذي يدعمه.

وقد أسفرت نتائج الانتخابات عن نجاح المرشحين الموالين للمرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي وخسارة بعض رموز وكوادر التيار الذي يدعمه الرئيس أحمدي نجاد. وقد دفع ذلك العديد من خصوم الرئيس أحمدي نجاد إلى ترجيح انتهاء "النجادية" كتيار سياسي ظهر على الساحة الإيرانية خلال الأعوام الأربعة الأخيرة وأثار أزمات عديدة مع المرشد وأنصاره من رجال الدين والمحافظين الأصوليين.

لكن ربما تكون هذه التكهنات مبالغا فيها أو سابقة لأوانها لاعتبارات عديدة: أولها، أنه يصعب رسم حدود الاصطفافات السياسية داخل البرلمان الجديد على الأقل في الوقت الحالي بسبب غموض الانتماءات السياسية للمستقلين الذين سوف يمثلون رقما مهما في الدورة الجديدة، لا سيما وأن بعض أنصار الرئيس ترشحوا بصفة فردية في الانتخابات.

وثانيها، أن بعض أشد المنتقدين للرئيس، الذين وقعوا على عريضة استجوابه أمام البرلمان في فبراير/شباط 2012 وعددهم 79 نائبا، لن يكونوا نوابا في الدورة الجديدة للبرلمان. ففضلا عن رفض مجلس صيانة الدستور ملفات 27 مرشحا منهم، بما يعني أنهم لم يترشحوا في الانتخابات من الأساس، فإن 31 منهم خسروا في الانتخابات، في حين فشل البعض الآخر مثل علي مطهري -الذي تزعم قائمة "صوت الأمة"- في الفوز من الجولة الأولى واضطر إلى الدخول في جولة الإعادة التي سوف تجري خلال شهر أبريل/نيسان القادم.

وثالثها، أن ثمة مؤشرات توحي بإمكانية حدوث انقسام جديد داخل "الجبهة المتحدة للأصوليين" التي ضمت خصوم الرئيس في البرلمان، وهو ما يعود إلى سيولة أنماط التحالفات والائتلافات بين القوى السياسية الإيرانية بشكل لا يمكن معه رسم خريطة سياسة مستقرة على المدى الطويل، وتطلع العديد من كوادر المحافظين الأصوليين للمنافسة على رئاسة مجلس الشورى في دورته الجديدة، وعلى رأسهم غلام علي حداد عادل الذي تولي رئاسة المجلس في دورته السابعة (2004-2008)، لا سيما لجهة نجاحه في الحصول على أكثر من مليون صوت واحتلاله المركز الأول في العاصمة طهران، فضلا عن ترشحه على أهم قائمتين للمحافظين الأصوليين وهما "الجبهة المتحدة للأصوليين" و"جبهة الصمود"، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى نشوب صراع على رئاسة المجلس في ظل طموح علي لاريجاني للاحتفاظ بمنصبه رئيسا للمجلس في دورته الجديدة.

لكن علي لاريجاني بدأ يتعرض في الآونة الأخيرة لانتقادات حادة من جانب بعض المقربين من المرشد، بسبب حرصه على الانفتاح على جميع الأطراف بمن فيهم الإصلاحيون، وسعيه إلى الاحتفاظ بمسافة حتى مع حلفائه، وهو ما يفسره البعض بحرص لاريجاني على عدم خسارة أي طرف تحسبا لإمكانية ترشحه لانتخابات الدورة الحادية عشر لرئاسة الجمهورية التي سوف تجري في منتصف عام 2013.

ربما يتجه خامنئي إلى عملية إعادة هيكلة تنتج توازنات سياسية جديدة بالشكل الذي يمكن أن يؤدي إلى إحداث انقسام داخل تيار المحافظين الأصوليين بما لا يسمح لأي رئيس قادم بالتسبب في متاعب كثيرة للمرشد

ويبدو ذلك جليا في تعمد لاريجاني رفض محاولات خصوم الرئيس سحب الثقة من وزير الاقتصاد شمس الدين الحسيني بسبب فضيحة اختلاس 2.6 مليار دولار من أحد البنوك المحلية، وعرقلته المساعي التي بذلوها لمساءلة الرئيس نفسه بتهمة انتهاك الدستور في يونيو/حزيران الماضي، فضلا عن عدم تدخله لمنع الرئيس من الرد بنوع من التهكم والسخرية على الأسئلة التي طرحها النواب في جلسة الاستجواب التي عقدت يوم 14 مارس/آذار 2012.

وفي كل الأحوال، فإن حسم الصراع على رئاسة المجلس سوف يرتبط بحسابات المرشد الأعلى للجمهورية ورؤيته لتوازنات القوى السياسية. فرغم أنه كان الرابح الأول من الانتخابات الأخيرة، فإنه عازم على عدم تكريس سيطرة تيار سياسي واحد على مراكز صنع القرار، بالشكل الذي يمكن أن يكرر تجربة أحمدي نجاد الذي تحدى المرشد نفسه وحاول الالتفاف على بعض قراراته.

ومن هنا، ربما يتجه خامنئي إلى ممارسة سياسته المفضلة بإجراء عملية إعادة هيكلة تنتج توازنات سياسية جديدة بالشكل الذي يمكن أن يؤدي إلى إحداث انقسام داخل تيار المحافظين الأصوليين بما لا يسمح لأي رئيس قادم بالتسبب في متاعب كثيرة للمرشد، هذا إذا قُدِّر لمنصب الرئيس أن يستمر في المستقبل، في ظل تلميح المرشد في أكتوبر/تشرين الأول 2011 إلى إمكانية تغيير النظام السياسي الإيراني من رئاسي إلى برلماني، بما يعني إلغاء منصب رئيس الجمهورية ووضع سلطاته التنفيذية في يد رئيس وزراء تنتخبه الأغلبية البرلمانية.

محاولة احتواء الرئيس
فضلا عن ذلك، فإنه رغم أن نتائج الانتخابات سوف تمكن المرشد من تقليص هامش المناورة وحرية الحركة المتاح أمام الرئيس في الفترة المتبقية من ولايته الرئاسية، فإنها لن تدفعه على الأرجح للدخول في صراعات سياسية حادة مع الرئيس خلال تلك الفترة، لسببين: أولهما، تجنب دفع الرئيس إلى اتخاذ قرارات انفعالية قد تؤثر على الاستقرار السياسي في الدولة.

وثانيهما، محاولة تحقيق تماسك داخلي في مواجهة الضغوط الدولية المتزايدة على إيران سواء على صعيد محاولات الغرب رفع سقف العقوبات المفروضة على إيران ليصل إلى درجة الحظر النفطي، أو على صعيد التهديدات الإسرائيلية والأميركية المتزايدة بإمكانية توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، أو على صعيد السيناريوهات المتعددة للأزمة السورية والتي لا تبدو مريحة بالنسبة لإيران.

خاتمي يرتدي عباءة النظام
كذلك، أسفرت نتائج الانتخابات عن خسارة قوية للإصلاحيين الذين فقدوا معظم المقاعد التي حصلوا عليها في الدورة الحالية، ويعود ذلك إلى اعتبارين: أولهما، عزوف أكبر القوى والأحزاب المحسوبة على الإصلاحيين عن المشاركة في الانتخابات، لإصرارها على ضرورة تنفيذ مطالبها الأساسية المتمثلة في رفع الإقامة الجبرية المفروضة على زعيمي حركة الاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة مير حسين موسوي ومهدي كروبي، وتوفير ضمانات لإجراء انتخابات نزيهة، إلى جانب تعرض بعض الأحزاب الإصلاحية للحل مثل حزب "جبهة المشاركة الإسلامية" و"منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية" بسبب اتهامهما بالمشاركة في الاحتجاجات التي أعقبت الانتخابات الرئاسية في عام 2009.

وثانيهما، أنه لا يمكن الحديث عن وجود تيار إصلاحي متماسك في الوقت الحالي. فقد انفرط عقد هذا التيار إلى قوي وأحزاب سياسية غاية في التشرذم والانقسام، بشكل يصعب معه وضعها تحت عباءة تيار سياسي واحد.

لا يمكن الحديث عن وجود تيار إصلاحي متماسك في الوقت الحالي. فقد انفرط عقد هذا التيار إلى قوى وأحزاب سياسية غاية في التشرذم والانقسام

وقد أنضجت خسارة المرشحين الإصلاحيين موسوي وكروبي لانتخابات الرئاسة في عام 2009 وما تلاها من أزمة سياسية حادة، معالم الاستقطاب الجديد داخل هذا التيار بين قوى ما زالت تؤمن بنظام الجمهورية الإسلامية وعمودها الفقري المتمثل في "ولاية الفقيه"، وقوى اقتربت إلى حد كبير من رؤى حركات المعارضة الإيرانية التي ترفض النظام ومبانيه الفقهية والسياسية.

من هنا ربما يمكن تفسير حرص الرئيس السابق محمد خاتمي على الإدلاء بصوته في الانتخابات والذي عرَّضه لانتقادات حادة من جانب بعض هذه القوى لدرجة اتهامه بـ"افتقاد الأخلاق والجبن السياسي".

فرغم ظهور تفسيرات عديدة لهذه الخطوة، وصلت إلى حد محاولة خاتمي تجنب مصير موسوي وكروبي في حالة مقاطعته الانتخابات، فإن السبب الرئيسي لها ربما يرجع إلى أن خاتمي ما زال يمثل اليسار الديني داخل التيار الإصلاحي الذي يؤمن بنظام الجمهورية الإسلامية رغم أنه يرى أن التغيير أصبح ضرورة ملحة، ليس فقط لتحقيق تماسك سياسي داخلي تبدو إيران في أمسّ الحاجة إليه في الفترة الحالية، وإنما للتوافق مع المعطيات التي يفرضها ما يسمي بـ"الربيع العربي"، الذي أصبح الإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي هو عنوانه الرئيسي.

رفسنجاني يعود إلى الواجهة
والملفت للانتباه أن هاشمي رفسنجاني تبنى الموقف نفسه، فرغم الضغوط المتزايدة التي تعرض لها بسبب رفضه القمع الذي تعامل به النظام مع الاحتجاجات التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بدءا من إقالته من إمامة صلاة الجمعة في طهران، مرورا بفقدانه منصبه رئيسا لمجلس الخبراء في مارس/آذار 2011، وانتهاءً بإصدار حكم بالسجن ضد ابنته فائزة، فإنه بدا حريصا على الإدلاء بصوته في الانتخابات، في رسالة مهمة مفادها أنه ما زال مواليا للمرشد ويعمل من داخل النظام.

لكن ربما يكون السبب الأهم لمشاركته في الانتخابات هو الحرص على عدم خسارة آخر مواقعه داخل النظام وهو رئاسة مجمع تشخيص مصلحة النظام، وقد تحقق هدفه فعلا، حيث قرر المرشد بعد الانتخابات التجديد له لمدة خمسة أعوام أخرى، وهو مؤشر آخر يوحي برغبة المرشد في تقييد تحركات الرئيس وإضعاف موقعه وربما استنزافه في صراعات فرعية مع خصومه دون دفعه إلى الانقلاب على المعادلة التي أرساها خامنئي نفسه، انتظارا لما يمكن تسميته بـ"الخروج الآمن" للرئيس في منتصف عام 2013.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.