فرضيات وتبعات الانتفاضة الفلسطينية الثالثة

العنوان: فرضيات وتبعات الانتفاضة الفلسطينية الثالثة الكاتب: عدنان أبو عامر

undefined

المسوغات الأمنية والميدانية
السلوك الإسرائيلي المتوقع
مصير السلطة الفلسطينية

تجمع المحافل الإسرائيلية الأمنية والعسكرية -على حد سواء- على أن استمرار الجمود في العملية السلمية, وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، من الممكن أن يدفع الفلسطينيين في الضفة الغربية نحو التصعيد العنيف ضد إسرائيل، في ظل طرح عدد من السيناريوهات التي تدور حول احتمال اندلاع انتفاضة ثالثة عام 2012, سواء قررت القيادة الفلسطينية ذلك, أو نتيجة انفجار شعبي متأثر بموجة الثورات في العالم العربي.

المسوغات الأمنية والميدانية
الملاحظ أنه لا يوجد رغبة لدى السلطة الفلسطينية بهذه الانتفاضة، على الأقل في هذه المرحلة، لكن انسداد أفق التسوية، إلى جانب عمليات إسرائيلية في المستوى العسكري أو الأمني، مع استمرار الثورات العربية من الممكن أن يؤدي لتغيير هذه الوجهة، لاسيما إن مضى الفلسطينيون قدماً فيما تسميه تل أبيب "تدويل الصراع"، من خلال العمل على زيادة تدخل المجتمع الدولي إزاء ما يحدث في الضفة والقطاع.

ولهذا ترى إسرائيل أن اندلاع هذه الانتفاضة قد يفاجئها بين الحين والآخر، ليصيب قيادتها السياسية والعسكرية على حدٍّ سواء بالارتباك، لأنها لم تستطع تحديد طبيعتها بدقة: هل هي حرب؟ وإذا كانت كذلك، فكيف يمكن التعامل معها، وبأية وسائل؟ وإذا كانت تمرداً، فكيف يمكن وضع حدٍّ له؟ أم هي نزاع طويل، وإلى متى سيستمر؟

لكن الاتفاق السائد داخل أوساط الحكومة والجيش في تل أبيب يرى أن الانتفاضة الثالثة ستكون -إذا ما اندلعت- حربا جديدة بقواعد مختلفة، دون اعتبارها نزاعاً طويلاً، رغم أن عدداً من صناع القرار الإسرائيلي يهددون منذ الآن بالنظر إليها على أنها فعل معاد، وبالإمكان القضاء عليه دفعة واحدة بحلٍّ عسكري، لأنها في نظرهم حرب في كل شيء، وقد تكون أسوأ وأصعب من جميع الحروب التي مرت بها إسرائيل، لأنها متواصلة وطويلة، و"قريبة من بيتنا".

التقديرات الإسرائيلية باندلاع الانتفاضة الثالثة تأتي في ظل قيادة أمنية عسكرية سياسية "غارقة في غطرستها"، وأعماها جمودها الفكري وعنصريتها عن فهم تلك الانتفاضة إذا ما حانت لحظة انفجارها

الغريب في الأمر أن التقديرات الإسرائيلية باندلاع الانتفاضة الثالثة تأتي في ظل قيادة أمنية عسكرية سياسية "غارقة في غطرستها"، وأعماها جمودها الفكري وعنصريتها عن فهم تلك الانتفاضة إذا ما حانت لحظة انفجارها، ولم تستطع حتى اللحظة رؤية الظواهر الجديدة في الحركة الشعبية الفلسطينية كما هي، ولم تقرأها بصورة موضوعية مجردة عن عنجهية المحتل، واكتفت بالتعامل معها باعتبارها تكراراً لأحداث تعودت عليها لسنوات طويلة، خلال الانتفاضتين الأولى والثانية.

مع العلم بأن المراقب عن بعد ربما يصطدم لعدم رؤيته تقييماً إسرائيلياً وفلسطينياً مجمعاً عليه لأحداث الانتفاضة المتوقعة، في ظل بروز عدد من التنبؤات الاستخبارية المتعددة لها، بل لكل مظهر من مظاهرها، وحتى لو اتفق إسرائيلي وفلسطيني على تشخيص بعض جوانبها، فإنهما لا يخلصان إلى استنتاج واحد، وما يلبث أن يلاحظ أن نظرة الجانبين للانتفاضة "القادمة" محكومة إلى حدٍّ بعيد بمواقف سياسية وأيديولوجية مسبقة، أي أن كل طرف ينطلق من تقييمه لها من موقع سياسي معين، ويخلُصُ بالتالي للاستنتاجات التي تنسجم مع آرائه وتوجهاته.

وبالتالي، فإن اندلاع الانتفاضة الثالثة -رغم توقعها- ستشكل صدمة عنيفة لصناع القرار العسكري الإسرائيلي، وبات ضباط الأجهزة الأمنية "الموساد والشاباك وأمان"، منذ شهور يتداولون أسئلة باتت تطفو على السطح من قبيل:

أ‌- هل سيأتي اشتعال الانتفاضة بشكل متعمد أم عفوي؟ 
ب‌- هل إن أي أمر جلل قد يقوم به المستوطنون يمكن أن يعجل من اندلاعها، وما طبيعة هذا الحدث؟
ت‌- هل سيكون بمقدور إسرائيل توقع التوقيت الدقيق للانتفاضة؟
ث‌- ماذا سيكون دور وموقف السلطة الفلسطينية منها، وما هو مدى السيطرة الفعلية التي تمارسها، وهل تملك السلطة إستراتيجية فعلية؟

هذه الأسئلة وغيرها تؤكد حجم القلق ومدى الارتباك الذي يكتنف الرؤية الأمنية الإسرائيلية تجاه الانتفاضة المتوقعة، ومع أن هناك اتفاقاً على محاربتها، والاستمرار في العدوان على الشعب والأرض، إلا أنه لا أحد في إسرائيل يستطيع التنبؤ ببداية هذه المواجهة ونهايتها.

السلوك الإسرائيلي المتوقع
تعتقد إسرائيل أن سلوكها الأمني وأداءها العسكري وتقييمها السياسي للانتفاضة الفلسطينية الثالثة مرتبط بصورة أساسية بما تسميه "زخم" هذه الانتفاضة، مستفيدة في ذلك من تعاملها مع الانتفاضتين السابقتين عاميْ 1987 و2000، حين تمثل ردّ فعلها المباشر في التقليل من شأنهما، ومحاولة سحقهما عسكرياً، والزعم بأن أحداثهما لم تكن منظمة، في محاولة فاشلة منها لطمأنة الإسرائيليين، الأمر الذي لم يدم طويلاً، مما دفعها لممارسة أقصى درجات العنف ضدّ نشطائهما.

اليوم تجري المؤسسة العسكرية الإسرائيلية دراسات وأبحاثا على مدار الساعة، لوضع ما تسميه "خطة عمل مفترضة" للتعامل مع الانتفاضة الثالثة، وجميع الإجراءات المقدمة والتوصيات المرفوعة للمستوى السياسي نابعة من كونها أسيرة فكرة واحدة، وهي القضاء على الانتفاضة، وتحطيم أوهام الفلسطينيين الذين يعتقدون بإمكانية تحقيق شيء عن طريق المظاهرات والمقاومة، بعد انسداد أفق التسوية.

ولهذا فإن التقدير السائد في هذه الأيام هو أن رد الفعل الإسرائيلي المتوقع على الانتفاضة الثالثة، سيكون "فاقداً للأعصاب"، ومعبراً عن النفسية العنصرية، وسيتجلى في انتهاج سياسة القتل، وإحكام القبضة الحديدية، والضرب، وكل أشكال التعسف، والمجاهرة بأن على الجيش إرعاب الفلسطينيين حتى يهدؤوا، وتسكن حركتهم، وإصدار الأوامر للجنود ليقوموا بقمعهم.

الانتفاضة الثالثة ستعدّ حالة معقدة للغاية بالنسبة للجيش الإسرائيلي، وتلقي بآثارها وتبعاتها على بنيته ومعنوياته، وإفشال مخططاته التوسعية والأمنية والسياسية والاقتصادية، وعدم تمكينه من تحقيق أي منها

وتشير حالة التدريبات والمناورات التي تجريها قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي إلى أن ردّ الفعل على الانتفاضة الثالثة سيكون في حالة تصاعد مستمر، ممثلا في القتل والضرب واستعمال الرصاص، والاعتقالات العامة والاستثنائية والوقائية، وفتح سجون جديدة، وإغلاق الجامعات والكليات، واحتلال المدارس، وتحويل بعضها إلى معسكرات جيش ومراكز اعتقال، وتعميم سياسة العقوبات الجماعية.

علماً بأن مواجهة الانتفاضة بمثل هذه الأساليب التقليدية المستخدمة خلال مواجهات سابقة، ستفقد الجيش الإسرائيلي خاصيته "كجيش عصري"، معدّ لحروب عصرية تستخدم أحدث التكنولوجيات العسكرية، وآخر ما تنتجه صناعات الأسلحة في العالم، والقدرة على الحسم في معارك خاطفة وحروب قصيرة، ليجد نفسه متورطاً فيما يطلق عليه "حرب شوارع" لا يعرف فيها من يقاتل، وكيف يقاتله، وبالتالي البقاء في حالة استنفار ويقظة على مدار الساعة، وانتظار عدو يهاجمه في وقت غير معروف، ومكان غير محدد، مما سيسبّب له إجهاداً وتعباً في كل الأماكن، وعلى جميع المستويات.

كل ذلك يشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن الانتفاضة الثالثة -كما يسميها الفلسطينيون- ستعدّ حالة معقدة للغاية بالنسبة للجيش الإسرائيلي، وتلقي بآثارها وتبعاتها على بنيته ومعنوياته، وإفشال مخططاته التوسعية والأمنية والسياسية والاقتصادية، وعدم تمكينه من تحقيق أي منها.

مصير السلطة الفلسطينية
إذا ما قدر لانتفاضة فلسطينية ثالثة أن تندلع في وجه إسرائيل، فلن يكون في مثل هذه الأجواء مجال للترف الفكري والسياسي الذي ينتهجه قطاع عريض من الساسة الفلسطينيين، وهم يحاولون "اجتراح" بعض الحلول "الترقيعية" لأزمتهم التي يشتد خناقها حول أعناقهم يوماً بعد يوم، وهم على اختلاف توجهاتهم وأماكن حكمهم الموهوم يدورون في ذات الفلك، عبر البقاء في دائرة السلطة الفلسطينية.

ويعني ذلك أن أي نقاش في مصير هذه السلطة إذا ما اندلعت الانتفاضة، لابد من أن يوسع دائرة الخيارات والبدائل، والبحث عما هو خارج هذا الكيان المتآكل، وعدم اعتبار مثل هذا النقاش ضرباً من "الهرطقة السياسية"، و"اللعب في الممنوع"، في ضوء أن هذه السلطة التي أرهقت القضية الوطنية، ونجحت في تشتيت الفلسطينيين، باتت تشكل لجزء من صناع القرار الفلسطيني مشروعاً استثمارياً يحقق لهم "الثروة"، بعد أن عجزت عن تحقيقه لهم سنوات "الثورة".

ولهذا، فإن قيام الانتفاضة الثالثة لن يكون فقط ضد إسرائيل، لمن يتوهم ذلك لحظة واحدة، لكنه ضد هذا العبء المسمى "سلطة"، في ضوء أنها كلفت الفلسطينيين كثيرا، وحملتهم أعباء ما كان ينبغي لهم أن يحملوها، وأعفت الاحتلال من كل ثمن ينبغي أن يدفعه جراء احتلاله وسيطرته.

وربما يكون اندلاع مثل هذه الانتفاضة فرصة تاريخية مواتية لنقاش عالي الصوت يطالب الساسة الفلسطينيين بالبحث عن خيار يخلصهم من هذه السلطة، ويعيد الأمور إلى نصابها، وهي أننا شعب واقع تحت الاحتلال، ليس مطلوبا منا أن نوجد حلولا لمن احتل أرضنا، ونبحث عن مخارج لمن يحاصرنا، بحيث يبدو الوضع أمام الناظر من بعيد كما لو كنا نحن المشكلة، ولسنا الحل.

وتزداد ضرورة هذا النقاش في ضوء الاستمرار في تقلص سيطرة السلطة، متمثلا في غياب السلطة المركزية، والانفصال البائن والشائن بين غزة والضفة، والخلافات الداخلية المحتدة، مما يطرح أسئلة حقيقية حول مدى استقرار هذه السلطة وقدرتها على البقاء، وهو ما صرح به أخيراً جملة من قادتها ومسؤوليها.

غلب على السلطة الفلسطينية طابع "إدارة الأزمات" التي وجدت نفسها فيها، لتشكل في مجموعها سنوات عجاف لمرحلة تاريخية هي الأعقد والأكثر صعوبة

أدرك جيداً أن إثارة مثل هذه القضية قد يستفز قوماً، ويغضب آخرين، على الساحة السياسية والحزبية والجغرافية الفلسطينية، لكنه بالضرورة يريح قطاعاً واسعاً من الفلسطينيين الذين رأوا هذه السلطة وقد تحولت إلى "غاية" في حد ذاتها، بل أسمى الغايات، لدى قطاع عريض من قياداتها، بدل أن تكون "وسيلة" لتحقيق الطموحات الوطنية، وأصبحت مع مرور الزمن أشبه ما تكون بـ"رصيد ومشروع وصفقات واحتكارات"، وغيرها من المفردات السائدة التي ترتبط حتما بقاعدة "زواج المال بالسلطة".

وأكثر من ذلك، غلب على هذه السلطة طابع "إدارة الأزمات" التي وجدت نفسها فيها، لتشكل في مجموعها سنوات عجاف لمرحلة تاريخية هي الأعقد والأكثر صعوبة، وبدت إسرائيل تتفرج، وهي ترى تمثيلا غاية في الإتقان لسيناريو أعده خبراؤها السياسيون ومنظروها الإستراتيجيون منذ عقود من الزمن.

أخيراً.. فإن إسرائيل التي تحولت إلى "احتلال سوبر ديلوكس" بسبب قيام السلطة الفلسطينية، لابد أن تعود إلى صيغتها الأولى، وهي أنها كيان محتل يتحمل كافة التبعات الملقاة على كاهله، بما في ذلك إعاشة الشعب الواقع تحت احتلاله، كما كان عليه الوضع بين عاميْ 1967 و1994 قبل نشوء هذه السلطة السيئة الصيت، التي بات الفلسطينيون يتندرون عليها، بوصفهم لها بأنها: سلطة المعاشات، وتجار الشنطة السياسية، و"السَّلَطة" بفتح السين واللام، وهو ما قد تسفر عنه الانتفاضة الثالثة، فانتظروا إنا معكم منتظرون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.