مؤتمر الدوحة لنصرة القدس على المحك

العنوان: مؤتمر الدوحة لنصرة القدس على المحك

undefined

المدينة ولحظات الهزيع الأخير
مؤتمر الدوحة خطوة جيدة.. ولكن
منظمة المؤتمر الإسلامي والقدس
معيار النجاح

أنهى المؤتمر الدولي للدفاع عن القدس المحتلة أعماله في مدينة الدوحة، وعلى مدى يومي 26 و27 من شهر فبراير/شباط الماضي، باقتراح صيغة تحت عنوان (إعلان الدوحة) تضمن تأليف لجنة دولية للتحقيق في الإجراءات التي تتخذها "إسرائيل" منذ 1967 لتهويد القدس، إضافة إلى وضع إستراتيجية لاحتياجات المدينة ومؤسساتها الوطنية ومواطنيها العرب الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين.

فهل شكّل انعقاد المؤتمر الدولي للدفاع عن القدس المحتلة خطوة متقدمة على صعيد الدفاع عن المدينة وعروبتها، أم إن الأمور ستبقى في حيز الجهد الإعلامي والسياسي لا أكثر ولا أقل؟

المدينة ولحظات الهزيع الأخير
في البداية، نقول بأن مؤتمر الدوحة خطوة إيجابية وجيدة على صعيد التحرك العربي والإسلامي من أجل إنقاذ المدينة والأقصى، وهي تعيش لحظات الهزيع الأخير من عمرها، أو بالأحرى ربع الساعة الأخيرة، بعد أن أكل غول الاستيطان والتهويد الزاحف الأخضر واليابس فوق ترابها، وقد اقتلعت جرافات الاحتلال وما زالت تقتلع كل يوم المزيد من البيوت والحواضر والأوابد العربية الإسلامية والمسيحية لصالح عمليات التهويد الجارية.

نهش غول الاستيطان مدينة القدس على محيطها وفي داخلها وتحديداً في الأحياء القديمة التي بدت منذ سنوات خلت هدفاً رئيسياً لعمليات القضم والتهويد

فقد عملت سلطات الاحتلال طوال العقود الأربعة الماضية من الاحتلال الكامل للمدينة على صناعة الوقائع على الأرض واستباق كل شيء، عبر إحداث التغيير الديمغرافي للانتقال بالمدينة الموحدة بجزئيها الشرقي والغربي إلى مدينة يهودية صافية تقريباً، بحيث يصبح الوجود العربي الإسلامي والمسيحي فيها محدوداً ودون أي تأثير مهم على صعيد الطابع العام للمدينة وعلى صعيد بنيتها الديمغرافية (مثلاً، في الفترة ما بين 1967 – 2010 سحبت سلطات الاحتلال أكثر من 14 ألف بطاقة هوية من المقدسيين شملت أكثر من 20% من الأسر المقدسية.

وفي الفترة ما بين 2006 – 2008 تم سحب 50% من مجموع ما سحب من بطاقات حتى 2010 لذلك عملت سلطات الاحتلال فور الاحتلال الكامل للمدينة على توسيع حدودها الإدارية إلى نطاق ما بات يعرف بـ(متروبلين) القدس الكبرى التي أمست مساحتها تساوي ربع مساحة الضفة الغربية تقريباً والبالغة نحو (5888) كيلومترا مربعا، ولتصبح مدينة القدس من أكبر مدن العالم على الإطلاق من حيث المساحة الإدارية، وفي هذا يكمن المعنى العميق للسلوك "الإسرائيلي" الصهيوني تجاه المدينة ومستقبلها، ومستقبل ما يسمى بعملية التسوية التي دخلت إلى ثلاجة منذ سنوات طويلة وقد اصطدمت بالجدار السميك من التعنت الصهيوني.

لقد نهش غول الاستيطان المدينة على محيطها وفي داخلها وتحديداً في الأحياء القديمة التي بدت منذ سنوات خلت هدفاً رئيسياً لعمليات القضم والتهويد. حيث يتم التحايل على أصحاب تلك المنازل بمصادرتها مباشرة، أو شرائها منهم إما بالقوة أو بالمصادرة مع التعويض المحدود تحت عنوان إنشاء حدائق أو محميات طبيعية أو غير ذلك من العناوين، ومنها منزل مفتي فلسطين وبلاد الشام المرحوم الحاج محمد أمين الحسيني وما يحمله من دلالات ورمزيات، والذي صودر وتم تحويله إلى فندق صهيوني (فندق شيبرد).

ولكم أن تتصوروا أن مشروع إقامة ما يسمى بمتحف (التسامح) (لاحظوا متحف التسامح) سيتم وفق المخطط "الإسرائيلي" على أجساد الأموات والشهداء في مقبرة (مأمن الله) الإسلامية التاريخية في القدس، والتي تضم بين ثناياها رفات عشرات الشهداء من الصحابة ومنهم الصحابي عبادة بن الصامت.

كما كانت "اللجنة اللوائية للتنظيم والبناء" في القدس المحتلة أودعت قبل أيام قليلة، مخططاً هيكلياً لمركز يهودي في ساحة البراق من الجهة الجنوبية للمسجد الأقصى المبارك، بالإضافة لمخطط آخر لبناء مركز يهودي في الجهة الغربية لساحة البراق مقابل باب المغاربة.
وبالنتيجة، لقد أدت تلك العمليات التهويدية الإجلائية الاستعمارية لابتلاع المزيد من أراضي المدينة وما حولها من أبنائها المقدسيين الذين لم يتبق بيدهم سوى (11%) تقريباً من مساحة القدس الشرقية.

مؤتمر الدوحة خطوة جيدة.. ولكن
إن خطوة مؤتمر الدوحة، خطوة جيدة، وبالحشد العربي والإسلامي الكبير الذي ملأ قاعات المؤتمر من خلال حضور ومشاركة نحو (350) من الشخصيات العربية والدولية يمثلون نحو سبعين دولة إضافة إلى رموز وخبراء وباحثين ومؤرخين وقانونيين عرب وأجانب ينتمون للأديان السماوية الثلاثة، إضافة لممثلين عن حركة (ناطوري كارتا اليهودية) المعارضة بشدة للصهيونية ولـ"إسرائيل"، لكن تلك الخطوة بحاجة لترجمة الأقوال إلى أفعال، وبحاجة لوضع آليات عمل (ميكانيزمات) حتى يقتنع الناس بأن المؤتمر كان على قدر من المسؤولية لجهة الانتصار للقدس وأهلها ولمكانتها في العالمين العربي والإسلامي وفي سلم الحضارة والتراث البشري والثقافة العالمية.

لقد جاء مؤتمر الدوحة في لحظات عصيبة لم يعد فيها الصمت ممكناً، ولم يعد فيها أيضاً الكلام والجمل الإنشائية كافية لنصرة المدينة وإنقاذها وإنقاذ أهلها من إخطبوط التهويد الزاحف، ولم تعد البيانات الاستنكارية وبيانات التنديد والشجب ذات مفعول أو تأثير على مسار ما يجري في المدينة المحتلة، وما يجري بحق الأقصى وعموم الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية. فالشعب الفلسطيني لم يعد يطيق أصوات الشجب أو الإدانة بل يريد أن يسمع وأن يرى إجراءات وإستراتيجيات على الأرض.

الشعب الفلسطيني لم يعد يطيق أصوات الشجب أو الإدانة بل يريد أن يسمع وأن يرى إجراءات وإستراتيجيات على الأرض

فالمشكلة كانت على الدوام أن الخطاب السياسي العربي والإسلامي تجاه القدس كان وما زال على حاله منذ الاحتلال الكامل للمدينة بجزئيها الشرقي والغربي عام 1967، مشبعاً إلى حدود التخمة بالجمل الإنشائية، ومليئاً بالمناشدات الأخلاقية والوجدانية لعموم الهيئات الدولية من أجل نصرة القدس وشعبها ومواطنيها، في وقت لم تعد فيه تلك المناشدات تُسمن أو تغني عن جوع، وفي وقت لم يعد فيه العالم، خصوصاً بعض الدول المتحكمة بالقرار الأممي تريد أن تسمع المناشدات والنداءات أو تلتزم بالمواقف الأخلاقية، بل تريد دوماً أن تسمع لغة المصالح.

فهي لا تأبه لميزان الأخلاق أو لعدالة القضايا المطروحة بمقدار ما تنشّد نحو خيارات لها علاقة بمصالحها وإستراتيجياتها في المنطقة العربية وعموم الشرق الأوسط ومنها فلسطين وقضيتها.

منظمة المؤتمر الإسلامي والقدس
ومنذ تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي حاليا) في الرباط بالمملكة المغربية في سبتمبر/أيلول من العام 1969، إثر الحريق الإجرامي الذي تعرض له المسجد الأقصى على يد عناصر فاشية صهيونية في مدينة القدس المحتلة في العام ذاته. فإن الأمور بقيت على حالها لجهة التحرك العملي المطلوب من أجل إنقاذ القدس والأقصى، بالرغم من أن قادة العالم الإسلامي المجتمعين في الرباط عام 1969 إبان تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي كانوا قد أكدوا وحدتهم وجمع كلمتهم واستنفار القوة اللازمة لمواجهة ما يجري بحق مدينة القدس.

وقد تضمن ميثاق المنظمة عهدا بالسعي بكل الوسائل السياسية والعسكرية لتحرير القدس الشريف من الاحتلال الصهيوني، وجرى بعد ذلك أن اتسعت مهمات منظمة المؤتمر الإسلامي لجهة متابعة قضايا العالم الإسلامي بشكل عام.

ولكن ذلك الاستنفار الذي أعلنته منظمة المؤتمر الإسلامي بعيد تأسيسها وحتى الآن، لم يمنع سلطات الاحتلال من وقف بناء حجر واحد على أرض المدينة في سياق عملية التهويد المتواصلة لكامل الجزء الشرقي المحتل منها. كما لم يمنع سلطات الاحتلال من وقف حفر الأنفاق تحت ومن حول المسجد الأقصى والذي باتت جدرانه وأعمدته وأسقفه تهتز وهي معرضة في كل لحظة للسقوط على المصلين.

فالأشغال "الإسرائيلية" من حفريات وغيرها لم تتوقف للتنقيب عن أثر لم يظهر حتى (أثر يهودي لهيكل مزعوم) الآن بل ظهر نقيضه على الدوام (تاريخ عربي وإسلامي). وهنا نقول إن الحفريات الأثرية في المسجد الأقصى المبارك ومحيطه وفي البلدة القديمة، أثّرّت بصورة خطيرة على الأوابد الإسلامية داخل المدينة، وأصابت الطابع المميز للمدينة في بعض مواقعها على الأصعدة الدينية والثقافية والتاريخية والسكانية، متناقضة مع قرارات اليونسكو وقرارات الأمم المتحدة (أضافت اليونسكو عدداً من مواقع وأوابد المدينة إلى قائمة التراث والثقافة العالمية) ذات العلاقة بالمدينة المحتلة.

منظمة المؤتمر الإسلامي لعبت دوراً إيجابيا بشكل عام في إبقاء قضية القدس حية ودافئة, لكن العتب على الدول العربية والإسلامية لضرورة التحرك بشكل أكبر وأكثر فعالية

وحتى لا نجلد أنفسنا، وحتى لا نبالغ في نقد الأداء العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي تجاه القدس وأهلها، فإن المنظمة لعبت دوراً إيجابيا بشكل عام في إبقاء قضية القدس حية ودافئة وحاضرة في قلوب كل المسلمين على امتداد المعمورة، كما لعبت دوراً مهماً على صعيد الحراك السياسي الدولي العام من أجل نصرة القدس وأهلها، وقدمت العديد من المشاريع التي تم إنجازها لصالح المدينة وصمود أهلها. ولكن العتب الكبير ليس على المنظمة بحد ذاتها بمقدار ما هو عتب على الدول العربية والإسلامية التي كان وما زال عليها واجب التحرك بشكل أكبر وأوسع، وبمقدورها تفعيل نشاط ودور المنظمة وتقديم كل المستلزمات المادية لتمكين المنظمة من الارتقاء بدورها بشكل أنجع.

لقد جاء الرد "الإسرائيلي" الصهيوني على أعمال المؤتمر الدولي للدفاع عن القدس والذي انعقد في الدوحة سريعاً وعلى لسان رئيس بلدية مدينة القدس المحتلة الصهيوني (نير بركات) الذي قال لصحيفة (هآرتس) يوم التاسع والعشرين من فبراير/شباط 2012 أي بعد أيام قليلة من انفضاض أعمال المؤتمر، وللقناة السابعة بالتلفزيون "الإسرائيلي" "إننا سنواصل البناء في جميع أنحاء المدينة رغماً عن كل المعارضين لهذه الخطوة حول العالم وذلك لجميع المقيمين فيها من اليهود".

معيار النجاح
وفي ردها أيضاً واستتباعاً لتصريحات (نير بركات)، أعلنت الحكومة "الإسرائيلية" عن تشكيل فريق لفحص سياسة تنفيذ أوامر هدم المباني في "الأحياء العربية في القدس الشرقية" بحجة أنها "غير قانونية" بهدف تسريع وتيرة هذه العمليات وتلبيسها ثوباً "قانونياً" مزوراً أمام العالم بأسره، وتبرير ما تنوي سلطات الاحتلال المتمثلة في دائرة الرقابة على البناء في بلدية القدس، بمساعدة من الشرطة وحرس الحدود تنفيذه من عمليات هدم وتشريد لآلاف البيوت العربية داخل الأحياء القديمة للمدينة المقدسة والمهددة بالهدم.

لقد أحسن مؤتمر الدوحة بجعل القدس وحريتها نقطة ارتكاز لكل الفلسطينيين والمحفّز لإتمام المصالحة وإنهاء الانقسام. كما أحسن في قراراته وتوصياته التي اتخذها على أكثر من صعيد بالنسبة لمدينة القدس وللمسجد الأقصى، وبالنسبة لهويتها العربية والإسلامية.

المعيار الأساسي في نجاح أعمال مؤتمر الدوحة لا يتمثل في قراراته فقط على أهميتها، بل يتمثل في الانتقال إلى الأهم المتمثل بإعداد إستراتيجية للمشاريع التي تحتاجها القدس

لكن، إن المعيار الأساسي في نجاح أعمال المؤتمر الدولي لنصرة القدس في الدوحة لا يتمثل في قراراته فقط على أهميتها، بل يتمثل في الانتقال إلى الأهم المتمثل بإعداد إستراتيجية للمشاريع التي تحتاجها المدينة، ووضع تلك الإستراتيجية موضع التطبيق، وترجمة الأقوال إلى أفعال مادية وملموسة على الأرض، خاصة بالنسبة لتوفير الدعم المادي الضروري لتثبيت المؤسسات الوطنية والوقفية الفلسطينية ودعمها وإسنادها، وتوفير الإمكانيات المادية التي تعزز من إمكانية صمود وثبات المقدسيين فوق أرض المدينة ومواجهة حملة المضايقات "الإسرائيلية" الهادفة لإبعادهم عن أرض المدينة، والحفاظ على مدينتهم وهويتها العربية والإسلامية والمسيحية.

فالسيولة المالية هي أحد العناصر المهمة التي تحتاج إليها القدس لخدمة المشروعات وتوفير فرص العمل للعاطلين، ولاستمرار المدارس والمستشفيات… إلخ، والقمة العربية قررت العام 2010 دعم القدس بمبلغ (500) مليون دولار، لم يصل منها سوى (37) مليون دولار، أي بما لا يزيد على (7%) مما تقرر في القمة المذكورة.

أخيراً، إن على العالم بأسره، أن يعرف اليوم أن صرخات الشعب الفلسطيني والمقدسيين تشق عنان السماء، والشعب الفلسطيني لن يقبل في نهاية المطاف هذا الظلم والإجحاف، ولن يقبل بظلم الاحتلال، فالوقائع التهويدية على الأرض لن تزحزح الشعب الفلسطيني ولن تثنيه عن مقاومة الاحتلال وابتداع الأشكال والأنماط الجديدة من المواجهة على الأرض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.