مخاطر عدم الجدية في التعامل مع نظام مبارك

مخاطر عدم الجدية في التعامل مع نظام مبارك
أدت عوامل كثيرة إلى تهاون الحكم العسكري الانتقالي في مصر مع نظام مبارك ورموزه في كل المجالات والملفات إلى انتشار الشعور عند الشعب المصري بالتواطؤ مع نظام مبارك، خاصة أن النظام ظل في مكانه دون المساس به في جميع المواقع ولم يترك متسعا للشعور بأن التغيير ممكن.
 
من هذه العوامل يقين الشعب بأن المجلس العسكري يراعى ارتباطات النظام ورموزه بالخارج وحرص هذا الخارج على عدم المساس بمبارك ونظامه. وحتى عندما ضغط الشعب لمحاكمة بعض رموز النظام فإن المحاكمات بدت سطحية وهزلية لا تشفي غليل الشعب الذي ضحى بكل شيء لإزاحة النظام وكان يتوقع أن يرى ثمار هذه التضحية بشكل فورى.
 
أولى هذه الثمار إعادة الاحترام والكرامة للشعب الذي عانى ثلاثين عاما وحقن دماء الشباب، ولكن النتيجة كانت عكسية تماما، فقد ارتفعت حصيلة الشهداء والمصابين، وتساوت الشرطة العسكرية مع أمن الدولة والأمن المركزي، ولكن اللافت للأنظار هو أن مواجهة الشعب المسالم المعترض على مخطط استعباده تمت بكل عناد وقسوة ونية صادمة في الإبادة.
 

"
الشعب المصري على يقين بأن المجلس العسكري يراعى ارتباطات النظام ورموزه بالخارج وحرص هذا الخارج على عدم المساس بمبارك ونظامه
"
استمرت حملة مطاردة الثوار ومحاكمتهم محاكمة عسكرية، بينما يحاكم النظام ورموزه بكل حنان ودلال واستفزاز، ففي الوقت الذي يمعن فيه محامي مبارك في تحدى مشاعر الشعب، ترتفع صرخات الشعب المظلوم الذي يعاني الإحباط والقهر وتفاقم أوضاع الحياة في مصر، وتسرب الشعور إلى الشعب بأن هناك مسرحية تدار بها البلاد وبدأ التشكيك في أن هناك ثورة، وبدأ رموز النظام السابق يتحدثون عن التسامح والديمقراطية ورفض العزل السياسي والقانوني، وزاد هؤلاء في استفزازهم أنهم دبروا أمورهم في الشهور الأولى بعد الثورة، فهربت الأموال ودمرت أدلة الإدانة وتقاعس النظام الذي استمر بعد الثورة عن تقديم أي صورة من صور التعاون لإظهار العدالة.
 
وقد وقعت السلطة في مصر في خطأ قاتل عندما راعت مصالح النظام وفساده واحتكاراته، بينما أطلقت التصريحات الفارغة والكاذبة لصالح الثورة والثوار.
 
على أن ما تحقق من نتائج بعد الثورة تحقق بحكم الضغط الشعبي، رغم محاولات تمزيق الصفوف وخلق الأزمات وأخطرها الأمن والاقتصاد، غير أن ما يهدد مصر الآن هو عدم الجدية في إزاحة فساد النظام وتطبيق عدالة ناجزة تطهر البلاد وتقوم على تشريعات مناسبة لهذه الحالة النادرة في تاريخ مصر.
 
ووجه الندرة والعظمة في هذه الحالة هي أن الفساد والقهر والتجبر والإصرار على التوريث واستعباد الناس وتدهور أحوالهم وتقزيم دولتهم وبيعها لدول الإقليم في سوق النخاسة بصورة لم يسبق لها مثيل وخيانة للوطن لم يعهدها المصريون، قد أدى إلى أن هذا الشعب الصابر قد أجمع يوم الثورة على رحيل النظام وسقوطه ومحاكمته وإقامة نظام جديد يحقق أهداف الثورة، وهى الخبز والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهى مطالب عادية في أي دولة.
 
لكن يتقدم كل هذه المطالب البسيطة تطهير البلاد من النظام وجميع رموزه وأطيافه، والكف عن التلاعب بمصير الوطن وفتح أبواب الوطن للمؤامرات والخطط الخارجية التي لا تريد لمصر أن تقوم من قبرها الذي حفره لها أعداؤها بمعونة مبارك ونظامه.
 
لقد أصبح الشعب المصري كله رغم ما بدا خلال الشهور السابقة من تمزيق في صفوفه وإحياء لنعرات التفتيت يشعر بأن مطالبه واضحة وحاسمة، وهى عدالة حقيقية، وإزاحة لشبكات الفساد في النظام، وتوجيه موارد الدولة في توزيع عادل لأبنائه، بل أصبح الشعب يشعر بالحساسية المفرطة تجاه كل من يدافع عن مبارك ونظامه في الداخل والخارج.
 
ولذلك فإن الرخاوة التي وفرتها السلطة في مصر في عمل بدا تواطؤا ملحوظا لتصفية الثورة وإجهادها بل والمعاقبة على القيام بها وإنهائها، وتحويل الثوار إلى فلول وإغفال مشاعر الشعب، دفعت بعض الرموز الكبيرة حتى إلى امتهان مشاعر هذا الشعب، وذلك بالتجول بين صفوفه معلنه عزمها على الترشيح للرئاسة، وهى التي كان يجب أن يكون مكانها السجون والمعتقلات.
 

"
مر العام على الثورة وقد ازدادت البلاد بؤسا وفقرا وأزمات مع انعدام الأمن في مشهد عبثي عجيب، ولسبب أن مبارك ونظامه هو جذر القضية
"
لقد مر العام على الثورة وقد ازدادت البلاد بؤسا وفقرا وأزمات مع انعدام الأمن في مشهد عبثي عجيب، ولسبب أن مبارك ونظامه هو جذر القضية.
 
وقد لعب الحكم العسكري الانتقالي في مجال العدالة بشكل يبدو عادلا، ولكنه الافتئات الحق على العدالة الحقيقية. ذلك أن النائب العام الذي يتهمه الشعب بأنه يدير الأمور بطريقة تكفل حماية المجرمين وبطريقة قانونية قد أصدر قرار إحالة مبارك بتهمة واحدة جديدة أثناء الثورة، وهى "الاشتراك" في قتل المتظاهرين، ثم كان اللغز الثاني وهو إغراق المحكمة في إجراءات القانون الجنائي العادي، بينما الجرائم لم يتوقعها المشروع الجنائي في كل العصور، فسارت المحكمة في شكل يبدو قانونياً، ولكنه هزلي في طريقته، أدى إلى انهيار الثقة في العدالة والمطالبة بالقصاص الشخصي، كما أنه أعطى جرعة كبرى من البجاحة للمجرمين، فليس معقولاً أن يحاكم أنجال مبارك من باب الكسب غير المشروع.
 
كانت العدالة تقتضي لو صحت النوايا واستقام القصد أن تصادر كل أملاك رموز النظام جميعا وليس عينة منهم لأنها أموال الشعب، ثم تنصب المحاكم وفق قرار الإحالة الشامل عن كل التهم ثم تسترد الأموال والأشخاص ويتم المحاكمة على تهريبهم وعلى تدمير أدلة الإدانة في جميع وزارات وقصور الرئاسة ومحاكمة كل من شارك في عصابة مبارك طيلة ثلاثين عاما بالفعل أو القول أو المشاهدة والإقرار وتسويق الفواحش على أنها فضائل في جميع قطاعات الحياة العامة والخاصة.
 
وأن يراعى في المحاكمة أن السلطة عندما تقتل الشعب دفاعا عن استمرارها في الفساد، فإنها جريمة مركبة يسأل عنها كل القيادات ثم الأتباع، لأنها جرائم من نوع خاص لم تألفه مصر، وأن هذا القهر والقمع خلف آلاف الضحايا، فضلا عن ضحايا الفساد وإبادة المجتمع المصري ومسؤولية الرئيس ونظامه عما لحق بمصير الوطن من إذلال ومهانة وضياع المصالح المشروعة وإهدارها.
 

"
ما يحدث في مصر هو ملحمة وطن يريد أن يتطهر، ولا يمكن مطلقا أن تبقى عناصر النظام الإجرامية في بناء جديد كالقيح الذي يفسد البناء ويعمل على تآكله
"
إنها ملحمة وطن يريد أن يتطهر، ولا يمكن مطلقا أن تبقى عناصر النظام الإجرامية في بناء جديد كالقيح الذي يفسد البناء ويعمل على تآكله وسقوطه كما يفعل السوس.
إن عدم فرز رموز النظام دون استثناء وعدم محاكمتهم سيؤدى إلى مزيد من القهر وإلى إعادة بناء النظام القديم ما دام الجديد مهادنا يزاحم القديم في رفق، فلا يجتمع في فضاء واحد بناء طاهر مع آخر رذيل، وسيؤدي ذلك إلى مخلوق مشوه أقرب إلى الفناء منه إلى البقاء، وقد يؤدى إلى تجاوز المظلومين للأطر القانونية في إقصاء العدالة الخاصة التي تطيح بالدولة وهيئاتها.
 
الحزم والحسم في معالجة النظام القديم وصفاء النفوس واستقامة القصد وتنقية الداخل من تغول الخارج الذي لم يترك مساحة لرؤية مصرية خالصة، فاتجهت سفينة الوطن إلى حيث لا يتمنى المصريون. لكل هذه الأسباب، لا بد من استمرار الثورة كحالة ونفس وليس كحادث وواقعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.