التنمية الشاملة إستراتيجية حاسمة للإسلاميين
5/2/2012
التنمية الشاملة
مواجهة الفقر وإرساء الكرامة
إقرار التعددية والمشاركة السياسية
تفكيك منظومة الفساد الاقتصادي
إن من حسنات الربيع العربي وحراكه الشعبي الزكي على اختلاف دينامياته وصورة تعرية تناقضات الدول القائمة والأنظمة الحاكمة وانتصار مظلمة عربة البوعزيزي على جبروت الأرصدة المرصعة بملايين الدولارات والذهب المهربة.
ففي أيام معدودة وشهور قليلة تشكلت ذهنية ثقافية جديدة لدى المواطن العربي والإسلامي المقموع والمجوع الذي نفض عنه فوبيا الخوف معبرا عن وعي جديد بأن الأنظمة العربية القائمة سواء أكانت أنظمة قبلية مثل اليمن أو عسكرية مثل ليبيا والجزائر أو ذات الحزب الوحيد مثل تونس ومصر وسوريا أو ملكية تنفيذية مثل المغرب والأردن وغيرها، فإنها تتوحد في كونها أنظمة طاغية ومستبدة وتحكمية ومغلقة.
ذلك أن مؤسساتها على اختلاف مرجعياتها تعد مؤسسات صورية ينتج القرار السياسي خارجها من طرق لوبيات الظل، وأن الجيش مسيس وآلة جهنمية للقمع، وأن القضاء مسيس وظالم وأن الفساد، بكل أشكاله، هو العملة الرائجة التي تجعل الاقتصاد منعدم الفائدة إلا على الطبقات المسيطرة، وأن الحراك الاجتماعي حسب الاستحقاق والكفاءة منعدم ويقتل الحلم والطموح حتى الهرم (هرمنا).
بيد أن هذا الوعي الشعبي الجديد قد أظهر للعالم أجمع أن كل محاولات تغطية الشمس بالغربال التي قامت بها الأنظمة المستبدة والفاسدة والتي راهن عليها الغرب سواء لديمومة الأنظمة أو لاستمرار مصالحه اعتمادا على النمو الاقتصادي مع بداية سنوات الاستقلال أو على الإصلاحات الاجتماعية السطحية التي باشرتها الأنظمة ابتداء من منتصف الثمانينيات وإلى الآن، ليس بوسعها أن تضمن الاستقرار واستمرار الأوضاع المزرية كما هي إلى الأبد.
واتضح للعيان أن الحاجة ماسة لمراجعة الرهان على النمو الاقتصادي وعلى الترقيعات الاجتماعية والانطلاق من نقطة البداية الحقيقية التي هي العملية السياسية التي ينبغي أن تكون المدخل التاريخي للتغيير والإصلاح.
" إن التنمية الشاملة المبنية على العلوم السياسية والاجتماعية والنفسية الوجدانية بالإضافة إلى الاقتصاد تقوم، في عمقها، على تفاعل البعدين الديمقراطي والاقتصادي اللذين يشكلان تحديين أساسيين أمام الحكام الجدد لتحقيق العدالة الاجتماعية والتقدم الحضاري " |
واليوم وبعد أن تم تقويض ولملمة الأنظمة السياسية لدول كانت تظن، حتى الأمس القريب، أنها ستظل أزلية وأن فرعون العصر الحالي سيرهب القلوب إلى الأبد، لا بد أن تدرك الإرادات السياسية والمدنية الجديدة أن لحظات الحماس والنشوة يجب أن تتحول بسرعة إلى سنوات فعل وعمل وإبداع. ذلك أن صناعة الثورة والتأسيس الدستوري الديمقراطي والفوز في الانتخابات أسهل بكثير من إيجاد حكومات وحكام عادلين قادرين على الإنتاج، وتوطين العدالة الاجتماعية وتحقيق التنمية الشاملة التي تقوض مظالم ومظاهر خلل الأنظمة الفاسدة وقطع الشك باليقين في آمال التغيير الذي يعود بالنفع على الأمة كلها ويضمن للمجتمع وحدة شخصيته.
إن التنمية الشاملة بديل للنمو الاقتصادي، بحيث، إذا كان هذا الأخير يرتبط بالجانب المادي ومتواليات الأرقام والعمليات الحسابية والبيانات الصماء، فإن التنمية الشاملة المبنية على العلوم السياسية والاجتماعية والنفسية الوجدانية بالإضافة إلى الاقتصاد تقوم، في عمقها، على تفاعل البعدين الديمقراطي والاقتصادي اللذين يشكلان تحديين أساسيين أمام الحكام الجدد لتحقيق العدالة الاجتماعية والتقدم الحضاري.
1- التحدي الديمقراطي:
إن الإكراهات الداخلية والمعيقات الخارجية السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والفكرية والثقافية، كيفما كان مصدرها: فاعلون محليون أو قوى خارجية، لا تترك متسعا من الوقت لخوض غمار نقاشات فلسفية حول خيارات المرحلة ومدى ملاءمتها الظرفية أو البعيدة لمرجعيات القوى الصاعدة والحكام الجدد.
إن الإكراهات الداخلية والمعيقات الخارجية السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والفكرية والثقافية، كيفما كان مصدرها: فاعلون محليون أو قوى خارجية، لا تترك متسعا من الوقت لخوض غمار نقاشات فلسفية حول خيارات المرحلة ومدى ملاءمتها الظرفية أو البعيدة لمرجعيات القوى الصاعدة والحكام الجدد.
فالمرحلة تقتضي شجاعة الحسم في اعتماد الديمقراطية آلية للتداول على السلطة والحكم بغض النظر عن منظومة الأحكام والمفاهيم والقيم والأسس ولا سيما الفردية منها التي قامت عليها في سياق تاريخي غربي محدد وما له من تأثير على تحييد المقتضيات الشرعية حسب ما يمكن أن يدعيه البعض.
إن ترسيخ التداول نظاما للحكم والحياة في نفوس المواطنين وإعطاءهم الفرصة لتجريب حكم الإسلاميين قبل الإسلام مسألة لا تقبل التأجيل.
ذلك أن الديمقراطية وفق قاعدتي الإرادة العامة والخير العام من شأنها أن تعزز في هذه المرحلة الانتقالية المليئة بالكثير من الصعوبات والمسيجة بالمخاوف والتحفظات إن لم تكن الاتهامات قادرة على دفع المواطنين نحو التصالح مع السياسة ومع ذواتهم وواقعهم، فيشاركون بكثافة في إدارة الحياة العامة وتشكيل قاعدة عريضة تحمي الحكام الجدد من الانزلاقات أولا ومن التهديدات الداخلية والخارجية ثانيا حتى تستقر عقيدة السلوك السياسي البديل في الأعماق والآفاق.
فالإرادة العامة تقهر الطاغوت والاستبداد، والخير العام يحقق الأمن الاجتماعي والسلم العالمي. ومن أجل ذلك لا بد من التطبيع الذكي مع الحقوق الفردية وتكثيف جهود التخطيط والإبداع الإستراتيجي بخصوص الرفاهية الجماعية والاقتصادية والعدالة الاجتماعية التي تضخ في القلوب كل الأفكار والأحكام الجديدة دون فظاظة أو صراع حتى تضيق دوائر الانتماء الموجودة لمختلف التيارات والجماعات.
إن المرحلة ليست مرحلة تعميق التفكير في إعادة إنتاج أيديولوجيا تماه مطلق بين الديني والسياسي وبين الروحي والمادي. ذلك أن الظروف الموضوعية المستعجلة والمؤطرة بالإكراهات، وإن كانت تستوجب نوعا من الخطاب التضامني بين الحكومات والمجتمع، فإنها تؤكد تعجيل الاستجابة لحاجات الناس اليومية في المأكل والملبس والمسكن والتطبيب وزرع بريق النور الذي طال انتظاره ليشكل علامة فارقة بين الأمس المقيت واليوم السعيد والمستقبل العادل الذي يعبد الطريق أمام القيم المنشودة دون إكراه.
" إن الحاجة الملحة اليوم، بعد سنوات الحرمان والتخريب، ليست هي تطبيق الشريعة الشمولية والمطلقة أو إقامة الدولة الإسلامية على أسس الخلافة، وإنما هي تقويض كل تجليات الحكرة ومظاهر هدر الكرامة ودوس الحقوق التي تجرد الإنسان من أبسط الاعتبار والتكريم " |
إن المنهجية الإسلامية لبدايات الدعوة التي قامت على التدرج، تجعل من فضيلة الأسلمة اليوم تبدأ من الانغماس الفوري في التفاعل الفاعل والناجح، بكفاية قصوى، مع الشرط التاريخي الموضوعي لانتشال الفرد والمجتمع من براثن الفقر والحاجة الذي لن ينفع معه الوعظ والإرشاد أو تطبيق الحدود على الفساد المادي. فمواطن اليوم في حاجة إلى من يمكنه من قبل فراغ الروح. ولا سبيل إلى ذلك دون تمكينه من فرص الشغل وتحقيق الذات عبر المساهمة في الدخل الوطني والحصول على حقه الشرعي من التوزيع العادل للثروة.
إن الحاجة الملحة اليوم بعد سنوات الحرمان والتخريب ليس هي تطبيق الشريعة الشمولية والمطلقة أو إقامة الدولة الإسلامية على أسس الخلافة أو تنصيب الحاكم المسلم الصالح الذي لا يخطئ أو أسلمة النظام السياسي والتشريعات والمجتمع والثقافة، وإنما هي تقويض كل تجليات الحكرة ومظاهر هدر الكرامة ودوس الحقوق التي تجرد الإنسان من أبسط الاعتبار والتكريم.
ولعل البدء بمحاربة الفساد، بكل أشكاله ومستوياته، هدف أسمى حاليا ينقل المجتمعات من لحظات الثورة والانتخابات إلى زمن الديمقراطية، ومن هواجس الانفعال والحماس والتضحية إلى إرادة الإبداع والإنتاج وحصاد فائض القيمة السياسي للاستشهاد وللتصويت الشعبي المكثف لصالح التغيير والإصلاح.
فمحاربة الفساد آلية حاسمة لتحطيم أصنام الاستبداد وطمأنة المجتمع بكل تلاوينه على ذهابها بلا رجعة. إذ إن الأولوية للبناء العقلاني المتزن لما أفسدته الأنظمة المستبدة، ويأتي على رأسها الاجتهاد لتوفير الحاجيات الملحة للمواطنين والتي تنتشلهم من الفقر والأمراض والجريمة والدعارة والانتحار الفردي والجماعي وهجر الديار. وعند الفشل لا بد من شجاعة رد الأمانة إلى أصحابها وعدم إعطاء الفرصة للأنظمة للالتفاف عليها.
إن الهدف هو تحويل دولة الإسلام والحكومة الإسلامية من غاية لذاتها وفي ذاتها ومن إستراتيجية الإستراتيجيات إلى إعادة بناء العلاقات بالمجتمعات وبكل المؤسسات والتنظيمات السياسية والمدنية خاصة الفاعلة والمواطنة على أسس واقعية تعمل على إصلاح وتغيير البنيات والمؤسسات دون اللجوء إلى التصادم مع البنى والنظم الثقافية، إذ إن المصلحة تكمن في تنويع وتوسيع دوائر النقاش حول القضايا الخلافية وفتح قنوات التواصل مع الآخر، علما دائما بأن الثقافات والعقائد مهما ظهر أنها مادية إباحية في طبيعتها فإنها بحاجة إلى حد أدنى أخلاقي وروحي لبناء المجتمع والأسرة.
ولهذا لا ضرر في إعادة ترتيب تموقع الهاجس والخطاب الأخلاقي والاجتماعي والسياسي حتى تطمئن النفوس والتيارات والفعاليات العلمانية والليبرالية والقومية والاشتراكية، ويأتي على رأسها قضايا المرأة التي لا ينبغي حصرها في زوايا ضيقة مثل التبرج والاختلاط وتقسيم العمل حيث سجل رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيران عن حزب العدالة والتنمية نقطة إيجابية له في ظرفية جد حساسة حين اتصل بالممثلة لطيفة أحرار للتعبير عن تضامنه معها من جراء ما تعرضت له من تهديدات بالتصفية الجسدية على الإنترنت.
إن حساسية المرحلة تقتضي تنسيب المواقف المبدئية والتمييز في قضايا الفكر والسياسة والثقافة بين الثوابت والمتغيرات وبين الوسائل والغايات وبين المنهجيات والإستراتيجيات.
فالإنجاز والنجاح والاستمرار يتطلب بلورة رؤية بديلة للمجتمع والسياسة ومفتوحة على الغير والآخر، متفاعلة، بشكل موضوعي، مع الواقع وعقلانية في قراراتها سلمية في منهجيتها، سليمة في وسائلها، مستميتة من أجل الرضا والمشروعية، تعتمد الحوار وليس القمع.
ولذلك لا مجال للدخول في ردود الفعل للانتقام من فلول الأنظمة السابقة أفرادا وجماعات وتيارات وخاصة القصاص المادي والجسدي، لأن الفضيلة في رمزية العفو، فمن المؤكد أن عدم الإفلات من العقاب يعطي ضمانات قوية للقطع مع الاستبداد وطمأنة الشباب على حياة أفضل في المستقبل، ولكن الضمانة الحاسمة تكمن في إقرار التشريعات والقوانين المؤسسة الجديدة بالحريات العامة والحقوق وبوضع قيود على المسؤوليات والتنصيص على استقلال القضاء مع إلزامية استرجاع الأصول العامة وممتلكات الدولة والرخص.
" لا بد من إقرار التعددية والمشاركة السياسية والانفتاح على التيارات الأخرى والتحالف مع الأحزاب الديمقراطية العاملة في المجتمع والفعاليات الوطنية على اختلاف مرجعياتها والعمل على تقريب المصالح والمنافع والأوليات وتوحيد السياسات العامة " |
بيد أن الاهتمام بالتنوع الاجتماعي مسألة حيوية للمجتمع تجعل من التواصل والحوار والتعاون بين كل التيارات علامة جذب بارزة تقطع مع أساليب الإقصاء والاستئصال السابقة، بل تجعل من الاختلاف وسيلة لتصريف الاحتقان ولإعطاء معنى لمبدأ حرية الاختيار.
ومن هنا لا بد من إقرار التعددية والمشاركة السياسية والانفتاح على التيارات الأخرى والتحالف مع الأحزاب الديمقراطية العاملة في المجتمع والفعاليات الوطنية على اختلاف مرجعياتها والعمل على تقريب المصالح والمنافع والأوليات وتوحيد السياسات العامة.
بيد أن العلامات بارزة بهذا الخصوص، فإذا كان الإخوان المسلمون في مصر قد تحالفوا سابقا مع حزب الوفد العلماني ومع حزب الأحرار والعمل، بعد ذلك، إذا كان نجم الدين أربكان في تركيا قد تحالف مع حزب الطريق القويم العلماني، وتحالف الإسلاميون في سوريا مع أحزاب علمانية، بغض النظر عن النتائج وعن النوايا المرحلية، فإن تحالف حزب النهضة التونسي بعد الثورة اليوم مع أحزاب علمانية واختيار الرجل الأصلح لقيادة البلاد من خارج الإسلاميين رغم قوتهم العددية يعد درسا رشيدا في تنزيل رؤية مواطنة وديمقراطية للسلوك السياسي للإسلاميين.
وإذا كان السخاء نفسه قد جسده حزب العدالة والتنمية المغربي من خلال بنية الحكومة التي يرأسها عبد الإله بنكيران، خصوصا تجاه حزب التقدم والاشتراكية "الشيوعي" سواء تعلق الأمر بعدد الوزارات أو بنوعيتها، فإنه يحسب لصالح السلوك السياسي للإسلاميين، بل إن المراهنة على وزير الفلاحة عزيز أخنوش من حزب الأحرار المناوئ للعدالة والتنمية، وبغض النظر عن القراءات الدستورية أو السياسية التكتيكية له، فإنه يوحي بتفضيل الكفاءة على التموقع المرجعي الضيق، ويجسد التصور المنفتح والمفتوح للإسلاميين كما قال رئيس الحكومة المغربي غداة تعيينه من طرف الملك محمد السادس.
2- التحدي الاقتصادي:
لا خير ولا دوام لديمقراطية غير منتجة، ومن دون اقتصاد قوي تكون له آثاره الإيجابية على الرفاهية الاجتماعية وتحقيق طموحات الناس في العيش الكريم والاطمئنان على مستقبل أبنائهم ومجتمعهم، لأن الجينة المنتجة في الاقتصاد توجد في السياسة.
لا خير ولا دوام لديمقراطية غير منتجة، ومن دون اقتصاد قوي تكون له آثاره الإيجابية على الرفاهية الاجتماعية وتحقيق طموحات الناس في العيش الكريم والاطمئنان على مستقبل أبنائهم ومجتمعهم، لأن الجينة المنتجة في الاقتصاد توجد في السياسة.
إن المشكلات المزمنة من فقر وبطالة وأمية وأمراض وتهميش التي ورثتها الأنظمة الجديدة والحكام الجدد تعد معيقات إستراتيجية في طريق نجاحها، وتعد أول الأولويات التي يجب التعاطي معها بشجاعة وجدية كبيرتين لا تنفع معها الأنشطة الاجتماعية والخدماتية البسيطة التي تسمى أوراش تنمية إذا ما استمر ترك تدبير الاقتصاد بالعقليات والمنهجيات والأهداف السابقة.
" تفكيك منظومة الفساد الاقتصادي السابق وبناء إطار اقتصادي جديد على أسس إنتاجية عقلانية وشفافية مسألة حيوية اليوم " |
فتفكيك منظومة الفساد الاقتصادي السابق وبناء إطار اقتصادي جديد على أسس إنتاجية عقلانية وشفافية مسألة حيوية اليوم. ولعل تنقية المجالات الاقتصادية من الرأسمالية الفاسدة ومن رجال المال والأعمال الفاسدين ومن البيروقراطيين الإداريين والذين كانوا يتحكمون أفرادا وعائلات وجماعات في الحياة الإنتاجية والخدماتية يعد مدخلا أساسيا لإعادة هيكلة الاقتصاد ولحماية المال العام والموارد العمومية للدولة ولممتلكات الفقراء ولحقوق الشعوب مع الحد من التجاوزات الإدارية والسياسية المتلاعبة بالقوانين والمخططات والمشاريع والمسؤولية لتمرير الصفقات وخرق القوانين وتجاوزها.
ناهيك عن ضبط القطاعات غير المهيكلة وأنشطة التهريب والاتجار في المخدرات وتهريب الثروات إلى الخارج باسم الاستثمار.
بيد أن ترسيخ مبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص وفك الارتباط بين السلطة والثروة أمور غاية في الأهمية قادرة على أن تحفظ للدولة مواردها الطبيعية وتثمن للمجتمع موارده البشرية.
ولا بديل في ذلك من إيجاد حلول عاجلة لمسألة الديون الخارجية والداخلية وتخليص الميزانيات من اختلالات ميزان الصادرات والواردات الأساسية ومن منطق التوازنات المالية ومن مخاطر العجز والتضخم التي لا يدفع فاتورتها الباهظة سوى صغار المهنيين والموظفين والمأجورين والفئات المتوسطة، حيث ترتفع الأسعار وتنتشر البطالة وتغلق الأبواب أمام الطاقات الشابة والمنتجة.
إن إخضاع المناصب والمسؤوليات والمؤسسات والأنشطة والخدمات مركزية وغير مركزية، عامة أو خاصة، والهيئات الوطنية المدنية والعسكرية والأمنية والقضائية لمعايير الكفاءة والإنجاز والإنصاف وتكافؤ الفرص والمصلحة العامة وقواعد التنافس الشريف من شأنه أن يوفر للدولة والمجتمع أكثر من حاجاتهما المادية والبشرية ويحقق التراكم الاقتصادي المطلوب.
بيد أن فك الارتباط بين الإداري والسياسي والتصدي لتوريث المناصب وتراكم الثروات حسب النسب والزمالة والأصول الاجتماعية التي لا تعترف بأبناء الفقراء فضلا عن تشبيب مجالس ومراكز القرار الرسمية والحزبية والمدنية والتصدي لكل حيل تحقيق وتراكم الأرباح الخيالية الوهمية دون إنتاج ودون مقابل حقيقي كما هو الشأن بالنسبة لتلاعب البورصات يمكن من خلق أنشطة صناعية وتجارية دينامية وتوفير بنية اقتصادية متطورة قادرة على المنافسة وعلى امتصاص البطالة وإدماج الشباب وتمكين الدولة من رفع نفقاتها العامة وتوجيهها لخدمة المشاكل المزمنة المتعلقة بالتعليم والصحة والسكن والبيئة والأوبئة.
ولا يقل أهمية عن ذلك كل قضايا إناطة المسؤولية الواحدة بالشخص الواحد عوض تراكم المناصب والمهام الذي يحول دون توزيع عادل للثروة والدخل وإدماج النخب والشباب وتدبير الاحتقان السياسي والحزبي.
أما الترامي على أراضي الدولة بالمجان أو بأثمنة رمزية والتلاعب بأصولها المالية والعقارية والصفقات المشبوهة والقروض البنكية دون ضمانات حقيقية واحتكار الرخص في البر والبحر والحصول على امتيازات النقل أو المعاشات الجزافية والتهرب الضريبي والتلاعب بالسندات وبالعقود والغش بكل أشكاله سواء في البضائع والمواد والأدوية المرتفعة الثمن، فقضايا لا تحتمل الانتظار.
كما أن مراجعة معايير أجور الموظفين الكبار ومسؤولي المؤسسات العمومية والجيش التي يتم تضخيمها أكثر من اللازم دون فائدة ودون مخاطر واقعية أو مسؤوليات جسيمة حقيقية حتى إن الحوافز أصبحت تفوق عشرات المرات الرواتب الأساسية أكثر من الدول المتقدمة والديمقراطية وذات الاقتصادات المتطورة ذات القوة العالية على المنافسة العالمية ناهيك عن تراميهم على الخيرات برا وبحرا وعلى امتيازات إدارية خيالية فوق القانون أصبحت مسألة إستراتيجية مستعجلة. إذ لا علاقة للمنافسة الاقتصادية الشفافة بتحديد الأجور والأسعار وتفويت الأنشطة والخدمات.
أما اعتماد توفير تعبئة الموارد وسد الفجوات على بيع المؤسسات العمومية وتفتيتها بل وتفويتها لأشخاص أو عائلات أو مجموعات غير رحيمة بالمال العام والممتلكات العمومية وبمصلحة الوطن والمواطنين، إذ إنها لا تحترم حقوق العمال ولا تؤدي الضرائب ولا تلتزم بدفاتر التحمل ولا تقدم مشاريع واقعية وفي حل من أي رقابة، فيعد حيلة مفضوحة.
ولعل إنجاح التنمية الشاملة بمعناها الواسع الذي يشمل البعدين الاجتماعي والثقافي يتطلب تعجيل مواجهة ضعف الأداء الاقتصادي وجعله اقتصادا تنافسيا يقوم على تعبئة الدولة للموارد المالية الكافية والرفع من النفقات العامة بشكل تدريجي ملائم ومتوازن لتطور الدورة الاقتصادية، حيث لا يمكن فصل مسألة الاستثمارات ونسب النمو والتضخم على حساب مناصب الشغل وتأهيل الموارد البشرية وتحسين الصحة وتوفير السكن اللائق والبنيات التحتية الضرورية وتجويد خدمات المرافق العمومية.
ولا يمكن التفكير في النمو الاقتصادي والدورة الاقتصادية المنتجة على حساب المواطن وتفقيره. وليس من المصلحة الاستمرار في حل المشاكل المستعصية على حساب بيع الممتلكات العامة أو المزيد من الاقتراض لتسديد النفقات الجارية.
" لم يعد مستساغا كذلك الاستمرار في عدم القدرة على استثمار العائدات في أنشطة اقتصادية منتجة ومفيدة تجعل الدولة تسترجع توازنها تدريجيا وتكون قادرة على خلق فرص شغل جديدة وتخرج السوق من يد اللوبيات الاحتكارية الفاسدة وتعيدها للدولة التي لم تعد تتحكم في تسليم البضائع والخدمات الأساسية للمواطنين حيث يختل توزيع الدخل " |
ولم يعد مستساغا كذلك الاستمرار في عدم القدرة على استثمار العائدات في أنشطة اقتصادية منتجة ومفيدة تجعل الدولة تسترجع توازنها تدريجيا وتكون قادرة على خلق فرص شغل جديدة وتخرج السوق من يد اللوبيات الاحتكارية الفاسدة وتعيدها للدولة التي لم تعد تتحكم في تسليم البضائع والخدمات الأساسية للمواطنين حيث يختل توزيع الدخل.
إن المعادلة الصعبة لكل مؤشرات وصور تحدي التنمية الشاملة للدولة العربية الإسلامية والحكومات الصاعدة في هذه الظرفية العالمية العسيرة هي كيف يمكن لتسعين في المائة (90%) من مواطني هذه الدول الحصول على أمل وحق العيش الكريم دون تجرع مرارة سوء تدبير المسؤولين وجشع الفاسدين والتهافت على تكديس المال الحرام.
بل إن المعادلة الجديدة تأخذ بعدا هوياتيا وحضاريا وإنسانيا حين نعرف أن الدول الإسلامية غنية بثرواتها الطبيعية المختلفة ومواطنوها ينتظرون العيش على أقل من خمسة بالمائة (5%) من الإنتاج العالمي وعلى فتات الدول المتقدمة المالكة للعلم والمعرفة والتكنولوجيا والمواطنة مع شعوبها.
على أن انتظارات التغيير هاته لن تظل مستحيلة بما أن التغلب على كل تحديات التنمية الشاملة وحل المعادلات الاجتماعية والاقتصادية الصعبة تظل ممكنة بتفاعل عاملين حاسمين: تضامن إسلامي إسلامي وحكم رشيد.
وإذا كان التضامن الإسلامي رهين الضمير الإنساني، فإن الحكم الرشيد رهين سياسات عامة تقوم على:
أ- تدابير وقائية: تتمثل في التخطيط والتنظيم والتشبيك والإرشاد والتأهيل والتدريب والرعاية والمساعدة والشراكة والمهنية وتحسين الأداء وتبسيط المساطر وضبط العمليات والوقت لتحقيق الفعالية والكفاية والشفافية وتقليل التكلفة.
ب- تدابير علاجية: تتمثل في تفعيل التقييم والمتابعة والتقويم والمراقبة والمحاسبة ولجان التقصي التشريعية والحكومية والقطاعية وإقرار الرقابة الشعبية والمدنية.
ج- تدابير زجرية: تتمثل في ربط المسؤولية بالمحاسبة في ظل استقلال القضاء وإعطاء هيئات الحكامة والنزاهة والشفافية ومحاربة الرشوة وحقوق الإنسان صلاحيات واسعة للتدخل وقوة فعلية للترافع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.