ما بين شعارات من قبيل "الإسلام هو الحل" و" القرآن دستورنا" و"الحكم لله"، المطلقة في المكان والزمان ومقولات أخرى من قبيل "بناء نظام سياسي ديمقراطي قوي" التي وردت في برنامج حزب الحرية والعدالة الإخواني المصري، و"السلطة للشعب يمارسها مباشرة وعبر ممثليه في المجلس المنتخب ضمن نظام برلماني" الواردة في برنامج حزب حركة النهضة التونسي، و"مواصلة بناء دولة المؤسسات والديمقراطية ومكافحة الفساد" التي تضمنها البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية المغربي.
ما بين هذا وذاك يبدو أن انزياحا كبيرا وابتعادا ملحوظا قد حدث فطلاقا بيّنا مع الخلفية العقائدية والأيديولوجية القائمة على "الحاكمية الإلهية" ذات المنشأ القطبي (نسبة إلى سيد قطب) والمتبوعة بنوع من تكفير المجتمع وهجرته واعتبار دياره ديار حرب، وهي الأيديولوجية التي أسرت فكر الحركات الإسلامية في نشأتها الأولى وفي أزمنة الانتشار الواسع في صفوف الناس، والتي صاحبتها صراعات دامية على السلطة مع كثير من الأنظمة لاسيما التي تشهد بلدانها الربيع العربي اليوم، فلم تكن تلك الخلفية الأيديولوجية بعيدة عن الصراعات التي نشبت في هذا القطر العربي أو ذاك، لكن مع ذلك فإن تلك "الشعارات الإسلامية" كانت قابلة للترويج في العملية الانتخابية وفي كسب أصوات الناخبين.
سياسة مرنة متعددة
" لم تعترف الحركات الصاعدة إلى الحكم في ظل الربيع العربي بالوطنية فقط بعد أن كانت تتعالى عليها, وإنما وجدت نفسها تتنازل على مثل تلك "اليوتوبيا" الإسلامية لصالح الوطنية المحلية " |
إن التنظيمات الإسلامية التي تحولت إلى أحزاب سياسية تلتزم القوانين ذات الطبيعة الوضعية المنظمة للحياة السياسية في دول الربيع هي شبيهة بالعصبيات التي تستولي على الدولة بحسب التحليل الخلدوني وإن اختلفت الأشكال، فهي تنطلق عقائدية ملساء قوية متجانسة متضامنة مقاتلة ولكن سرعان ما تجردها الدولة ونواميسها المنظّمة من مثل هكذا خصائص لتصبح سياسية مرنة متعددة مفاوضة مناورة متنازلة منافسة، خاصة إذا طال أمدها بالممارسة السياسية والحكم.
ذاك هو حال الحركات السياسية الإسلامية في البلدان العربية التي عرفت حراكا سياسيا ثوريا انتهى إلى سقوط أنظمة كما هو حال تونس ومصر أو ترميمها ومحاولة إصلاحها كما هو حال المغرب، لتحل تلك الحركات محل الأنظمة بعد أن فكّت التناقض الذي لطالما كبّلها وحرمها من الوصول إلى كرسي الحكم، وذلك بالاعتماد على المقولة السحرية المعروفة بـ"العلمانية المؤمنة" التي نظّر لها الكاتب المصري عبد الوهاب المسيري وأوجد لها تطبيقات عملية حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي وصالحها مع الفكر السياسي العربي والإسلامي الشيخ راشد الغنوشي، وهي نوع من "اللائكية المقيدة" التي تسمح للحركات الإسلامية بالمشاركة في العملية الديمقراطية وخوض المعارك الانتخابية والاعتراف بالصندوق وسيلة للوصول إلى الحكم والإقرار بأن الشعب هو مصدر السلطات والشرعية دون سواه على ما في ذلك من مفارقة.
لقد شكّل صعود الحركات الإسلامية إلى هرم السلطة في البلدان الثلاثة المذكورة بواسطة "الصندوق الديمقراطي" إيذانا ببدء مرحلة جديدة في علاقة هذه الحركات بشعوبها ودولها. ولعل استخدامها كأمثلة في التحليل تتمتع بالمصداقية، متأت من وحدة الأسلوب الذي مكنها من اعتلاء كرسي الحكم وإن كان المثال المغربي مختلفا لأن النظام السياسي هناك لم ينهر وإنما استطاع أن يحتوي الأزمة عبر إصلاحات وتنازلات فرضتها حركة 20 فبراير الشبابية والاحتجاجية، كان من ضمنها تحوير الدستور عبر الاستفتاء والقبول بـ"الحركة الإسلامية" كحزب سلطة.
لم تعترف الحركات الصاعدة إلى الحكم في ظل هذا الربيع العربي بالوطنية فقط بعد أن كانت تتعالى عليها في خطابها محتمية بنوع من العالمية الإسلامية التي تبجّل الانتماء إليها والولاء "للوطن الإسلامي" و"للأمة الإسلامية" على حساب الوطنيات القُطرية، وإنما وجدت نفسها تتنازل على مثل تلك "اليوتوبيا" الإسلامية لصالح الوطنية التونسية ونظيرتها المصرية وشقيقتها المغربية.
المشاكل الوطنية
" تنازل الحركات الإسلامية عن اليوتوبيا الإسلامية ستكون ضريبته الأولى هي الخوض في المشاكل الوطنية والجهوية والمحلية التي يعاني منها عامة الناس والعمل على إيجاد التصورات والحلول الملائمة " |
إن هذا التنازل ستكون ضريبته الأولى هي الخوض في المشاكل الوطنية والجهوية والمحلية التي يعاني منها عامة الناس والعمل على إيجاد التصورات والحلول الملائمة لذلك بدل ثقافة التبشير بالفراديس الموعودة، والدخول في التفاوض الذي تقتضيه عملية الحكم والسياسة بما في ذلك مع الأطراف التي كانت تصنف في القواميس السياسية القديمة بأنها معادية ومناهضة و"كافرة" سواء كان ذلك في المستوى الوطني أو العالمي علّها تستطيع تحقيق البعض من تلك الجنان على أرض الواقع فتكتسب الشرعية التي تمكنها من ممارسة السلطة.
لقد نزلت الانتخابات والفوز الذي حققه الإسلام السياسي بحركاته لتحطّ على الأرض بعد أن كانت معلقة في سماء الأفكار والمثل، وتواجه المشكلات المستعصية التي فتكت بالأنظمة القائمة وجعلت من شعوبها تتخلص منها في حركة تمرد وعصيان مدني ومقاومة غير مسبوقة تجسدت في شكل مظاهرات وانتفاضات أخذت شكل بقع الزيت متوسعة في محيطاتها الجغرافية ومفتوحة في أزمنتها، إلى أن أدت إلى سقوط دكتاتوريات متأصلة في احتكار السلطة والفساد السياسي والمالي والعقاري في الآن نفسه.
وستجد الحركات الإسلامية نفسها في مواجهة نسب فقر مرتفعة جدا وخارجة عن الترتيب المتداول عالميا من قبل 60 بالمائة في المغرب و40 بالمائة في مصر و30 بالمائة في تونس.
وستجد نفسها كذلك تعالج قضايا البطالة ونسبها المتنامية في خط تصاعدي لا يتوقف بسبب التسرب المدرسي المبكر غير المرفق بتكوين مهني يذكر، وبسبب تزايد خريجي الجامعات من أصحاب الشهادات العليا الذين يصعب عليهم الاندماج في سوق الشغل نظرا لغلبة التكوين النظري الذي تلقوه، مما أدى إلى أرقام مفزعة وصلت إلى 20 بالمائة في تونس و10 بالمائة في المغرب و15 بالمائة في مصر، وهذه النسب تترجم وجود ملايين من العاطلين عن العمل في تلك البلدان وصفت البعض منها بأنها الأعلى عالميا مثل مصر.
وتترجم هذه الأرقام واقعا يتميز باختلال مشط في توزيع الثروة نشأت بموجبه مناطق محظوظة اقتصاديا يتمتع سكانها بنصيب كبير من ثروات بلدانها ومن المشاريع الاقتصادية والبنى الأساسية المصاحبة من طرقات ومطارات وموانئ خاصة لما تكون تلك البنيات مرافقة للمنشآت السياحية المنتصبة في الفضاءات الساحلية، بينما يتميز واقع المناطق الداخلية بضعف أو انعدام البنية الأساسية وبغياب للموارد والمنشآت الاقتصادية مثل المناطق الصناعية الكبرى القادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة المتزايدة من اليد العاملة النشيطة.
لقد أدى ذلك الوضع المختل إلى طغيان الفقر والتهميش في مناطق بكاملها تعد ملايين السكان ولأحزمة حمراء تشكلت حول المدن الكبرى بسبب انهيار البنية الزراعية في الأرياف واضطرار الفلاحين إلى بيع أراضيهم وتحولهم إلى عمال زراعيين في البداية قبل أن ينتقل الكثير منهم أو أبنائهم إلى ضواحي العواصم والمدن الكبرى وتشكيل أحياء سرعان ما تحولت إلى مدن مفقرة ومهمشة وعشوائية وخالية من الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وطرقات وحتى من الماء الصالح للشراب والكهرباء أحيانا.
لقد تميزت تلك المدن- الأحزمة المنتشرة حول المدن الكبرى في القاهرة وتونس والدار البيضاء وفي كثير من المدن العربية الأخرى- بانتشار آفات اجتماعية بداخلها من قبل ضعف التمدرس والبطالة المزمنة والجريمة الحادة وانتشار المخدرات وتنامي نسب الطلاق والبغاء والولادة خارج علاقات الزواج والطفولة المشردة.
إن الحركات الإسلامية الصاعدة إلى هرم السلطة في ظل الثورات المتوسعة عربيا هي مدينة لتلك الأحياء بشكل أو بآخر، فالمعروف لدى الدارسين المختصين في دراسات الإسلام السياسي هو نشأة الكثير من تلك الحركات والتنظيمات لاسيما الراديكالية منها وترعرعها وتوسعها بشكل لافت في الأحياء الشعبية والأحزمة المحيطة المتميزة بفقرها الشديد، وفي القرى والأرياف المهمشة والمستغلّة من قبل المدن.
وهذا يعطي الانطباع بأن الإسلام السياسي قد تمكن من أن يسلب من حركات اليسار الماركسي المدافع عن الطبقات الفقيرة الرثّة والحركات القومية العربية الاشتراكية قاعدتها الاجتماعية والشعبية وظلّ التياران الأخيران منحصرين في بعض النخب المنتمية إلى الطبقة الوسطى المتعلمة ثابتة الدخل والمرتبطة في وجودها بوجود الدولة نفسها.
وهنا تبرز العلاقة السببية بين فوز الإسلام السياسي في الجزائر سنة 1990 مجسدا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ والمدن الفقيرة في ضواحي العاصمة وفي غيرها التي صوتت لها بصفة مكثفة.
وهذا الأمر ينسحب إلى حد كبير على الحركة الإسلامية الفائزة في كل من تونس ومصر والمغرب، دون أن نغفل عن قدرة تلك الحركات على كسب شرائح اجتماعية أخرى خاصة من التجار الصغار الشريحة الواسعة ومن أصحاب المال والأعمال الذين كثيرا ما لعبوا أدوارا في العملية السياسية والحكم إلى جانب الأنظمة المطاح بها من قبل القوى الشعبية المنتفضة.
عدالة التوزيع والديمقراطية
" تبدو الحركات الإسلامية وهي في هرم السلطة أمام تحديات عديدة لعل من أبرزها الاستجابة للمطالب الملحة التي كانت وراء الثورات والانتفاضات " |
تبدو الحركات الإسلامية وهي في هرم السلطة أمام تحديات عديدة لعل من أبرزها الاستجابة للمطالب الملحة التي كانت وراء الثورات والانتفاضات التي أسقطت أنظمة أو عدّلت سياسات واختيارات كبرى، والمتمثلة في مطلبين رئيسيين هما التوزيع العادل للثروة وإقامة حياة ديمقراطية حقيقية تحول دون احتكار السلطة من أي كان.
لكن قراءة سريعة في بعض التوجهات الرئيسية وفي البرامج الانتخابية للحركات والأحزاب الفائزة في الانتخابات التي جرت في الدول العربية المذكورة تفضي بنا إلى القول بأن الاختيارات الاقتصادية الكبرى لم تقطع مع سياسات الإصلاح الهيكلي وإعطاء الأولوية للقطاع الخاص والتفويت في الكثير من مؤسسات الدولة لفائدة الرأسمال المحلي والأجنبي وفق الوصفات التي وضعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تبنتها كل من مصر وتونس والمغرب منذ أواسط الثمانينيات من القرن المنقضي مما أدى إلى أزمات اجتماعية عميقة مزمنة دورية انتهت بسقوط تلك الأنظمة أو تحوير سياساتها جذريا.
لقد جاء تثبيت تلك المسارات من قبل الحركات الإسلامية الصاعدة لتطمئن الرأسمال المحلي بوصفه المهيمن على العملية الاقتصادية والرأسمال العالمي باعتباره شريكا اقتصاديا فعليا والحفاظ على توجه السوق لما يمثله من خيار يتلاءم مع الاقتصاد الدولي وقواه الفاعلة والنافذة خاصة في ظل المعاهدات الإستراتيجية مثل اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوربي واتفاقيات التجارة الدولية التي عقدتها الأنظمة القديمة ووجدت القوى الحاكمة الجديدة نفسها مجبرة على الاستمرار في الالتزام بها.
لكن الفارق هو أن تلك السياسات والاختيارات هي التي ساعدت على انتشار الفساد المصاحب للأنظمة القديمة وفشل المنوال التنموي بها وظهور الفقر الحاد والاستبداد بأشكاله وغياب أدوات الرقابة الإعلامية والقضائية أو انحيازها إلى جانب الحكام والمساهمة في تزوير الحقائق وطمسها.
رفع الفقر وتوفير الكرامة
إن الحركات الإسلامية وهي في هرم الحكم تجد نفسها بين وعودها برفع الفقر والتهميش وتوفير الشغل والكرامة لفئات كثيرة مفقرة تقطن الأحياء الشعبية ومدن الصفيح والمناطق المحرومة الريفية والقروية، والالتزام بسياسات اقتصادية ومعاهدات دولية تتناقض مع مصالح تلك الشرائح الواسعة التي شكلت قوة انتخابية حاسمة لصالح تلك الحركات.
كما تواجه قوى الإسلام السياسي إشكالات معقدة في كسب ثقة الأنظمة الغربية التي لا شك أن لها تأثيرا لم ينقطع على الحراك السياسي الداخلي انتهى إلى خلق قوى حليفة لها من الأحزاب السياسية الليبرالية القديمة الحاكمة وغير الحاكمة، مما يصعّب من مهمة الإسلاميين في إقناع تلك الأنظمة بتغيير حلفائها وقطع الطريق أمام الليبراليين الذين لم يخفوا رغبتهم في إجهاض "الحكم الإسلامي" سواء بالوسائل الديمقراطية أو بالتآمر والتحريض.
فهل ينجح الإسلاميون في كسب الحكومات الغربية حليفا لهم وداعما لوجودهم في الحكم وإقناعهم بالتخلي عن حلفائهم القدامى الذين شكلوا عين الغرب التي يرى بها البلدان العربية وأداته التي ينفذ بها سياساته أم أن مصير الإسلاميين سيكون مغادرة كرسي الحكم إذا هم رفضوا القيام بما كان يقوم به غيرهم؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.