ضرورات إعادة السياسة إلى المجتمع

ضرورات إعادة السياسة إلى المجتمع . الكاتب: عمر كوش

undefined

الجسم السياسي
ضرورة المشاركة
التجارب السابقة
الاحتكام إلى السياسة
عجز النموذج القديم

تبرز مسألة إعادة السياسة إلى المجتمع السوري في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ سوريا، بوصفها إحدى المهام الضرورية الملقاة على عاتق القوى الحية فيها، خاصة مع وصول الثورة الشعبية فيها إلى محطة حاسمة، وازدياد خطر ارتداد المزيد من الناس إلى مختلف الولاءات ما قبل المدنية، من اثنية وعشائرية وطائفية ومذهبية، وتزايد خطر التطرف والتعصب والإقصاء.

الجسم السياسي
ويجري التفكير حول تشكيل جسم سياسي جديد -سواء أكان تياراً أم حزباً- ديمقراطي قادر على جمع السوريين بمختلف انتماءاتهم الدينية والإثنية حول مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان، ويسعى إلى تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة، وبناء سوريا الجديدة بوصفها دولة مدنية دستورية تعددية وحديثة، وفق نهج لا يستبعد فرداً أو جماعة، ولا يقصي أو يهمش أحداً، بل يشكل قطباً جاذباً لمختلف المكونات والشرائح الاجتماعية، وعابراً لمختلف الانتماءات والولاءات ما قبل المدنية، دون القفز فوقها. كما ينطلق من الواقع المعاش والمتعين في مختلف مناطق سوريا، بما يعني الابتعاد عن التشخيص الجاهز أو الإسقاطي، وعن مقولات الأيدولوجيا الضيقة والمفاهيم الحزبية القديمة الطاردة للاختلاف والتنوع.

جرت في الداخل السوري خلال الأشهر القليلة الماضية، نقاشات عديدة بين ناشطين وسياسيين كثر، حول ضرورات إيجاد تشكل سياسي جامع

والتفكير في تشكيل سياسي جديد، يحذوه عمل جماعي لترسيخ سبل الوصول إلى تيار وسطي يضم رجال الأعمال والفئات الوسطى والعمال والمزارعين، فضلاً عن المثقفين -النقديين والمستقلين- الحريصين على تشكيل مظلة سياسية في الداخل السوري، تعبر عن نبض ومكنونات الإنسان السوري بكل تفاصيل حياته اليومية، وترتقي بالوعي كي يصبح الانتماء الوطني قائماً على المواطنة والمشاركة الجماعية.

وقد جرت في الداخل السوري خلال الأشهر القليلة الماضية، نقاشات عديدة بين ناشطين وسياسيين كثر، حول ضرورات إيجاد تشكل سياسي جامع. وكان القاسم المشترك هو البحث في سبل دعم الثورة السورية وناسها، والتأثير في مسار الأحداث، ومناقشة ما يطرح من بيانات ومبادرات ومشاريع على الصعيد السياسي.

ويبدو أن هذا الهمّ يتقاسمه نشطاء كثر، منهم القريب أو الداعم للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ومنهم القريب من المجلس الوطني السوري أو سواه من تشكيلات المعارضة السياسية السورية، في الخارج والداخل. وهناك آخرون ينشطون في بعض الهيئات المدنية العاملة على الأرض، والتي نشأت في سياق الحراك الاحتجاجي بعدما كسر السوريون حاجز الخوف بفضل ثورة 15 مارس/آذار 2011.

ضرورة المشاركة
غير أن القسم الأعظم من النشطاء السوريين والمثقفين النقديين كانوا على مسافات معينة من التكوينات السياسية التي نشأت على هامش الثورة السورية، وكانوا يراقبون أداءها بشكل نقدي، وقدموا اقتراحات عديدة للارتقاء بعملها.

وكان ما يقلقهم هو مبدأ التوافق الذي قامت عليها هذه التشكيلات، والذي انقلب في معظم الأحيان إلى محاصصات ومساومات بغيضة بين أطراف وشخصيات تدعي تمثيل الثورة، إلى جانب ارتفاع منسوب الشخصنة وتضخم الذات لدى العديد من ممثلي تشكيلات المعارضة، وخاصة لدى بعض من تحولوا إلى نجوم شاشات تلفزيونية، الأمر الذي يتناقض بشكل صارخ مع تضحيات شباب الثورة الذين برهنوا على إصرارهم في المضي حتى تتحقق أهداف الثورة، وعلى امتلاكهم قدرة كبيرة في التفاني خدمة للثورة.

وكان الانتقاد الأهم الموجه، هو لماذا يعزف مثقفون نقديون ونشطاء سياسيون كثر وفاعلون على الأرض عن المشاركة في التكوينات السياسية الناشئة؟ بل لماذا لا يشكلون جسماً سياسياً مختلفاً عن سواه يضرب مثلاً في خدمة أهداف الثورة، ويعمل على نقد أخطائها وتخليصها قدر المستطاع من التعثر، وإبعادها عن مسارات التطرف والتعصب التي باتت مؤثرة في بعض المواضع؟

من هنا تأتي ضرورة تشكيل سياسي جديد بوصفه إطاراً ذا بنية تنظيمية جامعة تضمن العمل المشترك البنّاء، خاصة أن الثورة السورية في أمس الحاجة إلى وجود قيادة قوية قائمة على المشاركة والندية لا على التفرد والاستئثار، وتعمل على الاستجابة لحاجات الثورة، وطمأنة جميع أبناء سوريا إلى مستقبلهم، الأمر الذي يكسب هذه البنية التنظيمية التأييد الشعبي، بما يعني امتلاكها الشرعية الشعبية اللازمة لأي تشكيل سياسي.
 
وقد اختبرت الثورة السورية حملة الأفكار الطنانة -من يساريين وقوميين وإسلاميين- في خيارهم الديمقراطي، ومدى اقترابهم والتزامهم بمصالح الناس وحقوقهم، وأعادت فرزهم بطريقة لا لبس فيها. وتبيّن أن الأحزاب اليسارية والقومية والدينية عاجزة عن إحداث قطيعة معرفية وسياسية مع ماضيها القائم على الإقصاء والأحادية وعلى التعبئة الأيدولوجية ذات الاتجاه الوحيد، حيث لا يزال قادتها وممثلوها أسرى نفس العقلية القديمة ونفس النهج القديم.

التجارب السابقة
بيّنت التجارب الحزبية القديمة في سوريا أن الإشكالية لا تنحصر في مسمى الحزب أو التيار في الحياة السياسية بشكل عام، بل في ماهية الشكل السياسي والتنظيمي الذي يتجاوب مع مقتضيات التغيير المطلوب في واقع الحال المتحقق.

لم تعمل الأحزاب والتنظيمات التي عرفتها سوريا منذ خمسينيات القرن العشرين المنصرم، إلا على إدامة الانتماءات ما قبل المدنية وتعميق التفاوت الطبقي والاجتماعي

مع الاعتقاد بأن التغيير المطلوب، عليه القطع مع الأشكال السابقة بغية الخروج من حالات القمع والاستبداد، ومعرفة الكيفية والمعنى والطريق التي تفضي إليه، خصوصاً أن الحياة السياسية في سوريا لم تعرف غير أنماط انقلابية أفضت إلى نظم تسلطية وشمولية.

وقد بقيت الحياة السياسية مشدودة إلى مفهوم الحزب التوتوليتاري العسكري الانضباط في أغلب لحظاتها التاريخية الحديثة، ولم تخرج إلا في لحظات نادرة عن نطاقه الضيق، ولم تتمكن من السير باتجاه تشكيل تيار وطني غير إثني ولا طائفي، أي خلق تشكيلة اجتماعية واسعة تنهض على فعل تواصلي قائم على الحوار الفكري بين أفراد أحرار.

ولم تعمل الأحزاب والتنظيمات التي عرفتها سوريا منذ خمسينيات القرن العشرين المنصرم، وخصوصاً تلك التي وصلت إلى الحكم، إلا على إدامة الانتماءات ما قبل المدنية، وتعميق التفاوت الطبقي والاجتماعي، وعلى تأبيد حاضر الركود والفوات. كما لم تتمكن من صون وتقوية الوحدة الوطنية حتى في داخل سوريا، وابتعدت في ممارساتها السلطوية عن أقلمات المفهوم الحديث للمواطنة والانتماء للوطن، فحلت الانتماءات الطائفية والإثنية والجهوية والعشائرية لتفعل فعلها في مختلف الانتماءات ما قبل المدنية.

ونشأ مفهوم جديد للسلطة المستبدة في داخل الأحزاب الحاكمة وغير الحاكمة، هو مفهوم السلطة المتسلطة على الأفراد وعلى المجتمع، مع تراجع مفهوم الحزب الممثل للمجتمع، مع أن أقلمات مفهوم السلطة أفضت في عالم اليوم إلى مفهوم السلطة المنظمة للمجتمع، ذلك أن دورها في المفهوم الحديث يتجسد في تنظيم القوى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ووضع هذه القوى في طريقة تناغمية قادرة على تحقيق الهدف الاجتماعي الأسمى، من خلال وضع نظم ومؤسسات قادرة على خلق تفاعل إيجابي سلمي بين هذه القوى عبر سلسلة من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، ينهض هدفها على تحقيق الأهداف الاجتماعية بالوسائل التكافلية والاحتضان، وليس بالإقصاء والإبعاد والتخوين.

الاحتكام إلى السياسة
في سياق الانقسامات والتجاذبات التي تعيشها سوريا هذه الأيام، فإن المطلوب هو إعادة السياسة إلى المجتمع السوري، بمعناها المدني الواسع الذي حرمت منه على مدى أكثر من أربعة عقود، بما يعني أن القوى الديمقراطية السورية مدعوة إلى عدم ترك الساحة للقوى التي تستغل الدين أو الطائفة أو الإثنية أو العشيرة لتحقيق مآرب سياسية، وذلك عبر العمل على تشكيل أحزاب وتيارات سياسية -إلى جانب تشكيل جمعيات مدنية وتحالفات سياسية- بغية وضع مقدمات بناء دولة لجميع مواطنيها، والاحتكام إلى السياسة، والوقوف بوجه التطرف الديني والنزعات والولاءات والعصبويات الطائفية والمذهبية والعشائرية والإثنية، والعمل على جعل الانتماء للوطن، والاختيار للبرامج السياسية، وترجمة مشاعر الوحدة إلى عقد وطني يراعي التعدد ويقبل الآخر، وقادر على التعبير عن مصالح جميع أفراد المجتمع، والبحث عن مخارج هادئة لآثار وإرهاصات الاستبداد الأسدي.

ولن ينفعنا الاستغراق طويلاً في بحث الإطار النظري الحامل لثقافة الديمقراطية، إذ الممارسة هي سيدة الأحكام في هذا المجال. والمأمول أن تجسد التشكيلات السياسية الجديدة تقاليد ديمقراطية وطنية تنبذ اللجوء إلى العنف في الحياة السياسية والاجتماعية.

وقد شهدت الأحزاب السورية التقليدية أزمات عاصفة، وكانت تنتهي في كل مرّة إما بالتصفيات والإعدامات والنفي على مستوى حزب البعث في السلطة، أو بانشقاقات أو تجميدات أو خلافات على زعامة الحزب على مستوى أحزاب المعارضة. وكانت تأخذ جميعها طابعاً قاسياً من العداوات والاتهامات والمكائد، الأمر الذي كان يعكس حالات قصوى من الاستبداد والانهيار والتردي على مختلف المستويات.

عجز النموذج القديم
ربما يكون الأمر نتيجة طبيعية، نظراً للاستبداد المقيم وحالة الاستثناء السائدة في العقود الأربعة الماضية، لكن ذلك لا يحجب حقيقة أن الأحزاب والتنظيمات التي عرفتها الحياة الحزبية السورية لم تعمل على إرساء تقاليد ديمقراطية، بل على إثارة مختلف العصبويات الفئوية والمذهبية والإثنية، وعلى تعميق التفاوت الاجتماعي والطبقي، وعلى تأبيد حاضر الركود والفوات.

لم يتمكن حزب البعث الحاكم من صون وتقوية الوحدة الوطنية، بل كانت النخبة التي حكمت باسمه بعيدة كل البعد عن أقلمات المفهوم الحديث للمواطنة والانتماء للوطن

ولم يتمكن حزب البعث الحاكم من صون وتقوية الوحدة الوطنية، بل كانت النخبة التي حكمت باسمه بعيدة كل البعد عن أقلمات المفهوم الحديث للمواطنة والانتماء للوطن، فعملت على إثارة مختلف الانتماءات الطائفية والإثنية والجهوية والعشائرية، لتفعل فعلها في ثنايا وتفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية في البلد.

وعلى الطرف المقابل بدت ممارسات أحزاب المعارضة -ولو بدرجات متفاوتة- كأنها لا تختلف كثيراً عن ممارسات أحزاب السلطة، بل وعجزت عن تشكيل بديل ديمقراطي مدني قادر على تقديم نموذج مختلف.

ولا شك في أن أهداف الثورة -في محصلتها- تتمحور على بناء دولة ديمقراطية تعددية يكون فيها الفرد حراً كريماً، وينظم حياتها وسلطاتها دستور مدني ينهض على التداول السلمي السلطة والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويخضغها للرقابة والمحاسبة، ويحدد دور الجيش وقوى الأمن في حماية الوطن، ويجعلها أيضاً خاضعة للمحاسبة.

ولعل النموذج الجديد للجسم السياسي عليه أن يجسد تحالفات وطنية ضمن دولة مواطنة يتساوى فيها جميع السوريين مساواة كاملة في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الإثنية العرقية أو المذهبية، وأن يعمل على إزالة آثار الاستبداد ومعه جميع السياسات العنصرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.