الإعلان الدستوري وأزمة الثنائيات الضيقة

قراءة في الإعلان الدستوري - الكاتب: محمد عباس ناجي

undefined

تصورات خاطئة
معارضة دون أجندة

أثار الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس محمد مرسي يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أزمة سياسية حادة بين مؤيدي الرئيس ومعارضيه. فالفريق الأول ما زال مصراً على المضي قدماً في تطبيق الإعلان، معتبراً أن ذلك يمثل "انتصاراً للثورة" و"حماية لها"، بينما يتمترس الفريق الثاني حول رفض الدخول في حوار مع الرئيس وفريقه إلا بعد التراجع عنه وحل الجمعية التأسيسية وإعادة تشكيلها بهدف وضع دستور جديد للدولة، وهو ما يوحي بأن حالة من التوتر والاحتقان ستفرض نفسها على الساحة السياسية المصرية خلال المرحلة المقبلة.

والمثير في الأمر أن المشهد السياسي الذي أنتجته الأزمة السياسية الأخيرة لا يخلو من مفارقات عديدة وغريبة في الوقت نفسه، إذ إن إعلاناً دستورياً من هذا النوع -والذي ستترتب عليه في حال تطبيقه استحقاقات سياسية مهمة- يفترض أن يتم الإعداد له بطريقة مدروسة ومحترفة تراعي ردود الفعل المتوقعة التي يمكن أن يثيرها، والظروف الحساسة التي تمر بها البلاد بسبب الأزمات الاقتصادية والأمنية المتعددة. لكن الملفت للانتباه أن عدداً كبيراً من مستشاري ومساعدي الرئيس أكدوا أنه لم يؤخذ برأيهم في هذا الأمر، وهو ما يفسر اتجاه بعضهم إلى تقديم استقالته، ربما احتجاجاً على المضامين التي طرحها الإعلان، أو على عدم استشارتهم بخصوصه.

 كما أن الإعلان -رغم التأييد الذي حظي به من جانب قوى عديدة- دفع الشارع المصري إلى استقطاب سياسي ضيق وثنائيات حدية غير مسبوقة بين إسلاميين ومدنيين، ومؤيدين للرئيس ومعارضين. وبدون شك، فإن هذه الحالة من الاستقطاب يمكن أن تؤدي إلى اندلاع مواجهات دامية ووقوع ضحايا جدد، خصوصاً مع استدعاء الطرفين للشارع والميدان باعتبارهما ساحة المواجهة الحقيقية. وربما يفرض هذا الوضع المتأزم صعوبات عديدة أمام الجهود التي تبذلها الدولة للتعامل مع الأزمات المختلفة، وهو ما تبدو مؤشراته واضحة في الانهيار الذي واجهته البورصة المصرية بعد صدور الإعلان.

دفع الإعلان الدستوري خصوم الرئيس إلى التكتل في مواجهته -على غير المتوقع- ورفع سقف التحدي من التراجع عن الإعلان فقط، إلى المطالبة بحل اللجنة التأسيسية

تصورات خاطئة
هذه الأجواء السياسية الملبدة بالغيوم تطرح دلالة مهمة مفادها أن الإعلان الدستوري لم يخضع -في الغالب- لقراءة متأنية من جانب النخبة الحاكمة التي حشدت أنصارها لدعم قرارات الرئيس والرد على ضغوط معارضيه.

ويبدو أن الإعلان ربما صدر في وقت اعتقدت فيه أنه يمكن احتواء ردود الفعل المتوقعة إزاءه، وأن قوى المعارضة ستفشل في حشد مؤيديها من أجل فرض ضغوط قوية على الرئيس للتراجع عنه، وأن الإجراءات الأخرى التي تضمنها -خاصة ما يتعلق بإعادة التحقيقات والمحاكمات في جرائم قتل المتظاهرين، وتقديم معاشات لأسر الشهداء والمصابين، وإقالة النائب العام- يمكن أن تؤدي إلى إضعاف جبهة الخصوم، وبالتالي تساعد على تمرير الإعلان دون ضجيج، خصوصاً في ظل الانتقادات العديدة التي وجهتها كثير من القوى السياسية -ومنها قوى محسوبة على المعارضة حالياً- للمحاكمات والتحقيقات التي جرت خلال الفترة السابقة في جرائم قتل المتظاهرين.

لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فقد دفع الإعلان الدستوري بشكل فوري ومباشر، خصوم الرئيس إلى التكتل في مواجهته على غير المتوقع، ورفع سقف التحدي من التراجع عن الإعلان فقط، إلى المطالبة بحل اللجنة التأسيسية التي أصبحت خاضعة لسيطرة تيار الإسلام السياسي بعد الانسحابات المتتالية من جانب القوى الأخرى التي شاركت في أعمالها خلال الفترة السابقة. أي أن الأزمة تحولت من "أزمة دستورية" بين الرئيس والسلطة القضائية، إلى "أزمة سياسية" بين قوى سياسية تؤيد الرئيس وتعتبر ما قام به ضرورياً للحفاظ علي الثورة في مواجهة "الأخطار المحدقة بها"، وبين قوى أخرى ترى أن الرئيس تجاوز مبدأ الفصل بين السلطات وسعى إلى تعزيز صلاحياته السياسية.

كما أجهض دعم القضاة للدعوة التي أطلقها نادي "قضاة مصر" لتعليق العمل في المحاكم والنيابات بدءاً من 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي, المساعي التي بذلها الرئيس لاستثمار الانقسام القائم داخل السلطة القضائية من أجل تمرير الإعلان وتقليص قوة خصومه، إذ علقت الكثير من المحاكم عملها، وأعلنت العديد من النيابات مشاركتها في الإضراب، وتقدم العديد من المحامين العموميين التابعين للمكتب الفني للنائب العام بطلبات لإنهاء ندبهم من النيابة وعودتهم إلى العمل بالاستشارة القضائية.

وأصدرت المحكمة الدستورية العليا بياناً أدانت فيه اتهامات الرئيس لها بالمشاركة في مؤامرة لقلب نظام الحكم والفصل في الدعاوى بناءً على هواها السياسي، مؤكدة على استمرارها في أداء مهامها "المقدسة". وأعلنت محاكم الاستئناف والنقض تعليق أعمالها، وهو ما يهدد بتعرض البلاد لشلل قضائي قد ينتج تداعيات غير محمودة العواقب.

وفوق ذلك كله، نجح خصوم الرئيس في استدعاء الشارع لمواجهته -على غير المتوقع- عبر تنظيم مظاهرة "للثورة شعب يحميها" بميدان التحرير يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقد دفع ذلك جماعة الإخوان إلي الإحجام عن تنظيم مظاهرة تأييد للإعلان في ميدان نهضة مصر بالجيزة متزامنة مع مظاهرة التحرير، منعاً لحدوث مواجهات، وتجنباً لتعرض مقراتها في المحافظات المختلفة للاقتحامات.

رغم أن قوى المعارضة ما زالت تعترف بشرعية الرئيس مرسي التي اكتسبها بإجراء أول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخ مصر الحديث، إلا أنها تؤكد أن هذه الشرعية بدأت تهتز

معارضة دون أجندة
ورغم أن قوى المعارضة ما زالت تعترف بشرعية الرئيس مرسي التي اكتسبها بإجراء أول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخ مصر الحديث، فإنها باتت تؤكد أن هذه الشرعية بدأت تهتز بفعل القرارات المتسرعة التي اتخذها دون تروٍ ثم تراجع عنها، مثل قرار عودة مجلس الشعب يوم 8 يوليو/تموز الماضي، وقرار إقالة النائب العام يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول الفائت، بل إنها بدأت تشير إلى أن الإعلان الدستوري الجديد وضع هذه الشرعية على المحك، لأن أياً من السيناريوهات المحتملة التي يمكن أن تنتهي إليها الأزمة الحالية سيخصم -برأيها- من هذه الشرعية دون شك.

 فإذا أصر الرئيس على المضي قدماً في تنفيذ الإعلان الدستوري رغم الرفض القوي الذي قوبل به من جانب المعارضة، فسيتحول بذلك إلى رئيس مطلق الصلاحيات، وهو بذلك يجازف بفقدان شرعيته كلية، لأنه سيبدو في نظر الكثيرين دكتاتوراً جديداً جاء عبر صندوق الانتخابات ليعيد إنتاج نظام مستبد بنكهة جديدة.

أما إذا استجاب الرئيس لمطالب المعارضة وتراجع عن الإعلان الدستوري، فسينتقص ذلك من رصيده بدرجة كبيرة، وسيوجه ضربة قوية لشرعيته السياسية أيضاً، خصوصاً أنه لن يكون التراجع الأول وربما لن يكون الأخير، وهو ما سيعطي انطباعاً بأن ثمة خللاً واضحاً في مؤسسة الرئاسة سينتج -على الأرجح- تداعيات سلبية على ما تبقى من استحقاقات سياسية، وعلى رأسها وضع الدستور الجديد والاستفتاء عليه ثم إجراء الانتخابات البرلمانية بعد ذلك.  

لكن رغم نجاح المعارضة في التكتل ضد الرئيس عبر "جبهة إنقاذ مصر"، فإن ذلك لا ينفي أن الخلافات القائمة بين القوى المنضوية تحت لوائها ليست هامشية ولا يمكن تسويتها بسهولة، أي أن التوافق فيما بينها يبدو مؤقتاً، ويتأسس فقط على رفض الإعلان الدستوري والسعي لإلغائه، والمطالبة بإعادة تشكيل اللجنة التأسيسية.

كما أنها لم تتمكن من تبني مواقف متمايزة عن كوادر وأتباع النظام السابق أو ما يعرف إعلامياً باسم "الفلول" الذين سعوا لاستثمار الأزمة الأخيرة من أجل إعادة الاندماج في المشهد السياسي في هذه المرحلة، ومن ثم التحول إلى رقم مهم يحظى بشرعية سياسية في مرحلة ما بعد انتهاء الأزمة السياسية الحالية التي سيعقبها الاستفتاء على الدستور والانتخابات البرلمانية.

استدعاء الخارج في أزمة داخلية ينتج تداعيات سلبية عديدة للمعارضة، ليس فقط لأنه يمنح فرصة للخصوم من أجل تشويهها، ولكن أيضاً لأنه يعطي انطباعاً بأنها تعاني من انقسامات ليست هينة

وتكمن المشكلة الأكبر في أن المعارضة لا تتبنى أجندة عامة للتعامل مع المرحلة المقبلة، إذ إنها ما زالت تؤكد على شرعية الرئيس وأن خلافها معه يتركز حول الإعلان الدستوري واللجنة التأسيسية، فضلاً عن بعض القضايا الأخرى، إلا أن إصرار الرئيس على المضي قدماً في تنفيذ الإعلان وتلويح جماعة الإخوان بقدرتها علي التعبئة والحشد، سيدفعها إلى تبني وسائل تصعيدية أخرى، وهنا تبرز "الخيارات الضيقة" التي تواجهها والتي بدت جلية -على سبيل المثال- في استدعاء بعض كوادرها للخارج من أجل فرض ضغوط على الرئيس للتراجع عن الإعلان الدستوري.

لكن الملفت للانتباه في هذا السياق أن استدعاء الخارج وتحويله إلى رقم مهم في أزمة داخلية ينتج تداعيات سلبية عديدة للمعارضة، ليس فقط لأنه يمنح فرصة للخصوم من أجل تشويه المعارضة واتهامها بالتبعية والعمالة وبالسعي لتقويض النظام الجديد الذي أسسته الثورة في مصر، ولكن أيضاً لأنه يعطي انطباعاً بأن المعارضة التي تبدو موحدة في الظاهر، تعاني من انقسامات ليست هينة ربما تؤثر على توجهاتها خلال المرحلة القادمة التي تبدو حاسمة في تحديد المسار الذي ستؤول إليه ثورة 25 يناير، وتفتقر إلى رؤية واقعية لما يمثله الخارج بالنسبة لاستحقاقات الداخل.

وهذا ما يبدو جلياً في إغفالها للموقف "المتريث" الذي تبنته الولايات المتحدة تجاه الأزمة في مصر، والذي عبرت عنه المتحدثة باسم الخارجية الأميركية بقولها "إننا بعيدون جداً عن (حاكم) متسلط يقول ببساطة: هذا أو لا شيء"، الأمر الذي دفع محللين غربيين إلى الربط بين هذا الموقف وترحيب إدارة الرئيس باراك أوباما بالجهود التي بذلها الرئيس مرسي في أزمة غزة والتي انتهت بالتوقيع على اتفاق الهدنة يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي, أي قبل وقت قصير من صدور الإعلان الدستوري.

فضلاً عن ذلك، فإن إصرار المعارضة على وضع شروط مسبقة للحوار مع الرئيس -وهي التراجع عن الإعلان الدستوري وتشكيل لجنة تأسيسية جديدة- يفرض بدائل محدودة لتسوية الأزمة الحالية، ويجهض المبادرات العديدة التي طرحها بعض الأكاديميين والسياسيين كحلول وسط يمكن أن تحظى بقبول الطرفين، وهو ما سيساعد على إطالة الأزمة وتصعيد حالة التوتر والاحتقان السائدة في الشارع، في ظل الثنائيات الحدية التي فرضت نفسها على المشهد السياسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.