مشعل إذ يرسم للفلسطينيين خريطة التحرير

مشعل إذ يرسم للفلسطينيين خارطة التحرير . لبكلتب : مؤمن بسيسو

undefined 

تأصيل المواقف والسياسات
أولوية المصالحة
الخيارات السياسية والوطنية
إدارة الصراع مع الاحتلال
رسالة الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي

أيا كانت القراءات السياسية التي أسهبت في تحليل أبعاد زيارة خالد مشعل لغزة، فإن هذه الزيارة أذنت بمرحلة جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية وصراعه مع الاحتلال الإسرائيلي، ووجدت ترجمتها العملية وتجسيداتها الحقيقية في الخطاب التاريخي الشامل الذي ألقاه مشعل أمام مئات الألوف بمدينة غزة في ذكرى تأسيس حماس الخامسة والعشرين، وما تلاه من لقاءات مع القوى الفلسطينية المختلفة ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، مما شكل -بحق- خريطة تحرير، شاملة وحقيقية، للشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والإسلامية، ودستورا رصينا للعمل الوطني الفلسطيني خلال المرحلة المقبلة.

تأصيل المواقف والسياسات
أولى معالم وأصول الخريطة التي رسمها مشعل تمثلت في جمع الموقف الفلسطيني، فصائليا وشعبيا، على الحقوق والثوابت الوطنية الفلسطينية بعيدا عن أي بخس أو انتقاص باعتبار ذلك أرضية الانطلاق نحو التحرير، والقاعدة الأساسية التي يرتكز عليها المشروع الوطني الفلسطيني.

مشعل استطاع إعادة الاعتبار لبرنامج الحقوق والثوابت الوطنية الذي أحدث فيه الرئيس أبو مازن ثلمة كبيرة إن لم يكن شرخا واسعا عبر تصريحاته الخطيرة حول حق العودة

وبكثير من الثقة يمكن القول إن مشعل استطاع إعادة الاعتبار لبرنامج الحقوق والثوابت الوطنية الذي أحدث فيه الرئيس أبو مازن ثلمة كبيرة إن لم يكن شرخا واسعا عبر تصريحاته الخطيرة حول حق العودة التي لاقت رفضا فلسطينيا شاملا في الآونة الأخيرة، وضمان انحياز كافة القوى والفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها فتح، لهذا البرنامج، يسنده الانتصار السياسي الفلسطيني في الأمم المتحدة الذي أسهم في رفع سقف الخطاب الرسمي للسلطة وفتح في مواجهة التعنت الإسرائيلي، وسمح -بالتالي- بحالة فلسطينية مواتية أكثر ما تكون اقترابا بين الفصائل الفلسطينية من أي وقت مضى.

ومن هنا فقد التقط مشعل أهمية اللحظة التاريخية السانحة ليضع نواة البرنامج الوطني في حِجْر قوى العمل الوطني الفلسطيني، ويهيئ للخطوة التالية (تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام) التي ستعبد الطريق أمام بلورة الإستراتيجية الفلسطينية الشاملة إبان المرحلة المقبلة.

أولوية المصالحة
يدرك مشعل أن إعادة صياغة الواقع الفلسطيني الداخلي وبناء إستراتيجية وطنية شاملة تقود الفلسطينيين نحو النصر والتحرير تبدأ بتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام.

لذا، كان مشعل أكثر ما يكون تركيزا على حتمية إنجاز المصالحة الداخلية وطيّ صفحة الانقسام البغيض، وخاصة في ظل التحديات الهائلة التي تعصف بالفلسطينيين وقضيتهم.

وهكذا فإن زيارة مشعل لغزة ولقاءاته المختلفة وخطاباته الشاملة وتصريحاته العميقة استهدفت في جزء محوري منها تذليل كافة العوائق والصعاب أمام مسيرة المصالحة الفلسطينية، إذ أتيح لمشعل مخاطبة قيادات وكوادر وقاعدة حماس وجها لوجه لأول مرة، وملامسة عقولهم وقلوبهم بغية توفير الأرضية المواتية والمناخ الملائم لاستيعاب المتغيرات التي تحملها المصالحة عقب سنين الانقسام العجاف التي أفسدت الحياة الوطنية الفلسطينية وأحدثت شرخا نفسيا واجتماعيا هائلا داخل الكيانية الوطنية والمجتمع الفلسطيني ككل.

وكما قطعت جهيزة قول كل خطيب، فإن خطاب وتصريحات مشعل حول أولوية تطبيق المصالحة قطعت كل قول فلسطيني، إذ أجمعت المكونات السياسية والمجتمعية الفلسطينية على الإشادة بالرؤية العميقة والطرح الشفاف الذي عرضه مشعل بخصوص المصالحة، ولم تجد حركة فتح -قطب الانقسام الآخر على الساحة الفلسطينية- سوى دعم هذه الرؤية من دون أي ملاحظات أو تحفظات.

لقد رسم مشعل أمام القوى والفصائل الفلسطينية خريطة طريق حقيقية حول آليات إنفاذ المصالحة واستعادة التوافق الداخلي، بدءا من ترطيب الأجواء ونبذ لغة التدابر والخصام، مرورا بالتذكير بثقافة التسامح والتفاهم والتعاون والتكافل التي غابت عن الساحة الفلسطينية الداخلية طيلة حقبة الانقسام الماضية، وصولا إلى تقعيد القواعد وتأصيل الأصول الضرورية لإنجاز مسيرة المصالحة على أسس سليمة تتجاوز مطبات الماضي وتتلافى أخطاء وثغرات الاتفاقات السابقة.

ولا ريب أن تشدد مشعل في طرح مفهوم الشراكة الوطنية كشرط لانتشال الفلسطينيين من مأزقهم الداخلي الكبير، وتأكيده على ضرورة التعاون الفصائلي المشترك، أيا كانت الأوزان التمثيلية والثقل السياسي للفصائل، وتشبيهه حركتي حماس وفتح بجناحي الوطن الفلسطيني الذي لا يستطيع أن يحلق بأحدهما بمعزل عن الآخر، يعكس استفادة كبرى من التجارب الماضية ووعيا رفيعا بمتطلبات المرحلة والاستحقاقات المترتبة على إنجاز مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني.

الخيارات السياسية والوطنية
المعلم الثالث في خريطة الطريق، التي رسمها مشعل للفلسطينيين نحو النصر والتحرير، يكمن في تنقية الخيارات السياسية والوطنية التي شابتها الأخلاط والشوائب طيلة المرحلة الماضية بفعل نشأة السلطة الفلسطينية عقب توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993م، وانخراط حركة حماس التي تشكل رأس حربة المقاومة الفلسطينية في الانتخابات التشريعية عام 2006م.

التحدي الأساسي الذي يخوضه مشعل هذه الأيام يكمن في السعي المتدرج لإعادة صوغ الخيارات السياسية والوطنية للمجموع الفلسطيني السلطوي والفصائلي من جديد على أسس صحيحة

لقد أعادت الكلمات الثاقبة التي أطلقها مشعل في مهرجان ذكرى انطلاقة حماس بخصوص التحرير قبل الدولة سريان الروح في جسد المشروع الوطني الفلسطيني من جديد، وصححت مفاهيميا الخطأ الإستراتيجي الكبير الذي تغافل عن تأسيس السلطة تحت الاحتلال قبل إنجاز مشروع التحرير.

ولئن بدا تصحيح مشعل مفاهيميا لم يتجاوز إطاره النظري في نظر البعض إلا أن مشعل اتخذ خطوة عملية هامة اجترت استدراكا هاما ينحاز إلى سياسة تقليل الخسائر الوطنية إلى حدها الأدنى عبر إعادة صياغة وظائف السلطة بعيدا عن الأمن والسياسة الخادمة لمصالح الاحتلال لجهة خدمة مصالح شعبنا وقضيته الوطنية.

وبهذا فإن مشعل ابتغى إحداث مقاربة جديدة تحاول استدراك الأخطاء الكارثية التي ترتبت على واقع السلطة الراهن عبر محاولة نزع المهام الوظيفية للسلطة عن سياقها السياسي والأمني الذي يصب أساسا في خدمة الاحتلال وقصرها على الجوانب الخدمية وإدارة الشؤون الحياتية للفلسطينيين، وإعادة بناء منظمة التحرير كي تصبح ممثلا حقيقيا لجميع الفلسطينيين.

ومع ذلك يدرك مشعل أن غايته ليست سهلة المنال، لكنه يؤمن في الوقت ذاته بأن إنجاز مسيرة المصالحة الفلسطينية والانخراط الفعلي في مسار الشراكة الوطنية من شأنه أن يقرب الفلسطينيين من بعضهم بعضا أكثر فأكثر، ويباعد بينهم وبين الإسرائيليين شيئا فشيئا، وخصوصا في ظل سيادة أجواء التوتر الحالية التي تصبغ العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية الرسمية عقب خطوة الأمم المتحدة، ورفض السلطة العودة غير المشروطة إلى طاولة المفاوضات، وتهديد أبو مازن باللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية حال تصعيد إسرائيل لمشاريعها الاستيطانية.

إن التحدي الأساسي الذي يخوضه مشعل هذه الأيام يكمن في السعي المتدرج لإعادة صوغ الخيارات السياسية والوطنية للمجموع الفلسطيني السلطوي والفصائلي من جديد على أسس صحيحة، بما يجعلها أكثر تلاحما مع الحقوق والثوابت الوطنية، بدءا من تطهير السلطة من رجس الوظيفة الأمنية التي لوثتها منذ نشأتها وحتى اليوم، وليس انتهاء بحمل السلطة على الاستقامة في المواقف والسياسات التي تتسق مع القيم والحقوق الوطنية.

إدارة الصراع مع الاحتلال
المعلم الرابع في خريطة الطريق التي رسمها مشعل، يتمثل في إرساء رؤية أو إستراتيجية لإدارة الصراع مع الاحتلال، والتوقف عن انتهاج الأساليب العشوائية والفوضوية والابتعاد عن تحكيم القناعات والنوازع الشخصية في غمار معركة الوجود والمصير مع الاحتلال.

ولعل الحديث عن إدارة الصراع مع الاحتلال لامس ميقاته السليم أكثر ما يكون إثر انتصار المقاومة في الحرب الأخيرة والانتصار الدبلوماسي في الأمم المتحدة، وما رافق ذلك من تهديدات إسرائيلية بشن حرب جديدة على غزة على المستوى العسكري، وفرض عقوبات قاسية على السلطة على المستوى الاقتصادي والسياسي.

وهكذا فإن موضوع إدارة الصراع مع الاحتلال تحول اليوم إلى ضرورة وطنية ملحة لا فكاك عنها، ولم يعد بالإمكان تأجيلها والتسويف بشأنها أو الالتفاف عليها وإخضاعها للأجندة الخاصة التي حكمت أمرها حتى اليوم.

تأسيسا على ذلك، فإن مقاربات مشعل على هذا الصعيد ترتكز على جمع الصف الوطني الفلسطيني على رؤية موحدة إزاء إدارة الصراع مع الاحتلال سياسيا وعسكريا، وهي مقاربة منطقية وواقعية وبعيدة عن التنطّع والمثالية بحيث تجنح إلى التوافق الوطني الشامل على التحلل التدريجي من قيود اتفاق أوسلو وملحقاته الأمنية واتفاقية باريس الاقتصادية، وفتح الخيارات في مواجهة الاحتلال، والتسلح بموقف فلسطيني جمعي للتحرك الفاعل على المستوى الإقليمي والدولي في مواجهة الاحتلال، واختيار أوقات التهدئة والتصعيد وأساليب النضال وأشكال المقاومة الملائمة بما يتناسب مع طبيعة المرحلة ومقتضيات المصلحة الفلسطينية العليا.

وبقراءة متأنية يمكن الجزم بأن ما يطرحه مشعل اليوم يعبر عن رؤية منطقية تستجيب بشكل طبيعي لاحتياجات ومتطلبات الواقع الفلسطيني، وهي رؤية أشد ما تكون ضرورية وإلحاحا في هذه المرحلة التي تشهد بدايات صعود فلسطيني وانكسار إسرائيلي، وتبدو فرص نجاحها وإنفاذها عالية وسط المعطيات الواقعية المتراكمة التي تشدّ الفلسطينيين إلى بعضهم بعضا خلافا للمراحل الماضية التي دَاخَلها قلة وعي وإدراك وصاحبها حسابات خاطئة ممزوجة بتدخلات خارجية أحبطت كل فرص التوافق الداخلي وجعلت من وحدة الكلمة والصف الفلسطيني أمرا متعذرا.

وهنا يمكن فهم موقف مشعل حين حرص على وضع خطوة إنجاز الدولة في الأمم المتحدة في سياقها الوطني السليم الذي ينتظم إستراتيجية فلسطينية شاملة تعنى بإدارة توافقية للصراع مع الاحتلال بعيدا عن أي قطع أو اجتزاء قد يفرغ الخطوة من مضمونها مستقبلا، وحين أشاد بوحدة الموقف العسكري الذي تجسد إبان الحرب الأخيرة من خلال غرفة العمليات العسكرية المشتركة التي شكلتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، والتي ينبغي توسعتها لتشمل كافة قوى المقاومة الفلسطينية خلال الفترة المقبلة.

رسالة الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي
المعلم الخامس والأخير في خريطة التحرير التي رسمها مشعل يكمّن في الرسالة التي حملها للجوار الإقليمي والمجتمع الدولي، وهي رسالة تتباين في محتواها الخاص بالجوار الإقليمي عنه في المجتمع الدولي، وتنم عن رؤية بعيدة المدى وواثقة لطبيعة التحالفات المرجوّة وحتمية التمكين والنصر القريب على المشروع الصهيوني.

رسالة مشعل للجوار الإقليمي والمجتمع الدولي تتباين في محتواها الخاص بالجوار الإقليمي عنه في المجتمع الدولي، وتنم عن رؤية بعيدة المدى وواثقة لطبيعة التحالفات المرجوّة وحتمية التمكين والنصر القريب على المشروع الصهيوني

في رسالته إلى الجوار الإقليمي يؤكد مشعل على الدور العربي والإسلامي بوصفه عمقا إستراتيجيا للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، ويستوحي الدعم الكبير غير المسبوق الذي حازته غزة في غمرة العدوان، ومستوى التفاعل العربي والإسلامي الرسمي الذي ارتقى إلى مستويات مشهودة، كي يبني أساس العلاقة الطبيعية، الواضحة والراسخة والمتينة، بين الفلسطينيين وجوارهم العربي والإسلامي، التي تضررت في حضرة الأنظمة الاستبدادية السابقة، ويزرع حاضنة جديدة ومثمرة للقضية الفلسطينية في قلب المنظومة الدولية التقليدية الممالئة لإسرائيل والمعادية لطموحات الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة.

وفي ذلك إشارة بالغة الدلالة إلى طبيعة الدور العربي والإسلامي المؤثر والداعم للفلسطينيين وقضيتهم، والكابح لغلواء وشطحات السياسة والمخططات الإسرائيلية خلال المرحلة المقبلة.

أما رسالته للمجتمع الدولي فقد كانت رسالة تحذير بالدرجة الأولى تعكس نديّة في النظرة والموقف، ولا تحمل أي معنى من معاني الاستجداء التي درجت على إتيانها السلطة الفلسطينية طيلة المراحل الزمنية الماضية.

ومن شأن هذه الرسالة الواثقة المستندة إلى الانتصارات الميدانية والسياسية الأخيرة على الاحتلال الإسرائيلي، وفشل سياسات الحصار والعزل والعدوان الإسرائيلية، أن تُحدث مزيدا من الجدل والانقسامات على الساحة الدولية بشأن جدوى سياسة العزل السياسي المفروضة على حماس واستمرار وضعها في خانة المنظمات الإرهابية، وتمنح حماس حصانة مهمة ونقاط قوة إضافية في وجه المواقف والاشتراطات الدولية المعروفة تجاه الاعتراف بإسرائيل ونبذ الإرهاب والالتزام بالاتفاقيات الموقعة بين السلطة وإسرائيل.

وختاما.. فإن مشعل الذي يرسم للفلسطينيين اليوم خريطة التحرير من أرض غزة العزة والانتصار والتضحيات يخلع عن نفسه العباءة الحزبية الضيقة، ويتقدم في ذات الوقت زعيما توافقيا لكل الفلسطينيين خلال المرحلة المقبلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.