تونس في مواجهة ارتدادات زلزال الثورة
التحركات الاحتجاجية
العنف السلفي الجهادي
الانفلات الإعلامي
الثورة زلزال سياسي امتد جغرافيا ليسقط "أحجار دومينو" الأنظمة المتهالكة الواحدة بعد الأخرى، مبشرا بدورة جديدة لن تتحدد معالمها قبل استيعاب ارتداداته العنيفة، وتشكل الوضع وفقا للتوازنات المستحدثة.
ويمكن للمرحلة الانتقالية في عمر الثورة أن تمتد لسنوات وعقود كما هو شأن الثورة الفرنسية التي ارتدت إلى الملكية قبل أن تستقر على النظام الجمهوري. فسيسيولوجيا الثورة تؤكد أن قوى الثورة المضادة ستبذل جهدها للالتفاف عليها وإجهاضها بكل الوسائل بما في ذلك "هدم المعبد على رؤوس الجميع" بديلا عن الاستسلام والاعتراف بالواقع الجديد.
تستكمل تونس اليوم مسار الثورة في مواجهة الارتدادات العنيفة لزلزال 14 يناير/كانون الثاني والانهيار المدوي لنظام هيمن على مقدرات البلاد لعقود، وأحزاب ومنظمات ووجوه سياسية وإعلامية ونقابية كانت لوقت قريب تتصدر المشهد.
رغم مشاركة الرئاسات الثلاث -الدولة والحكومة والتأسيسي- في مبادرة الحوار الوطني للاتحاد، وتوقيع الحكومة على اتفاق التهدئة في سليانة، وإقرار الزيادة في الأجور في القطاعين الخاص والعام، فإن اتحاد الشغل أعلن الإضراب العام |
ومما يزيد الوضع تعقيدا في مرحلته الانتقالية تقاطع المصالح بين هذه القوى التي تنتسب إلى الثورة المضادة، وقوى يسارية متطرفة لا زالت تعيش صدمة نتائج الانتخابات وغير قادرة على استيعاب وجود الإسلاميين في السلطة، وهي بحكم فشلها في الانتخابات وضعف تمثيليتها الشعبية ومحدودية امتدادها الجماهيري، لجأت إلى توظيف المنظمة النقابية للاستقواء بها في مواجهة الحكومة، وإفشال تجربة الترويكا وإسقاط الشرعية كما كان متوقعا في 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
التحركات الاحتجاجية
تشهد الساحة اليوم تصعيدا خطيرا من قبل الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أعلن الإضراب العام في أربع ولايات، ودعت هيئته الإدارية إلى الإضراب العام يوم 13 ديسمبر/كانون الأول، ليكون ثاني إضراب عام في تاريخ البلاد، في حال فشل جهود التهدئة التي تبذلها وجوه سياسية ونقابية تاريخية أمام قوة الدفع نحو التصعيد التي تقودها بعض القيادات التنفيذية للاتحاد، والمعروفة باتجاهاتها اليسارية المتطرفة.
إذ رغم مشاركة الرئاسات الثلاث -الدولة والحكومة والتأسيسي- في مبادرة الحوار الوطني للاتحاد، وتوقيع الحكومة على اتفاق التهدئة في سليانة، وإقرار الزيادة في الأجور في القطاعين الخاص والعام، فإن اتحاد الشغل أعلن الإضراب العام يوم 13 ديسمبر/كانون الأول على خلفية أحداث العنف التي شهدتها ساحة محمد علي في ذكرى استشهاد الزعيم النقابي فرحات حشاد.
لقد تعددت التحركات الاحتجاجية الاجتماعية بعد الانتخابات حتى فاقت خلال حكم الترويكا مجموع الإضرابات في الثلاث والعشرين سنة من حكم بن علي، ولذلك فإن أحداث سليانة ليست هي الأولى ولن تكون الأخيرة في مسلسل التحركات الاحتجاجية، فقد سبقتها أحداث سيدي بوزيد، ومنزل بوزيان، وقرية العمران، وأحداث قابس، وستتبعها أحداث أخرى بالنظر إلى واقع الفقر والتهميش الذي تعيشه المناطق الداخلية، والتي كانت طوال تاريخ تونس الحديث مصدرا للثورة والاحتجاج على السلطة المركزية.
لقد ارتفعت انتظارات الناس نتيجة الوعود الانتخابية التي انساقت إليها التيارات السياسية المتنافسة للتبشر بالتغيير الجذري لواقع التهميش، والقدرة على رفع تحديات التنمية والتشغيل دون الانتباه إلى استحالة مواجهة مخلفات عقود من الفساد واختلالات تنموية كبيرة بين الجهات في ظرف انتقالي لا يتجاوز السنة.
لذلك فإن جهود التنمية في وضع اقتصادي صعب يحاول استئناف نشاط الدورة الاقتصادية بعد توقفها شبه الكامل، وفي مرحلة انتقالية تتسم بعدم الاستقرار وكثرة الاضطرابات والاعتصامات لم تبلغ الحد الأدنى من انتظارات الناس -رغم ارتفاع نسبة النمو إلى 3%، وتوفير حوالي سبعين ألف منصب شغل- مما زاد في حدة الاحتقان الاجتماعي.
إن مسؤولية مواجهة تحديات الظاهرة السلفية وخاصة منها التي تزعم الانتساب للجهاد لا يمكن أن تنفرد بها الأجهزة الأمنية، وإنما هي مسؤولية وطنية تستدعي مشاركة جميع الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية في حوار وطني يعمق النظر في الظاهرة السلفية في بلادنا |
هذا الاحتقان الذي وفر مناخا لقوى الثورة المضادة والقوى اليسارية المتطرفة لاستغلاله في مواجهة الحكومة الشرعية بتوظيف المنظمة النقابية، ودفعها لشن إضرابات في أحداث جزئية يمكن حسمها قضائيا -حادث سير بين مواطنة وسائق حافلة يتبعه إضراب في قطاع النقل في العاصمة، خلاف بين اثنين من الموظفين في ولاية سليانة يتبعه إضراب عام في الولاية، حادثة العنف في ساحة محمد علي يتبعها إعلان الإضراب العام في البلاد- وهو مما يسيء لمكانة الاتحاد ودوره الوطني والتاريخي الذي كان ينهض به ليبقى مظلة جامعة لكل التونسيين على اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية، مدافعا عن المطالب النقابية المشروعة، وله دور وطني ينهض به بعيدا عن التجاذبات السياسية بين الفاعلين السياسيين الذين فتحت لهم الثورة باب النشاط السياسي الحر ضمن أحزاب معترف بها وتعمل وفقا للقانون.
ومن جهة الحكومة بدلا من تفويت الفرصة في أحداث سليانة مثلا على القوى المتربصة بالثورة بإجراءات استباقية تنموية وسياسية وأمنية تقطع الطريق على الفوضى خاصة بعد حرق أربعة مراكز للأمن ومعتمديتين، ونهب قباضة للمالية بما يؤشر إلى اتجاه الأوضاع إلى مزيد من التوتر والتصعيد، تورطت قوات الأمن في ردة فعل عنيفة استخدمت خلالها سلاح "الرش" في مواجهة المحتجين، مما أصاب عددا منهم في أعينهم في سابقة تاريخية هي الأولى في تونس، وستظل للأسف مرتبطة بتجربة الترويكا وعنوان فشل للنخبة السياسية والمجتمع المدني عن التوافق حول تصور مشترك لمواجهة تحديات ما بعد الثورة وإدارة المرحلة الانتقالية بعيدا عن الحسابات الحزبية والشخصية الضيقة.
وما لم تتدارك هذه النخبة الأمر، وتتجه إلى حوار وطني جامع لتحقيق التوافق حول خارطة الطريق للمرحلة الانتقالية فإنها ستتحمل المسؤولية التاريخية عن كل الأخطار التي تهدد عملية الانتقال الديمقراطي.
العنف السلفي الجهادي
بالإضافة إلى الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي شهدت البلاد مظاهر عنف عديدة للتيار السلفي الجهادي بلغت ذروتها في حادثة الاعتداء على السفارة الأميركية وأحداث دوار هيشر التي ذهب ضحيتها اثنان من عناصر التيار السلفي، وقد تم الضغط على الحكومة داخليا باتهامها بالتساهل مع هذا التيار لإحراجها محليا ودوليا، ودفعها باتجاه المواجهة الشاملة معه.
وفي الوقت نفسه، العمل على استدراج هذا التيار إلى العنف عبر التطاول المتعمد على المقدسات بدعوى حرية التعبير وحرية الفن والإبداع، وقد كشفت حادثة العبدلية المفتعلة وما تبعها من حرق لمحكمة تونس 2 التي أحيلت إليها قضايا الفساد، وكذلك أحداث دوار هيشر التي تزامنت مع إحالة ملف رجل الأعمال كمال الطيف على القضاء، اتجاه سير القوى المضادة للثورة، والتي لن تتوانى في الزج بالبلاد في مستنقع العنف بكل الوسائل، ومنها استفزاز التيار السلفي الجهادي الذي يفتقد إلى الخبرة السياسية، وتنشيط العناصر المخترقة له منذ عهد النظام السابق في اتجاه العنف والفوضى.
وبقدر ما نجحت السلطة في عملية ضبط النفس تجاه هذا التيار، وعدم الانجرار إلى مستنقع المواجهة الشاملة معه، فقد احتجزت أكثر من مائة معتقل إلى اليوم على خلفية أحداث السفارة الأميركية دون عرضهم على القضاء، مما دفع بعضهم إلى الدخول في إضراب مفتوح عن الطعام أدى إلى وفاة اثنين منهم، في فاجعة كبيرة اعتقد التونسيون أنها ولت مع النظام المخلوع إلى غير رجعة، وأن مثلها بعد الثورة تعد انتكاسة خطيرة يجب التوقف عندها ومحاسبة وإقالة المسؤولين عنها.
تبذل بعض وسائل الإعلام جهودا كبيرة لتلميع صورة رموز من النظام السابق، وإظهار بعضهم بمظهر البطل المنقذ حتى بعد اعترافهم العلني بتزوير إرادة الشعب، وفي مقابل ذلك يتم نزع هالة الاحترام عن القيادات السياسية باستهدافهم بالكلمات النابية والسخرية منهم |
إن مسؤولية مواجهة تحديات الظاهرة السلفية وخاصة منها التي تزعم الانتساب للجهاد لا يمكن أن تنفرد بها الأجهزة الأمنية، وإنما هي مسؤولية وطنية تستدعي مشاركة جميع الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية في حوار وطني يعمق النظر في الظاهرة السلفية في بلادنا، لفهم طبيعتها، والوقوف على حقيقتها، وترشيد سبل التعامل معها، بما يجنب البلاد أخطارا هي في غنى عنها.
الانفلات الإعلامي
شهدت البلاد بعد الثورة انفلاتا أمنيا كان طبيعيا بعد انهيار النظام السابق، كما شهدت الساحة حالة من الانفلات الإعلامي زادت في تعقيد الأوضاع وتوتير الأجواء، عبر خطاب مشحون ومتشنج، وتشويه الحقائق بتجاهل نشاط وإنجازات الحكومة، والمبالغة في تصوير مشاهد الاضطرابات والاعتصامات، مما أعاق جهود التنمية واستقطاب الاستثمار الخارجي، وأثر سلبا على القطاع السياحي، مما جعل السفير الألماني في تونس هورست ولفرام كارل يعتبر الإعلام التونسي عقبة حقيقة أمام قدوم السياح الألمان إلى تونس.
وبالإضافة إلى هذا الدور السلبي، تبذل بعض وسائل الإعلام جهودا كبيرة لتلميع صورة رموز من النظام السابق، وإظهار بعضهم بمظهر البطل المنقذ حتى بعد اعترافهم العلني بتزوير إرادة الشعب، وفي مقابل ذلك يتم نزع هالة الاحترام عن القيادات السياسية ورجال الدولة، باستهدافهم بالكلمات النابية والسخرية منهم ووصفهم بالكذب على المباشر وبحضورهم، وتحويلهم إلى دمى فاقدة لأي ممانعة تجاه العنف الرمزي الذي تتعرض له، بما يهيئ المتلقي لعدم استهجان تلك التجاوزات في حق المسؤولين في الدولة، والتشجيع على الجرأة عليهم بكل أشكال العنف.
المشهد الذي تكرر مرارا في تونس اليوم هو أنه كلما قطعت الحكومة خطوة في اتجاه فتح ملفات الفساد ومحاسبة أزلام النظام السابق، تبعتها مجموعة من التحركات الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي أو الديني السلفي بتغطية وتحريض إعلامي مشبوه، والمشترك بين هذه العناصر الثلاثة – التحركات الاحتجاجية، والعنف السلفي، والانفلات الإعلامي- أنها جميعا أدوات للتوظيف السياسي في مخطط الثورة المضادة للالتفاف على الثورة، وهي في نفس الوقت مؤشر على مدى استضعاف الحكومة وسلطة الدولة.
إن المرحلة الانتقالية محكومة في امتدادها الزمني بقدرة حكومة الترويكا على مواجهة كل هذه التحديات بمنطق الثورة وما تقتضيه من قرارات قوية وقوانين استثنائية تتجاوز التعقيدات الإدارية الموروثة، وتفعيل آليات العدالة الانتقالية، والصرامة في مواجهة الثورة المضادة بفتح ملفات الفساد ومحاسبة رموز النظام السابق، وكذلك بمنطق الدولة كسلطة عليا عليها فرض احترام القانون، ورسم الخطط والبرامج والمشاريع الكفيلة بتحقيق أهداف الثورة في التنمية والتشغيل والعدالة الاجتماعية، ومنح الناس الأمل في التغيير وبداية الاستجابة لانتظاراتهم الكبيرة.
وعلى النخبة السياسية الارتقاء إلى مستوى اللحظة التاريخية، بإدارة حوار وطني حول المرحلة الانتقالية، والقطع مع الثقافة السياسية الموروثة والقائمة على القطيعة والصراع والتداخل في الأدوار بين السياسي والنقابي والحقوقي، وبناء ثقافة جديدة تقوم على الحوار واحترام الشرعية وتحديد الأدوار والوظائف لكل الفاعلين في المجال العام بما يناسب الوضع الجديد، ويؤمن عملية الانتقال الديمقراطي، لأن إضعاف سلطة الدولة في هذه المرحلة الانتقالية والحساسة من تاريخ الثورة، يفتح مستقبل البلاد على المجهول وهو ما لا يقبل به وطني عاقل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.