تحالفات اليوم والغد في المشهد العراقي

تحالفات اليوم والغد في المشهد العراقي . الكاتب: فارس الخطاب

 undefined

ما زالت الخلافات السياسية داخل القوى والجهات المشتركة في العملية السياسية العراقية تنعكس بشكل سلبي على مفاصل الدولة العراقية كلها، وكلما تفاءل المراقبون بالوضع في العراق باستقرار سياسي وأمني نسبي أعادت تصريحات مثيرة للجدل من مسؤولين حكوميين أو قادة تنظيمات وكتل سياسية أو دينية عراقية، الوضع العراقي إلى صورته الهزيلة المرافقة لذهن المتابع منذ الاحتلال الأميركي عام 2003 وحتى يومنا هذا، وكأننا نعود "تطورا" إلى الوراء بدل الاستفادة من أخطاء التجربة والاحتكام إلى صيغ القانون والممارسات الديمقراطية، سبيلا لقيادة البلد إلى طريق العودة إلى ما كان عليه قبل 2003 على أقل تقدير.

ولعل ما يثار حاليا في الشارع العراقي وبين الكثير من سياسييه -داخل أروقة مجلس النواب أو عبر وسائل الإعلام العراقية- عن موضوع تأجيل انتخابات مجالس المحافظات المفترض إجراؤها في يناير/كانون الثاني من العام المقبل 2013 -وهو ما يعني (إن تأجلت فعلا) تأجيل الانتخابات النيابية التي تتشكل عبرها الحكومة العراقية الجديدة عام 2014- يحمل في طياته أبعادا سياسية وليست فنية كما يروجه بعض مؤيدي قائمة رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي، حيث تم تأخير تشكيل مفوضية الانتخابات الجديدة لأسباب سياسية، ثم ليكون الحديث بعدها عن عدم كفاية الوقت المتبقي الذي تحتاجه المفوضية الجديدة -وهو بحدود ستة أشهر في أقل تقدير- للتحضير والاستعداد لهذه الانتخابات بشكل جيد، ناهيك عن عدم رصد الميزانية الخاصة بإجراء الانتخابات ووضع ما تحتاجه العملية الانتخابية من تشريعات قانونية ملزمة.

الخلافات السياسية المعقدة وغير المسؤولة دفعت القائمين على الشأن العراقي إلى اعتماد أسلوب السجالات السياسية بدل التوافقات السياسية

إن الخلافات السياسية المعقدة وغير المسؤولة دفعت القائمين على الشأن العراقي سواء كانوا ضمن حكومة المالكي أو من أعضاء مجلس النواب العراقي بكافة كتله المتناقضة إلى اعتماد أسلوب السجالات السياسية بدل التوافقات السياسية، ومن الغريب في الشأن العراقي أن شؤون حكمه لا تعتمد قاعدة قانونية أو عرفية معينة، بل هي بحسب الحاجة التي تلامس كل كتلة أو فصيل من فصائل العملية السياسية، فهم مع التوافقات عند تلبية هذه التوافقات لمصالح هذه الكتلة وتلك، أو هم مع الدستور إذا ما خدمت نصوصه بقاء هذا الطرف أو ذاك على رأس الهرم.

ثم إن هناك ظاهرة في العملية السياسية العراقية -بحسب رئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق فرج الحيدري- تتمثل في "سعي الكتل الكبيرة إلى صياغة القانون بالطريقة التي تخدم بقاءها في البرلمان"، ويضرب السيد الحيدري مثالا على ذلك فيقول "مثلا في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت عام 2010 تم وضع فقرة في القانون منحت الناخبين خارج العراق حق التصويت، واحتساب أصواتهم لمحافظاتهم التي كانون يسكنونها في العراق قبل مغادرة البلاد، وهذا الإجراء غير صحيح البتة لأن الناخب غير موجود في مدينته أصلا، إضافة إلى أن هؤلاء الناخبين في الخارج ليست لديهم أوراق رسمية تثبت انتماءهم إلى هذه المدينة أو تلك، وبعضهم لا يملك حتى وثائق تؤكد عراقيته، وهذا سبب لنا مشكلات كبيرة وهي حصيلة للخلافات السياسية"!!

لقد شهدت الفترة التي أعقبت تشكيل وزارة السيد نوري المالكي الثانية عقب انتخابات 2010 عمليات حشد سياسية قام بها طرفا الصراع الرئيسيان، وهما الدكتور إياد علاوي من خلال تعزيز الاستقطاب لكتلته النيابية "العراقية"، وكتلة "دولة القانون" التي يرأسها رئيس الوزراء الحالي السيد نوري المالكي، وناور الطرفان كثيرا واستخدموا كل وسائل التسقيط للآخر، حتى برزت قضية الخلاف بين المالكي كرئيس للوزراء ورئاسة إقليم كردستان وتصريحات السيد مسعود البارزاني رئيس الإقليم التي وصف فيها الحكومة المركزية في بغداد بـ"الفاشلة"، ووسم المالكي ذاته بالدكتاتورية.

وقد استغل خصوم المالكي -وأبرزهم إياد علاوي ومقتدى الصدر- هذا الخلاف فاصطفوا مع رئيس الإقليم الكردي، وعقدوا اجتماع أربيل الذي طالبوا من خلاله بإجراء تصويت لسحب الثقة عن المالكي في البرلمان العراقي، وبالرغم من تطور هذا الموقف ثم انضمام السيد عمار الحكيم إلى مجموعة المعارضين لسياسات المالكي، فإن الأخير استطاع المناورة والتنسيق مع رئيس الجمهورية جلال الطالباني من جهة، وكتل وأفراد من داخل "العراقية" وغيرها، لإضعاف الكتلة المطالبة بسحب الثقة عنه، ثم استقر الأمر أخيرا على المطالبة بالإصلاح بدل سحب الثقة!!

حاليا واستعدادا لانتخابات مجالس المحافظات، وبحسب أحد أعضاء ائتلاف "دولة القانون"، فإن هناك محاولات من قبل المالكي لتشكيل تحالف يضم ائتلاف "دولة القانون" وأطرافا من القائمة "العراقية" يخرج عن نمطية التحالفات الماضية، وحدد بعض هذه الأطراف بزعامة قادة في "العراقية"، بينهم أسامة النجيفي (رئيس قائمة "عراقيون")، وصالح المطلك (رئيس جبهة الحوار الوطني)، وآخرون من كتل أخرى، ناهيك بالطبع عن كتل وشخصيات ضمن كتلة التحالف الوطني (الشيعية) التي يرأسها الجعفري، وينتمي لها المالكي بحزب الدعوة الذي يرأسه.

الحزب الإسلامي العراقي -الذي لم يحقق ما يصبو إليه في انتخابات 2010- يعد العدة لمفاجأة انتخابية خلال عام 2013 و2014 بحسب مراقبين لنشاط هذا الحزب الذي تأسس عام 1960

الحزب الإسلامي العراقي -الذي لم يحقق ما يصبو إليه في انتخابات 2010- يعد العدة لمفاجأة انتخابية خلال عام 2013 و2014 بحسب مراقبين لنشاط هذا الحزب الذي تأسس عام 1960 ويمثل الجناح السياسي لتنظيم الإخوان المسلمين في العراق، والحزب الإسلامي -كما هو معروف- لا يعتمد القومية أساسا لتنظيم جماعته، فهو يضم العرب والأكراد والتركمان، كما أن له علاقات تنظيمية حزبية وشخصية مع جميع تنظيمات الإخوان المسلمين في المنطقة ومن ضمنها تركيا، وقد يكون الحزب الإسلامي قد استفاد من حالة الظل التي وضعته فيها نتائج الانتخابات السابقة ليعد مجموعة جديدة من القيادات الشابة ذات التطلعات القريبة من نبض الشباب العراقي والمتمثلة في الليبرالية والقومية، والذين لم يزج بهم في الواجهة السياسية سابقا، وهو ما يبشر -حسب رؤية الحزب- بقفزة نوعية في شعبية وحضور الجيل الجديد للحزب وسط الجماهير.

القائمة "العراقية" ربما تلجأ إلى أسلوب جديد في عملية حصد الأصوات، فهي -حسب زياد الذرب رئيس كتلة "الحل" المنضوية فيها- ستتم تجزئتها إلى ثلاثة مكونات، هذه المكونات هي "الحل" و"الحوار" في كتلة واحدة، و"المستقبل" و"عراقيون" في كتلة، و"الوفاق" في كتلة واحدة. ولعل هذا الأسلوب بالنسبة لرئيس القائمة الدكتور إياد علاوي هو أسلوب وقائي، بعد أن شهدت القائمة العراقية -خلال السنوات الماضية منذ تشكيل حكومة نوري المالكي وحتى الآن- سلسلة من الانشقاقات بين صفوفها أضعفت إلى حد ما قوتها داخل البرلمان والشارع العراقي.

أميركيا، رأى عضو سابق في مجلس الأمن الوطني الأميركي -في مذكرة قدمها إلى حكومة بلاده في أغسطس/آب 2012- أن الولايات المتحدة "استثمرت حياة أربعة آلاف و486 عسكريا أميركيا، وما يزيد على 800 مليار دولار في العراق"، ويقول دوغلاس أوليفانت "إن العراق ما زال دولة هشة تعرضت لتضرر عميق، ومزقتها 30 سنة من الحروب والعقوبات والاحتلال والصراع الأهلي"، وأن "مخاطر انعدام الاستقرار وتجدد العنف أمر باق".

ومن أجل مواصلة الاتجاهات الإيجابية، سوف يحتاج العراق إلى احتواء مختلف الأخطار التي تهدد استقراره الداخلي، ومواجهة الاضطرابات الإقليمية التي يمكن أن تزداد سوءا في الشهور المقبلة.

إن النظرة الأميركية للعراق هي أنه دولة خطيرة في منطقة خطيرة، وتبقى أشد المخاطر على استقرار العراق متأتية من الآثار المتفاعلة من تجدد عنف إثني أو طائفي فيه، كما ينظر الأميركيون لانتخابات عام 2014 البرلمانية على أنها حرجة بالنسبة للعراق، وأن هذا البلد يحتاج فعلا إلى مراقبة أميركية دقيقة لحمايته من الانفجار حتى حصول الانتخابات وترشح رئيس جديد للوزراء في العراق، والتعاون معه على هذا الأساس.

يبقى الشارع العراقي هو الأهم بالطبع في انتخابات 2014، تبعا لما مرّ به من تجارب قاسية في جميع قطاعات الحياة الأمنية منها والخدمية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، فكيف ينظر هذا الشارع للقوى السياسية التي ستشترك في الانتخابات؟ وكيف يرون رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي وما هو تقييمهم له؟ هذه الأسئلة أجابت عليها نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غرينبرغ كوينلان روزنر الأميركية للبحوث مؤخرا، حيث يشير الاستطلاع إلى أن حوالي 30% من المشمولين به يعتقدون أن سلوك رئيس الوزراء العراقي الحالي "يشبه تصرفات الدكتاتوريين"، وأن اهتمام المالكي "ينصب على الاحتفاظ بالسلطة بدلا من الاهتمام بمساعدة الشعب العراقي".

المالكي أوجد إحساسا لدى العراقيين بأنه رجل قوي يسعى للحفاظ على وحدة البلاد من خلال محاولاته لإعادة هيبة المركز، من بعد أن خفض إلى حد ما سرعة ابتعاد إقليم كردستان العراق عن سلطة بغداد

وأثبتت النتائج أن ما يقارب 70% من العراقيين لا يؤيدون فكرة تقسيم البلاد إلى دويلات. لكن واقع الحال يؤكد أن المالكي أوجد إحساسا لدى العراقيين بأنه رجل قوي يسعى للحفاظ على وحدة البلاد من خلال محاولاته لإعادة هيبة المركز، من بعد أن خفض إلى حد ما سرعة ابتعاد إقليم كردستان العراق عن سلطة بغداد.

المالكي أيضا -وفي الصورة الأخيرة للمشهد، وبصفته رئيسا لحزب الدعوة وكتلة دولة القانون- يعمل على أن يبقي كرسي رئاسة الوزراء لحزبه وكتلته، تصديقا لمقولته الشهيرة "لا يستطيعون هم أخذها، ونحن لن نتركها ونعطيها أبدا"، فهو يعد العدة لترشيح حسين الشهرستاني لرئاسة الوزراء المقبلة في حال اعترضت الكتل السياسية على توليه هو شخصيا هذا المنصب في حال فوز كتلته في الانتخابات المقبلة. وبعض الساسة يرى أن خريطة التحالفات ستتغير وفقا لقواعد جديدة، ويرى البعض الآخر أن التقسيمات الطائفية والعرقية التي شهدتها المرحلة السابقة ستكون حاضرة في المرحلة المقبلة.

إن حساب القوى السياسية في العراق -في ظل استمرار الأزمات السياسية والخدمية والأمنية- يعدّ من الأمور شبه المستحيلة، كما أن الوقائع السابقة تثبت أن التحالفات الجديدة أو التي ستكون لن تعمر طويلا لأنها رهن للظروف القائمة حاليا، لذلك ستكون انتخابات مجالس المحافظات ميدانا لإبراز طبيعة التحالفات الجديدة، وستبرز بشكل لا لبس فيه قوة الشارع العراقي في التعبير عن ثورة تلحق بالربيع العربي، لكن عن طريق صناديق الانتخاب بعد أن أجهضت محاولات ثورته في شوارع بغداد وبقية محافظات العراق في وقت مبكر، وبعد أن فشل السياسيون العراقيون في ترجمة وعودهم الانتخابية السابقة إلى أفعال على أرض الواقع العراقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.