المزيد من الأخبار السيئة من فلسطين

العنوان: المزيد من الأخبار السيئة من فلسطين


من الأمور المحزنة حقًا أن نضطر لافتتاح مقالتنا هذه بكلمات زميلة أكاديمية أميركية، متخصصة بشؤون تاريخ النضال الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية، عندما كتبت لي قبل سنوات رسالة تحوي جملة واحدة، تعليقًا على الأوضاع الفلسطينية، تقول: كلما ظننا أن أصدقاءنا الفلسطينيين وصلوا إلى القاع، يتبين لنا أنه لا قاع لهم.
 
هذه الكلمات القليلة تعبر خير تعبير وعلى نحو مختصر، وإن مؤلم في الوقت نفسه، عن مأساة واقع المؤسسة السياسية الفلسطينية.
 
المسؤولية عن الحضيض الذي انحدرت إليه أوضاع قضيتنا لا تقع فقط على عاتق أشخاص وإنما أيضًا على المؤسسة الحاكمة في مبنى المقاطعة بمدينة رام الله المحتلة. المسألة هنا ليست ممارسات شخصية بالدرجة الأولى وإنما سياسة تنفذها مؤسسة، ويتحمل مسؤولياتها وعواقبها كل فرد فيها، وإن بدرجات متفاوتة ترتبط بالموقع والمسؤولية.
 

"
المسؤولية عن الحضيض الذي انحدرت إليه أوضاع قضيتنا الفلسطينية لا تقع فقط على عاتق أشخاص وإنما أيضًا على المؤسسة الحاكمة في مبنى المقاطعة بمدينة رام الله المحتلة
"

القيادة الفلسطينية في مبنى المقاطعة برام الله استحالت منذ فترة طويلة مؤسسة سياسة ولم تعد حركة تحرر وطني لأن الأخيرة تعمل في عكس الطريق الذي تسير فيه الأولى، طريق محاولة إرضاء العدو وأطماعه التي لا قاع لها، بتنازلات تلو الأخرى لم تتوقف منذ اختيارها طريق التخلي عن تحرير فلسطين وقبول الحل الإمبريالي الصهيوني للقضية الفلسطينية وما يسمى "المسألة اليهودية" في أوروبا.

 
ما الجديد في العام الماضي؟
أمران ذوا مغزى حصلا في العام المنصرم كان لهما أصداء متباينة في الساحتين العربية، والساحة الفلسطينية جزء منها، والساحة الدولية. الأول مسألة تقدم مؤسسة رام الله الحاكمة بطلب عضوية فلسطين في منظمة الأمم المتحدة، والآخر تصريحات السيد محمود عباس بخصوص قرار التقسيم.
 
ما يخص الأمر الأول، فلم يكن سوى فقاعة صابونية إعلامية لم تجلب لمطلقيها سوى المزيد من الحرج ما أجبرهم على "بلع" الطلب وقبول إملاءات الطرف الأميركي/الصهيوني المعروفة. لكن حتى لو نجحت سلطة رام الله في الحصول على عضوية كاملة لدولة فلسطينية في "منظمة الأمم المتحدة"، التي هي في الحقيقية أقرب إلى أن تكون [منظمة الولايات المتحدة] منها إلى أي شيء آخر، فقد عيينا في العثور على أي فائدة مادية من تلك العضوية تساعد الشعب الفلسطيني في الخروج من وحل التسوية الذي قادته إليه قيادته منذ تنازلها الأول عن فلسطين لصالح البرنامج السياسي التسووي الذي أقرته في عام 1974 استجابة للضغوط الساداتية التي كانت وعدت بتسوية "سلمية وعادلة".
 
تبخر طلب العضوية في الهواء، ولم يتبق منه إلا الاستعراض الشعبوي السخيف بتجوال الكرسي الفارغ في فضاء محاصر بين جدران أربعة.

لنترك هذا الأمر جانبًا، فقد عودتنا المؤسسة السياسية الفلسطينية الحاكمة على استعراضات شعبوية فارغة المضمون، بل إن كثيرا منها أضر بسمعة الشعب الفلسطيني، المرابط مناضلاً منذ أكثر من قرن ونصف يدافع عن مقدسات العروبة والإسلام والمسيحية في وجه موجة استعمار عنصري تريد العودة بالمنطقة إلى ما قبل ألفي عام، اعتمادًا على أساطير وخرافات ابتدعتها ثم صدقتها، ثم تبين لها أن كل ما لفقته قصور من أوراق اللعب تهاوت عند هبوب أول نسيم.

 
المؤسسة الفلسطينية تخلت عن النضال الحقيقي ضد اغتصاب الوطن وحولته إلى ملهاة من طراز "أكبر سدر كنافة" و"أكبر صحن حمص" . . . بل أكبر تجمع للحمقى الممعنين في إفلاسهم السياسي والفكري وحتى الأخلاقي.
 
على أي، الأخطر من هذا كله الأمر الثاني الذي ما يجب إطلاقًا السماح بمروره من دون تصدٍ، هو تصريح السيد محمود عباس، رئيس المؤسسة الفلسطينية الحاكمة في رام الله بأن الفلسطينيين أخطؤوا في رفض قرار التقسيم.
 
المؤسسة السياسية الفلسطينية، بعدما قضت على حركة التحرر الوطنية وحولتها إلى مؤسسة همها الأول حماية الاحتلال والاغتصاب، وجعلت جزءا من المناضلين متسولي معاشات شهرية من صندوق النقد الدولي، وأجزاء أخرى كتبة تقارير للغرب الاستعماري عبر ما يسمى "منظمات المجتمع المدني" و"المنظمات غير الحكومية" عن كل خصوصيات الشعب الفلسطيني عارضة إياه عاريًا أمام الخصم والعدو، مجردًا من كل أدوات القوة التي يمتلكها أي مجتمع يواجه عدوا هدفه الوحيد تفكيكه وتحويله إلى تجمع سكني من خدم المحتل.
 
السيد محمود عباس بتصريحه الذي ضرب الشعب الفلسطيني في أعز ما لديه ألا وهو تمسكه التاريخي والمتفاني بكل حبة تراب من وطنه، كتب على ما يقال، رسالة دكتوراه قدمها في جامعة كلية العلوم السياسية بجامعة باتريس لومومبا في موسكو الاتحاد السوفياتي الذي لم يعد قائمًا، أثبت فيه تعاون قادة الصهيونية والنازية ضد يهود أوروبا.
 
رئيس سلطة المقاطعة في رام الله تراجع عن هذا كله، وله مطلق الحرية في رأيه، ولكن ليس من حقه النطق باسم شعب فلسطين المظلوم والتعدي على تاريخه النضالي.
 
ومع رفضنا المطلق لأي بحث في مسألة مشروع تقسيم فلسطين الذي فرضته الدول الاستعمارية على الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 29/11/1947، والذي أضحى اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، فلا بد من تذكير قادة المؤسسات السياسية في مبنى المقاطعة برام الله المحتلة ببعض الحقائق ذات العلاقة، منطلقين من بدهية حقيقة أن من يتخلى عن حبة تراب من وطنه فإنه على استعداد للتخلي عنه كله.
 

"
قرار تقسيم فلسطين الصادر عام 1947 لا شرعية قانونية دولية له لأنه صدر عن "الجمعية العمومية" وليس عن "مجلس الأمن" الدولي
"

لنعود إلى قرار التقسيم الاستعماري ولنناقش بعض جوانبه ضمن المساحة المتوافرة لهذا المقال. أولاً، قرار التقسيم لا شرعية قانونية دولية له لأنه صدر عن "الجمعية العمومية" وليس عن "مجلس الأمن" الدولي. لقد تقدمت الدول الاستعمارية بقرار التقسيم بهدف واحد هو وضع أرضية قانونية مزعومة لاغتصاب فلسطين، ولم يكن همها وضع أرضية "حل" للقضية الفلسطينية.

 
فشكل المشرق العربي كان قد تقرر مسبقًا قبل ذلك بعقود، في اتفاقية سايكس بيكو السرية، التي أقرها صلح باريس في عام 1919/1920، ووافقت عليها الولايات المتحدة الأميركية في عام 1922/1923 بعدما فرضت شروط محاصصتها الاستعمارية في المنطقة، وهو ليس موضوع مقالتنا هذه، وثمة كتب توثيقية عديدة عن ذلك يمكن للراغب في الاستزادة عن تلك المرحلة الفضيحة "المسكوت عنها" العودة إليها.
 
لقد رفضت الدول الاستعمارية مناقشة الجانب القانوني لقرار التقسيم لعلمها بأنه يتعارض مع الشرعية الدولية التي تنص على أنه لا يجوز للأشخاص المحميين أنفسهم التنازل عن حقوقهم (المادة 8 من الاتفاقية الرابعة). وبحسب القوانين والتشريعات المتعارف عليها عالميًا أنه وبعد انتهاء الانتداب يجب إعادة تسليم البلاد إلى أصحابها الحقيقيين.
 
هذا ما يقوله القانون الدولي الذي كثيرًا ما يستحضره الغرب الاستعماري شاهد زور لتسويغ ممارساته الظالمة في الساحة الدولية ولقهر الشعوب الضعيفة.
 
وكلنا نعلم الضغوط الهائلة التي مارستها الدول الاستعمارية على الدول الأعضاء في المنظمة الدولية المناهضة لقرار التقسيم ما جعل وزير الدفاع الأميركي جيمس فورستال آنذاك يعلق عليه بالقول إن الطرق المستخدمة للضغط ولإكراه الأمم ضمن نطاق منظمة الأمم المتحدة يعد فضيحة.
 
أهمية استصدار قرار التقسيم، من منظور المستعمِر، وضع أرضية لاغتصاب فلسطين وتأسيس دولة يهودية، وليس أي أمر آخر. أما مستقبل "القسم العربي" المخصص للدولة الفلسطينية فكان قد تقرر مسبقًا في أروقة وزارات المستعمرات في الغرب، وفي بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، وهو ما حصل فعلاً. وثمة العديد من الكتب، التي اعتمدت الوثائق الرسمية في كل من بريطانية وكيان العدو، التي فضحت تواطؤ معظم أنظمة سايكس بيكو على فلسطين، وانخراط حكامها في مؤامرة اغتصابها وتشريد شعبها.
 
لا بأس هنا من التذكير بأن النظام الذي أقامه الاستعمار في المشرق العربي بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يكن نظامًا عربيًا وإنما شرق-أوسطيًا.
 
فالدول العربية التي نشأت وحدودها وشكلها… إلخ، لم تعكس رغبات أبناء الأمة وإنما خطط الاستعمار، ولذا فمن الصحيح تسميته بالنظام الشرق-أوسطي وليس "النظام العربي". معظم الأنظمة العربية التي خلقتها اتفاقية سايكس بيكو واتفاقيات باريس وملاحقها الأميركية لا تزال قائمة. التغيير الوحيد الذي حصل كان في توحد مصر وسوريا في عام 1958 والذي كان أحد أهم التحديات القومية له، والذي يساويه في الأهمية رفض القادة الموحدين الدروز، والقادة المسلمين السنة والمسلمين العلويين، وكذلك القادة المسيحيين تأسيس دويلاتهم المنفصلة في سوريا.
 
من ناحية أخرى، فإن قرار التقسيم الاستعماري لم يبحث مسألة ملكية الأراضي في القسمين (حتى عام 1947 كان 5,6% من أراضي فلسطين ملك "الصندوق القومي اليهودي" والبقية، أي 94,4% ملك الفلسطينيين).
ومن الأمور الأخرى التي أهملها القرار، بما يعكس هدفه وجوهره الاستعماريين، عدم وضع آلية تنفيذه. المقصود هنا، حيث إن قرار التقسيم جزّأ الشعب الفلسطيني في دولتين فإنه لم يضع الضوابط التي تكفل لأصحاب البلاد ممارسة حقوقهم الوطنية والاجتماعية والدينية والسياسية… إلخ.
 
إذن، حتى من منظور الرأي المتهالك أمام أطماع العدو والمستجدي وده عبر تقديم التنازل تلو الآخر، فإن قرار تقسيم فلسطين لا شرعي ولا قانوني، لكن حتى لو كان غير ذلك لجددنا رفضنا له لأنه ظالم ويسلب شعبًا وطنه.
فما الفائدة من هكذا تصريحات لا تخدم سوى العدو وتلحق أضرارا إضافية بقضيتنا الوطنية؟
 
بعد مرور نحو أربعين عامًا على اختيار المؤسسة السياسية الفلسطينية طريق إرضاء العدو والتخلي عن الوطن لصالح برنامج بث الأوهام في عقول أبناء شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية، وقاد إلى انقسام الساحة الفلسطينية وشعبنا وإلى انفضاض كثير من أصدقاء شعبنا عن قضيتنا العادلة، كان الأجدر بقيادة المؤسسة السياسية الفلسطينية البحث في طرق تقلل من آلام شعبنا وتقصِّر من درب معاناته.
 

"
من قاد الشعب الفلسطيني من كارثة إلى أخرى، وحول الحركة الوطنية التحررية الفلسطينية إلى مؤسسة سياسية مبتدئة تائهة في دهاليز النظام الإمبريالي العالمي وأروقته، غير قادر على رؤية أي شيء في العالم
"

لكن هيهات. فمن قاد الشعب الفلسطيني من كارثة إلى أخرى، وحول الحركة الوطنية التحررية الفلسطينية إلى مؤسسة سياسية مبتدئة تائهة في دهاليز النظام الإمبريالي العالمي وأروقته، غير قادر على رؤية أي شيء في العالم، سوى ما ينعكس في المرآة التي ينظر فيها.

 
فمنذ أن قرروا التخلي عن درب الكفاح الوطني استحالوا سياسيين، والسياسة (politics)، كما نعرف، هي الدهاء النفعي للوصول إلى السلطة . . والاحتفاظ بها. لكن ليس كل من يعمل في السياسة سياسي حيث وجب تمييزه من الوطني.
 
ولأن هدفنا وصف أعراض أمراضنا على طريق المساهمة في إذكاء النقاش في البحث عن دروب الخلاص الوطني والقومي، فإننا نختصر القول بتأكيد ثقتنا بأن القضية الفلسطينية لا يمكن أن تستعيد مكانتها التي تستحقها في وجدان أمتنا والعالم الحر حقًا، وأنه لا يمكن لنا تحرير وطننا المغتصب، إلا بإعادتها إلى جذورها، أي استعادة مكانتها الحقيقية بكونها قضية تحرر وطني قومي عربي (طبعًا إسلامي ومسيحي مشرقي) معاد للإمبريالية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.