حماس والفصائل الفلسطينية بسوريا واللغط المثار
نبدأ القول بأن هناك شطحات تتطاير في تحليل المعطيات القائمة وآفاقها، أو في سبر أغوار المخفي من التطورات الجارية بشأن العلاقات السورية الفلسطينية عموماً، والعلاقات "الحمساوية" السورية خصوصاً.
وبالطبع، فإننا نحسن الظن عند القول بأن أغلب تلك التقديرات بني إما على معلومات خاطئة، أو على تقديرات وتحليلات لم تلمس الواقع المعاش على الأرض كما هو على الواقع بالنسبة للوجود السياسي الفصائلي الفلسطيني في سوريا خلال العام المنصرم، وقد باتت الأزمة الوطنية السورية قريبة من أبواب عامها الثاني.
" كل القوى الفلسطينية الموجودة في سوريا، ما زالت باقية حتى اللحظة بمقراتها ومكاتبها مؤسساتها، وحتى بنشاطاتها المعتادة، وإن خفت وتيرة تلك النشطات اليومية لأسباب لها علاقة بمراعاة الوضع العام في سوريا " |
وزعم العديد من الجهات التي دأبت على تسريب تلك المعلومات أن جهة مغادرة حركة حماس ستكون باتجاه هذه الدولة أو تلك، متناسين أن حركة حماس لا تفرط في موقعها ووجودها في دمشق نظراً للبعد الإستراتيجي لهذا الموقع في سياق العمل الوطني الفلسطيني أولاً، وفي سياق غياب البدائل أصلاً التي تضمن وجوداً جيداً لحركة حماس وداعماً لإطارها التنظيمي ولوجودها في الداخل الفلسطيني ثانياً.
أعمق من ذلك، إن كل القوى الفلسطينية الموجودة في سوريا، ما زالت باقية حتى اللحظة بمقراتها ومكاتبها مؤسساتها، وحتى بنشاطاتها المعتادة، وإن خفت وتيرة تلك النشطات اليومية لأسباب لها علاقة بمراعاة الوضع العام في سوريا لا أكثر ولا أقل.
إن الفصائل الفلسطينية -الموجود في الساحة السورية، والمنتشرة بمقراتها السياسية والإعلامية ومؤسساتها المجتمعية والخدماتية التي تقدم خدماتها للمجتمع الفلسطيني المحلي في سوريا- كانت وما زالت فاعلة حتى اللحظة الراهنة على امتداد كافة التجمعات الفلسطينية في عموم المحافظات السورية، وخاصة منها في مدينة دمشق وريفها التي تستحوذ على الكتلة السكانية الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين وبحدود (75%) منهم، حيث يقيم فوق الأرض السورية نحو (625) ألف مواطن فلسطيني، غالبيتهم الساحقة من لاجئي عام 1948 (نحو نصف مليون)، وهم من يسمون "الفلسطينيين السوريين" ويعاملون -وفق القوانين والتشريعات السورية النافذة- كالمواطن السوري أصلاً في كافة الحقوق والواجبات (ما عدا حق الترشيح والانتخاب)، وذلك منذ دخول الدفعات الأولى من اللاجئين الفلسطينيين إلى سوريا عام 1948.
" لم تمنع السلطات السورية وجود أي تنظيم فلسطيني في الساحة السورية طوال العقود الماضية سوى تنظيم واحد من تنظيمات منظمة التحرير الفلسطينية، هو تنظيم "جبهة التحرير العربية" الذي كان وما زال يمثل الجناح الفلسطيني لحزب البعث العراقي " |
فقد صدرت التشريعات المتعلقة بذلك، بدءاً من القانون الرقم (450) الصادر بتاريخ 25/1/1949، وانتهاء بالقانون المعروف رقم (260) بتاريخ 10/7/1956، حين صدر المرسوم الرئاسي النهائي بهذا الشأن والمتعلق بالمساواة التامة للفلسطينيين السوريين مع إخوانهم السوريين، وهو المرسوم الذي كان قد ناقش مسودته وطالب باستصداره البرلمان السوري وبالإجماع، وقد تم توقيعه من قبل الرئيس الراحل شكري القوتلي، وقد تعززت روحية العمل بهذا المرسوم تباعاً خلال الأعوام والعقود التي تلت من حياة سوريا والشعب الفلسطيني الموجود فوق أرضها.
لقد استطاعت كل القوى الفلسطينية دون استثناء أولاً، وبإجماع وطني عام ثانياً، وبتضافر الوعي السياسي الدقيق والحس اللاقط لمسار الأحداث عند عموم الناس في المجتمع الفلسطيني في سوريا ثالثاً، وانطلاقاً من رؤية متقدمة تسعى للمواءمة والتضامن الإيجابي مع سوريا والشعب السوري في آن واحد، وهو تضامن ينبع أيضاً من المصلحة الوطنية والقومية للشعب العربي الفلسطيني رابعاً، استطاعت أن تشتق وأن تبني موقفاً عقلانياً بالنسبة لتفاعلات الوضع الداخلي في سوريا، يجنب الشعب الفلسطيني وعموم قواه السياسية أي آثار سلبية متوقعة جراء اشتعال الوضع السوري الداخلي، ويضمن في الوقت نفسه المساهمة الفلسطينية البناءة والإيجابية في مسار الأحداث السورية الداخلية بدلاً من الغرق في أتونها، وذلك انطلاقاً من التجربة الفلسطينية المرة ذاتها التي دفع الفلسطينيون ثمنها الباهظ في أكثر من مكان في بلاد العرب خلال أزمات سابقة، كان آخرها المشهد المأساوي للمآلات التي وصل إليها الفلسطينيون في الكويت ثم العراق في عام 1990 وما تلاه.
وعليه، فقد عنونت الفصائل الفلسطينية -وبإجماع وطني- موقفها من الوضع الداخلي السوري تحت عنوان "الحياد الإيجابي"، وهو موقف حكيم ومسؤول وبناء، ينبع من "فقه" المصالح الوطنية، ولا يعني في الوقت نفسه ولا لحظة واحدة اتخاذ موقف إدارة الظهر أو اللامبالاة تجاه سوريا أو الشعب السوري، أو الالتفاف والاختفاء وراء كلمة الحياد على قاعدة "فخار يكسّر بعضه" كما خرج علينا البعض من أصحاب "الرؤوس الحامية" من السوريين أو الفلسطينيين على حد سواء، ممن دعوا لزج الفلسطينيين في سوريا في أتون الأزمة الداخلية السورية تحت عنوان لامع لكنه ليس بالذهب، وفحواه "الشراكة في المصير".
إن الحياد الإيجابي يعني الوقوف إلى جانب سوريا الواحدة الموحدة، والانحياز إلى صف الشعب السوري ومطالبه، وهو واجب أخلاقي على الفلسطينيين. فسوريا تاريخياً، والشعب السوري كذلك، كانا دوماً مع الشعب الفلسطيني، فنسبة كبيرة من شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة هم من السوريين، ولا أبالغ في القول إن عدد شهداء بعض الفصائل الفلسطينية (ومنها من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية) من السوريين أكثر من شهدائها من الفلسطينيين، وتلك المعطيات ليست نسيجاً من عندي بل هي موجودة ومرصودة.
" الحياد الإيجابي يعني الوقوف إلى جانب سوريا الواحدة الموحدة، والانحياز إلى صف الشعب السوري, والجهات السورية الرسمية لم تطالب أحدا من الفلسطينيين بموقف آخر غير هذا الموقف المعلن والمعنون بالحياد الإيجابي " |
أخيراً، إن الجهات السورية الرسمية لم تطالب أحدا من الفلسطينيين بموقف آخر غير هذا الموقف المعلن والمعنون بالحياد الإيجابي وما تعنيه تلك الجملة. فالجهات الرسمية السورية الخبيرة بعلاقاتها مع الأطراف الفلسطينية -وكذلك الجهات المعارضة في هيئة التنسيق وغيرها- تدرك ماهية وحساسية المعادلة الفلسطينية، وتعي أهمية أن حركة حماس هي حركة فلسطينية ذات امتداد إخواني وليست بالتالي حركة أو تنظيما سورياً، أو مسؤولة عن سياسات الإخوان المسلمين السوريين وتوجهاتهم المختلفة، وهو أمر تتفهمه الجهات المعنية بدمشق والسورية عموماً بما فيها معظم ألوان المعارضة، وفق ما تشي به الوقائع حتى الآن.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.