حماس والفصائل الفلسطينية بسوريا واللغط المثار


undefined
 
ارتفع في الأسابيع الأخيرة منسوب اللغط الدائر في الساحتين الإعلامية والسياسية حول أوضاع الفلسطينيين -وبالأخص حركة حماس- في الساحة السورية، وعلاقات حماس الإقليمية على ضوء استمرار التفاعلات المتعلقة بالأزمة الوطنية التي تعانيها سوريا.
 
وقد وصل اللغط إلى حد التضارب المتتالي في الأخبار والمعطيات المنشورة هنا وهناك، أو حتى في التصريحات أو التسريبات التي صدرت على لسان أكثر من جهة دبلوماسية عربية أو غربية مقيمة بدمشق، والمتعلقة بأوضاع حركة حماس في سوريا. فما هي حقيقة الأمور، وكيف يمكن أن نقرأ حال الموقف الفلسطيني عامة، والعلاقات "الحمساوية" السورية، خاصة في هذا الوقت بالذات..؟
 
حماس واللغط المثار
نبدأ القول بأن هناك شطحات تتطاير في تحليل المعطيات القائمة وآفاقها، أو في سبر أغوار المخفي من التطورات الجارية بشأن العلاقات السورية الفلسطينية عموماً، والعلاقات "الحمساوية" السورية خصوصاً.
وبالطبع، فإننا نحسن الظن عند القول بأن أغلب تلك التقديرات بني إما على معلومات خاطئة، أو على تقديرات وتحليلات لم تلمس الواقع المعاش على الأرض كما هو على الواقع بالنسبة للوجود السياسي الفصائلي الفلسطيني في سوريا خلال العام المنصرم، وقد باتت الأزمة الوطنية السورية قريبة من أبواب عامها الثاني.
 
لقد كثر اللغط حول إمكانية مغادرة حركة حماس لدمشق كموقع قيادي وكمقر خارجي في الشتات الفلسطيني. ولم تستطع تصريحات قيادات حركة حماس أن تضع حداً لهذا اللغط بالرغم من صدورها من أعلى المستويات، بما فيها تصريح رئيس المكتب السياسي خالد مشعل بالنسبة لوجود حركة حماس في سوريا.
 

"
كل القوى الفلسطينية الموجودة في سوريا، ما زالت باقية حتى اللحظة بمقراتها ومكاتبها مؤسساتها، وحتى بنشاطاتها المعتادة، وإن خفت وتيرة تلك النشطات اليومية لأسباب لها علاقة بمراعاة الوضع العام في سوريا
"

وزعم العديد من الجهات التي دأبت على تسريب تلك المعلومات أن جهة مغادرة حركة حماس ستكون باتجاه هذه الدولة أو تلك، متناسين أن حركة حماس لا تفرط في موقعها ووجودها في دمشق نظراً للبعد الإستراتيجي لهذا الموقع في سياق العمل الوطني الفلسطيني أولاً، وفي سياق غياب البدائل أصلاً التي تضمن وجوداً جيداً لحركة حماس وداعماً لإطارها التنظيمي ولوجودها في الداخل الفلسطيني ثانياً.

 
وهنا نفصح عن معلومة مؤكدة تقول إن المجلس العسكري في مصر رفض مؤخراً وبشدة طلباً تقدمت به حركة حماس يسمح لها بافتتاح مقر تمثيلي متواضع في القاهرة لتيسير الأمور الثنائية والاتصالات بين الطرفين. كما أن الأردن -بالرغم من الضجيج المثار حول زيارة خالد مشعل المرتقبة- ليس في وارد السماح لحركة حماس بتكريس وجود سياسي وإعلامي وعملي لها، وهو أمر كان قد أخبر به العاهل الأردني القيادة الفلسطينية في رام الله في زيارته المفاجئة الشهر الماضي، وقد نقل عنه قوله إن زيارة مشعل أو التقارب مع حركة حماس لن يكون على حساب علاقات الأردن مع السلطة الفلسطينية، أو على حساب الموقف السياسي الأردني عامة بشأن التسوية.
 
وفي هذا الصدد، نعم أستطيع القول وأن أجزم أيضاً بأن حركة حماس قد قامت بخطوة ما، هي ما يمكن أن نسميها خطوة "إعادة تموضع"، تم فيها إحداث تنقلات لعدد من كوادرها بين عدد من الساحات التي يمكن الوجود على أرضها، وهذا أمر مفهوم، ويجب عدم المبالغة في البناء عليه، والوصول إلى استنتاجات غير دقيقة تبشر بطلاق "حمساوي" سوري.

 
أعمق من ذلك، إن كل القوى الفلسطينية الموجودة في سوريا، ما زالت باقية حتى اللحظة بمقراتها ومكاتبها مؤسساتها، وحتى بنشاطاتها المعتادة، وإن خفت وتيرة تلك النشطات اليومية لأسباب لها علاقة بمراعاة الوضع العام في سوريا لا أكثر ولا أقل.
 
وحسب كل ما هو متوفر في اليد، ومن أرض الواقع، فإن أيا من تلك القوى والفصائل الفلسطينية لم يتعرض خلال شهور الأزمة السورية إلى أي من منغصات الوجود أو العمل، أو من المتاعب الناتجة عن انعكاسات متوقعة للأزمة الداخلية السورية، أو أي من الاحتكاكات السلبية مع أي من الجهات السورية المعنية على مستوياتها السياسية والأمنية.
 
كما أن البراغماتية العاقلة تفترض حاجة النظام في سوريا لوجود فلسطيني (وطني… ومقاوم) تكريساً لموقفه المعلن، وبالتالي فمن الأحرى ألا يتأثر هذا الوجود سلباً بمسار الأزمة السورية.
 
فسوريا -في اللحظات العصيبة التي تعيشها الآن- مهتمة بوجود فصائل العمل الوطني الفلسطيني من أقصاها إلى أقصاها فوق الأرض السورية، بما في ذلك حركتا حماس والجهاد، إضافة إلى باقي القوى الفلسطينية الموجودة تاريخياً فوق الأرض السورية منذ عام 1965.
 
فالمصلحة الوطنية السورية -مثل مصلحة النظام في سوريا- تفترض وجود علاقات إيجابية مع جميع ألوان الطيف الفلسطيني، بما فيه حركتا حماس والجهاد الإسلامي على وجه الخصوص اللتان تمثلان من وجهة نظر سوريا "الإسلام المقاوم الحقيقي" في مواجهة العدو "الإسرائيلي". كما أن المناخ العام في سوريا على المستوى الشعبي يساند وبقوة وجود فصائل العمل الفلسطيني في الساحة السورية، ولحركة حماس جمهورها المؤيد لها بين السوريين.
 
إشارات لابد من العودة إليها
إن الفصائل الفلسطينية -الموجود في الساحة السورية، والمنتشرة بمقراتها السياسية والإعلامية ومؤسساتها المجتمعية والخدماتية التي تقدم خدماتها للمجتمع الفلسطيني المحلي في سوريا- كانت وما زالت فاعلة حتى اللحظة الراهنة على امتداد كافة التجمعات الفلسطينية في عموم المحافظات السورية، وخاصة منها في مدينة دمشق وريفها التي تستحوذ على الكتلة السكانية الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين وبحدود (75%) منهم، حيث يقيم فوق الأرض السورية نحو (625) ألف مواطن فلسطيني، غالبيتهم الساحقة من لاجئي عام 1948 (نحو نصف مليون)، وهم من يسمون "الفلسطينيين السوريين" ويعاملون -وفق القوانين والتشريعات السورية النافذة- كالمواطن السوري أصلاً في كافة الحقوق والواجبات (ما عدا حق الترشيح والانتخاب)، وذلك منذ دخول الدفعات الأولى من اللاجئين الفلسطينيين إلى سوريا عام 1948.
 

"
لم تمنع السلطات السورية وجود أي تنظيم فلسطيني في الساحة السورية طوال العقود الماضية سوى تنظيم واحد من تنظيمات منظمة التحرير الفلسطينية، هو تنظيم "جبهة التحرير العربية" الذي كان وما زال يمثل الجناح الفلسطيني لحزب البعث العراقي
"

فقد صدرت التشريعات المتعلقة بذلك، بدءاً من القانون الرقم (450) الصادر بتاريخ 25/1/1949، وانتهاء بالقانون المعروف رقم (260) بتاريخ 10/7/1956، حين صدر المرسوم الرئاسي النهائي بهذا الشأن والمتعلق بالمساواة التامة للفلسطينيين السوريين مع إخوانهم السوريين، وهو المرسوم الذي كان قد ناقش مسودته وطالب باستصداره البرلمان السوري وبالإجماع، وقد تم توقيعه من قبل الرئيس الراحل شكري القوتلي، وقد تعززت روحية العمل بهذا المرسوم تباعاً خلال الأعوام والعقود التي تلت من حياة سوريا والشعب الفلسطيني الموجود فوق أرضها.

 
ومن المعروف أيضاً، أن جميع القوى والفصائل الفلسطينية موجودة تاريخياً فوق الأرض السورية، وعددها (12 فصيلاً) وهي: حركة فتح، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة)، منظمة طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة)، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، جبهة التحرير الفلسطينية، الحزب الشيوعي الفلسطيني، حزب الشعب الفلسطيني، حركة فتح/الانتفاضة، الجبهة الديمقراطية (وحركتا حماس والجهاد الإسلامي بُعيد عام 1990).
 
بينما يوجد مجتمعياً في الوسط الفلسطيني في سوريا، حزب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا) الذي سبق أن خرج من "عباءة" الجبهة الديمقراطية عام 1990. ولم تمنع السلطات السورية وجود أي تنظيم فلسطيني في الساحة السورية طوال العقود الماضية سوى تنظيم واحد من تنظيمات منظمة التحرير الفلسطينية، هو تنظيم "جبهة التحرير العربية" الذي كان وما زال يمثل الجناح الفلسطيني لحزب البعث العراقي، بالرغم من الوجود المجتمعي للتنظيم المشار إليه داخل "أوساط" من الفلسطينيين في سوريا.
 
معنى الحياد الإيجابي
لقد استطاعت كل القوى الفلسطينية دون استثناء أولاً، وبإجماع وطني عام ثانياً، وبتضافر الوعي السياسي الدقيق والحس اللاقط لمسار الأحداث عند عموم الناس في المجتمع الفلسطيني في سوريا ثالثاً، وانطلاقاً من رؤية متقدمة تسعى للمواءمة والتضامن الإيجابي مع سوريا والشعب السوري في آن واحد، وهو تضامن ينبع أيضاً من المصلحة الوطنية والقومية للشعب العربي الفلسطيني رابعاً، استطاعت أن تشتق وأن تبني موقفاً عقلانياً بالنسبة لتفاعلات الوضع الداخلي في سوريا، يجنب الشعب الفلسطيني وعموم قواه السياسية أي آثار سلبية متوقعة جراء اشتعال الوضع السوري الداخلي، ويضمن في الوقت نفسه المساهمة الفلسطينية البناءة والإيجابية في مسار الأحداث السورية الداخلية بدلاً من الغرق في أتونها، وذلك انطلاقاً من التجربة الفلسطينية المرة ذاتها التي دفع الفلسطينيون ثمنها الباهظ في أكثر من مكان في بلاد العرب خلال أزمات سابقة، كان آخرها المشهد المأساوي للمآلات التي وصل إليها الفلسطينيون في الكويت ثم العراق في عام 1990 وما تلاه.
 
وبالطبع، فإن اشتقاق موقف متوازن وحساس، وعلى (حد السكين، وفق التعبير المجازي) أمر صعب وشاق للغاية، لا يدركه إلا أهل "الحلم والحكمة والتعقل"، ولا ينكره ولا يزدريه إلا جاهل أو متسرع لهوف، وبعيد عن حسابات المنطق والعقل والمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني.
 
وعليه، فقد عنونت الفصائل الفلسطينية -وبإجماع وطني- موقفها من الوضع الداخلي السوري تحت عنوان "الحياد الإيجابي"، وهو موقف حكيم ومسؤول وبناء، ينبع من "فقه" المصالح الوطنية، ولا يعني في الوقت نفسه ولا  لحظة واحدة اتخاذ موقف إدارة الظهر أو اللامبالاة تجاه سوريا أو الشعب السوري، أو الالتفاف والاختفاء وراء كلمة الحياد على قاعدة "فخار يكسّر بعضه" كما خرج علينا البعض من أصحاب "الرؤوس الحامية" من السوريين أو الفلسطينيين على حد سواء، ممن دعوا لزج الفلسطينيين في سوريا في أتون الأزمة الداخلية السورية تحت عنوان لامع لكنه ليس بالذهب، وفحواه "الشراكة في المصير".
 
إن "الحياد الإيجابي" -الذي وسم الموقف عموم الموقف الفلسطيني، وموقف حركة حماس على وجه الخصوص- بالنسبة للأزمة الداخلية السورية، يعني بالنسبة لنا كفلسطينيين الوقوف مع سوريا الواحدة الموحدة بخطها وسياساتها الوطنية والقومية إزاء الصراع مع المشروع الاستيطاني التوسعي الكولونيالي الصهيوني على أرض فلسطين وعموم الأرض العربية المحتلة بما فيها الجولان السوري المحتل.
 
كما يعني الوقوف ضد أي تدخل خارجي يستهدف سوريا، أو يعمل على تقسيمها وتحطيم وحدتها الداخلية أو ذر الفتن الطائفية أو تسعير أجواء الاقتتال الداخلي على أرضها بين عموم مكونات الشعب السوري.
 
كما يعني (وبالضبط) الوقوف إلى جانب الشعب السوري في تطلعاته ومطالبه في تحقيق المزيد من مناخات الانفراج الداخلي والحرية والمساواة والعدالة، والديمقراطية والتعددية السياسية، وتحقيق الإصلاحات الجذرية التي طالب بها الناس… إلخ.
 
الفلسطينيون ليسوا بحاجة لمغامرات
إن الحياد الإيجابي يعني الوقوف إلى جانب سوريا الواحدة الموحدة، والانحياز إلى صف الشعب السوري ومطالبه، وهو واجب أخلاقي على الفلسطينيين. فسوريا تاريخياً، والشعب السوري كذلك، كانا دوماً مع الشعب الفلسطيني، فنسبة كبيرة من شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة هم من السوريين، ولا أبالغ في القول إن عدد شهداء بعض الفصائل الفلسطينية (ومنها من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية) من السوريين أكثر من شهدائها من الفلسطينيين، وتلك المعطيات ليست نسيجاً من عندي بل هي موجودة ومرصودة.
 

"
الحياد الإيجابي يعني الوقوف إلى جانب سوريا الواحدة الموحدة، والانحياز إلى صف الشعب السوري, والجهات السورية الرسمية لم تطالب أحدا من الفلسطينيين بموقف آخر غير هذا الموقف المعلن والمعنون بالحياد الإيجابي 
"

أخيراً، إن الجهات السورية الرسمية لم تطالب أحدا من الفلسطينيين بموقف آخر غير هذا الموقف المعلن والمعنون بالحياد الإيجابي وما تعنيه تلك الجملة. فالجهات الرسمية السورية الخبيرة بعلاقاتها مع الأطراف الفلسطينية -وكذلك الجهات المعارضة في هيئة التنسيق وغيرها- تدرك ماهية وحساسية المعادلة الفلسطينية، وتعي أهمية أن حركة حماس هي حركة فلسطينية ذات امتداد إخواني وليست بالتالي حركة أو تنظيما سورياً، أو مسؤولة عن سياسات الإخوان المسلمين السوريين وتوجهاتهم المختلفة، وهو أمر تتفهمه الجهات المعنية بدمشق والسورية عموماً بما فيها معظم ألوان المعارضة، وفق ما تشي به الوقائع حتى الآن.

 
وخلاصة القول، إن الفلسطينيين ليسوا بحاجة لمغامرات والدخول في معترك أزمات عربية داخلية، وليسوا بحاجة لإعادة استنساخ تجارب مؤلمة مروا بها ودفعوا أثمانها الفادحة من الدماء والضحايا والخسائر في أكثر من ساحة.
 
فمصلحة الشعب الفلسطيني الوطنية والقومية تتطابق بالتمام والكمال مع سوريا الواحدة الموحدة بسياستها الوطنية والقومية في مواجهة "إسرائيل" (وهذا معيار أساسي للفلسطينيين)، ومع سوريا المتحررة من قيود كل تدخل عسكري أجنبي، ومع سوريا الحافظة لدماء عموم أبنائها وفي كل بقاع سوريا، ومع سوريا التي تخط طريق الإصلاحات وروح التعددية والديمقراطية والانفتاح والتطور والحداثة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.