هل همّش الربيع العربي قضية فلسطين؟

هل همّش الربيع العربي قضية فلسطين؟ الكاتب: ياسر الزعاترة
 
منذ مطلع العام، تحديدا منذ انطلاق قطار الربيع العربي من محطته التونسية، والقضية الفلسطينية تعاني التهميش، الأمر الذي أثار مخاوف الكثير من المخلصين، لاسيما أنها القضية المركزية للأمة كما في الخطاب السائد بين صفوف القوى الحية في الأمة منذ عقود طويلة، وهو خطاب محق وصائب من دون شك، مع ضرورة التذكير هنا بفريق سياسي دأب على استخدام هذا الشعار في سياق هجاء الثورات العربية التي تجاهلت برأيه تناقض الأمة الرئيس مع الكيان الصهيوني والإمبريالية الأميركية، الأمر الذي يشير برأيه إلى مؤامرة أميركية صهيونية يتم ترتيبها ضد مصالح الأمة وقضاياها.

"
نحن إزاء جدلية طرحتها الثورات العربية عنوانها أولوية الأمة: هل هي التناقض مع المشروع الصهيوني الأميركي في المنطقة، أم التناقض مع أنظمة الاستبداد؟
"

والحق أننا إزاء جدلية حقيقية طرحتها الثورات العربية، عنوانها أولوية الأمة: هل هي التناقض مع المشروع الصهيوني الأميركي في المنطقة، أم التناقض مع أنظمة الاستبداد؟ وهي جدلية تعاملت معها القوى الحية في الأمة سابقا بروحية العمل على الجبهتين، إذ لم تمنعها مواجهة الاستبداد في الداخل من المساهمة في مواجهة المشروع الأميركي الصهيوني، كل بحسب قدرتها وإمكانياتها.

 
ولعل ذلك هو ما أفرز مصطلح جبهة المقاومة والممانعة، التي اختزلها البعض في إيران وسوريا وحزب الله وقوى المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حماس، بينما هي تشمل عددا لا يحصى من القوى والفعاليات الشعبية والحزبية والنقابية التي وقفت سدا منيعا في وجه التطبيع مع الكيان الصهيوني، في الوقت ذاته الذي دعمت فيه المقاومة في فلسطين والعراق وأفغانستان، وربما ساهمت في التأثير بدرجات متفاوتة على سياسات العديد من الدول العربية فيما خصّ قضايا الأمة وفي مقدمتها فلسطين.

 
في هذا الإطار تحققت إنجازات لا يمكن إغفالها، تمثلت في إيقاع بعض الهزائم الجزئية والمرحلية المهمة بالمشروع الصهيوني، في مقدمتها انتصار مايو/أيار عام 2000 في الجنوب اللبناني، وكذلك انتصار معركة يوليو/تموز 2006، وانتصار معركة الفرقان نهاية 2008 ومطلع 2009، وقبله انتفاضة الأقصى وانتصاراتها الرمزية والكبيرة التي أفضت إلى الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وتفكيك مستوطناته.
 
ولا شك أننا إزاء أدوار ومعارك ساهمت في تحجيم طموحات المشروع الصهيوني الذي بات يحيط نفسه بالجدران جراء الخوف، بينما كان يحلم مع انطلاقة أوسلو بالهيمنة على الشرق الأوسط برمته. ولم يكن ذلك هو كل شيء، فقد ساهمت قوى الممانعة في إفشال مشروع الغزو الأميركي للعراق الذي كان واسع الطموحات كما يعرف الجميع، فضلا عن أفغانستان، وقد ساهم ذلك كله في ضرب الغطرسة الأميركية والمساهمة في الحد من النفوذ الأميركي في المشهد الدولي.
 
لكن ذلك لم يكن كافيا لإحداث نقلة مهمة في مشروع الأمة للوحدة والنهوض، والسبب بالطبع هو تلك الأنظمة التي هيمنت على السلطة والثروة ورهنت قرار الأمة للخارج، ولم يعد بالإمكان الخروج من هذا المأزق دون مواجهتها والتخلص منها، وأقله تغيير بنيتها على نحو جوهري.
 

"
لا شك أن في روح المقاومة والاستشهاد التي تفيض بها الشوارع العربية نكهة من فلسطين وتضحيات فلسطين وبطولات فلسطين
"
كانت تلك هي روحية الربيع العربي في تجلياته الأولى والتالية. صحيح أن المواطن العربي كان ينتفض في الظاهر، وكما عكست ذلك شعاراته ضد ظلم الداخل أكثر من الاحتجاج على السياسة الخارجية، لكن الواقع العملي كان يؤكد أن ملف الخارج، أعني تعاطي الأنظمة مع أعداء الأمة وركونها لهم، لم يكن غائبا بحال، ومن كان يتابع تفاعل الشوارع العربية مع العراق وفلسطين وإدانتها لسياسات الأنظمة حيالهما كان يدرك هذا البعد، إذ إن أهم الفعاليات الشعبية التي شهدتها الشوارع العربية خلال الألفية الجديدة، والتي شكلت "بروفة" للاحتجاجات التالية، كانت تتم على إيقاع الإهانات الأميركية الصهيونية للأمة في فلسطين والعراق والسودان وغيرها من الدول، فضلا عن دعم الأنظمة الفاسدة بكل أشكال الدعم.
 
اليوم تنشغل الشوارع العربية بقضاياها الداخلية، بينما يغيب الملف الفلسطيني بعض الشيء عن المشهد، وتتراجع أنباء فلسطين في النشرات الإخبارية، حتى حين يقتل الناس تباعا في قطاع غزة بصواريخ الطائرات الإسرائيلية لا يحضر الملف بالقدر الكافي، لكن سقوط شهداء من الجيش المصري في المعركة كان فرصة لتذكير المصريين بتناقضهم الحقيقي مع الكيان الصهيوني، على الرغم من أنهم لم ينسوه في يوم من الأيام، ولن ينسوه أبدا حتى زوال ذلك الكيان.
 
والحق الذي يجب ألا ينساه أحد بأي حال من الأحوال هو أن الشعب الفلسطيني كان رائد التحرر في المنطقة، وقدم من التضحيات الكثير، بل قدم أروع الرموز وأجمل البطولات في مقاومة الظلم والطغيان، ولا شك أن في روح المقاومة والاستشهاد التي تفيض بها الشوارع العربية نكهة من فلسطين، وتضحيات فلسطين، وبطولات فلسطين.
 
تلك حقيقة لا ينكرها منصف. صحيح أن الأمر لم يكن حكرا على فلسطين، وأن شعوب الأمة لا تقل ريادة في مقاومة الظلم في كل مكان، لكن تأثير فلسطين كان مميزا لسببين؛ الأول خصوصيتها الدينية والرمزية، وثانيهما الثورة الإعلامية التي  أدخلت تضحياتها ورموزها إلى كل بيت من بيوت أبناء الأمة، الأمر الذي لم يكن متوفرا في القرن الماضي والذي قبله بالنسبة للثورات العربية ضد الاستعمار.
 
اليوم يستريح الشارع الفلسطيني بعض الشيء، وهي استراحة لم تأت نتاج اختيار، بل نتاج إجبار جاء بدوره بسبب سيطرة نخبة سياسية من لون معين على السلطة وحركة فتح ومنظمة التحرير، وهي نخبة لها برنامجها المناهض لرغبة الشعب في المقاومة، ولعل ذلك قد جاء بحسب قناعة البعض في صالح الثورات العربية، أعني من زاوية التركيز الإعلامي الذي تحتاجه تلك الثورات، بل تتنفس من خلاله، وإن رأى آخرون أن انتفاضة باسلة في الضفة الغربية وكل الأراضي الفلسطينية كان يمكن أن تلتحم بالشتات والشوارع العربية -بخاصة من دول الطوق- على نحو يحقق برنامج التحرير بشقيه؛ تحرير فلسطين، وتحرير الإنسان العربي من أسر الأنظمة الفاسدة.
 

"
لا قيمة لحديث رموز السلطة الفلسطينية عن الانتفاضة السلمية ومحاكاة الشوارع العربية في ربيعها التحرري، لاسيما أننا إزاء حديث لا ينطوي على أي قدر من الجدية
"
لا قيمة بالطبع لحديث رموز السلطة الفلسطينية عن الانتفاضة السلمية ومحاكاة الشوارع العربية في ربيعها التحرري، لاسيما أننا إزاء حديث لا ينطوي على أي قدر من الجدية، إذ نعلم أن الانتفاضة السلمية هي انتفاضة عارمة تشتبك مع الحواجز العسكرية الإسرائيلية، وليست مجرد مظاهرات شكلية لا تؤثر في العدو، ونعلم بالطبع أن أولئك لم يوقفوا التنسيق الأمني مع العدو حتى يتحدثوا عن ثورة ضده، فضلا عن استمرارهم في برنامج اعتقال المجاهدين ومطاردة كل ما يمت إلى ثقافة المقاومة بصلة.
 
أيا يكن الأمر، فما يجري فيه خير كثير، والذين يمسكون بخناق القضية الفلسطينية ويحرفون مسيرتها لن ينجحوا إلى أمد بعيد، وما تحقق من انتصارات عربية، وما سيتحقق لاحقا سيشجع الشارع الفلسطيني على إطلاق انتفاضته الجديدة، وسيكون ذلك محطة باتجاه الانتصارات الكبرى ومشروع الوحدة والنهوض. ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.