مصر.. وأكثر من هتلر

العنوان: مصر.. وأكثر من هتلر


 
حالة "اللا يقين" التي تفرض نفسها الآن على المشهد السياسي في مصر لا هي مصادفة ولا هي معطى طبيعي، لكنها "تفاعل موجه" هدفه الأكثر أهمية هو إسقاط اعتبار الكيانات السياسية حتى لا يبقى منها شيء. وهو هدف سهل على أية حال، حيث إن ثورة 25 يناير كشفت هزال الجانب الأكبر من الكيانات السياسية السابقة عليها، وأظهرت قصور الباقي.
 
كما أن الثورة لم تنجح -حتى الآن- في خلق مؤسستها، كأنها "يرقة" تعجز عن نسج شرنقتها، التي لن تنطلق فراشة إلا منها. وهكذا فإن مؤسسات ما بعد الثورة ما زالت أشد هزالا وأكثر اضطرابا و"دَخَلا" من مؤسسات ما قبلها. وفوق هذا وذاك، فإن الكيانات السياسية تواصل الفتك ببعضها البعض في صراع محموم، أطلِقَ في حده الأقصى بينما حبر شعارات "الوحدة الثورية" لم يجف لا عن الجدران، ولا في الورق، ولا داخل الأرواح!
 

"
الثورة لم تنجح -حتى الآن- في خلق مؤسستها، فمؤسسات ما بعد الثورة ما زالت أشد هزالا وأكثر اضطرابا و"دَخَلا" من مؤسسات ما قبلها
"

هكذا إذا يسقط الجميع، أو يتساقط، حتى لا يبقى في ضمير المشهد إلا مجهول، نحاول استقراء طبيعته وكشف صفاته فإذا هو -كما يريده النظام المصري- حاكم مطلق، أو "هتلر" جديد، يسعي لتفصيل "هبة النيل" عباءة على مقاسه، حريصا على تكرار مقدمات "هتلر" كما عرفته ألمانيا في العشرينيات، والعالم في الثلاثينيات، ومزبلة التاريخ في الأربعينيات.

 
وأولى هذه المقدمات خلق حالة "اللا يقين" عبر إسقاط اعتبار الكيانات السياسية القائمة والمحتملة، ودعونا نتذكر، أنه وبفضل "لا يقين" مماثل، كان بوسع "هتلر" أن يهاجم الجميع: اليهود والكاثوليك، الأرستقراط والشيوعيين، أحزاب اليمين واليسار، الأغنياء والفقراء، وأن هجومه هذا وجد صدى بين الجماهير التي منحته أكثرية الأصوات مرتين متتاليتين، ليصبح الحاكم المطلق، فقط لأنها فقدت الثقة في كيانات فاقدة الاعتبار، لو أن أيا منها حافظ على تماسكه لما جازف الناخبون باختيار "هتلر" الذي لم يكن مجهولا فحسب، لكنه كان مغامرا سياسيا سيء السمعة، مكشوف الطوية لدرجة أنه رشح نفسه للرئاسة تحت شعار "هتلر فوق ألمانيا"!
 
وباستثناء هذا الشعار فإن المشهد -كما يستكمل النظام المصري صياغته- يبدو قريبا جدا من مشهد "هتلر" في تفاصيله: حيث الأزمة الاقتصادية الراهنة تعادل الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، وحيث جمهورية مبارك العجوز المهترئة توشك أن تطابق جمهورية "فايمار" العجوز المهترئة.
 
والأهم من هذه التفاصيل هو الخطوط العريضة، وأبرزها أنه لا توجد "فكرة" ولا "هيئة" للالتفاف حولها، ولا يبقى للناس إلا "الزعيم" يبحثون عنه ويدَّعونه، ويخترعونه لو لم يمر عليهم! لا يبقى أمامهم إلا "الحاكم المطلق" الذي يجد معظم مرشحي رئاسة الجمهورية (المحتملين) في نفسه مشروعا له، لهذا يتحدثون عن "جمهورية رئاسية" لا "برلمانية" وعن برنامج يعتمد على رؤية كل منهم، التي ستسمى لو نجح صاحبها في الانتخابات، "توجيهات السيد الرئيس" وتصبح في مرتبة أعلى من الدستور والقانون.
 
نحن إذا أمام احتمال "أكثر من هتلر"، ومرشحين لا يعنيهم من الثورة إلا أنها أتاحت لهم المشاركة في السباق الرئاسي، أما المشاركة في الفعل الثوري ففلكلورية في معظمها، وبأطراف الأصابع أحيانا، لدرجة أننا لم نر ردا عمليا قويا من "الزعماء" المحتملين على فرض "الطوارئ"، لم نر أيا منهم يشاور جماهيره -ولا نخبته- بشأن ما يجب اتخاذه في مواجهة "الردة عن الثورة" ولا حتى رأينا تصرفا فرديا يعتد به، وفي المقابل رأينا بعضهم يسوق للطوارئ تبريرات ضمنية!

 
على أية حال أعتقد أن معظم "المرشحين المحتملين للرئاسة" يدركون ويتصرفون على أساس أنهم "خارج النظام" الذي انتقلت قيادته من "حسني مبارك" إلى "المجلس العسكري"، وفي خفاء دونه العلن فإن المجلس يرتب لرئيس من داخله، أو رئيس يمر عبر رضاه. رئيس لن يأتي -بأية حال- متلفعا بشرعية الثورة، بل ربما يأتي من نقيض لها. كما أنه سيكون رئيسا يرى نفسه غير مدين للشعب بشيء، مدركا أنه – كما يراد له- لن يأتي عبر "الأصوات" التي ستؤدي دورها كديكور ربما يبدو أكثر بذخا وإبهارا، لكنه في نهاية الأمر مجرد ديكور.
 
ولاحظ أن الجدل السياسي منشغل أساسا بالرئيس، لا البرلمان ولا الحكومة، غير عابئ بأن الانتخابات ستجري -إن جرت- في ظل الطوارئ! ما يرسم صورة حاكم فرد آخر يرث الكرسي الذي غامر "مبارك" بمحاولة توريثه لمن لا يملك سند ميراثه، هذا الكرسي يهيمن عليه الآن "المجلس العسكري" وهو، حسب مجمل تصرفاته، يرى أن مهمة الثورة -التي انتهت منها والحمد لله!!- هي إعادة الكرسي لأصحابه، أما مهمته هو (أي المجلس) التي لا تصلح إلا له ولا يصلح إلا لها، فهي "الحكم المطلق" باعتباره "صاحب الشرعية والمتصرف فيها" مفصحا عن رؤية تضيق فيها -حتى تتلاشى- المسافة الفاصلة بين "الحكم" و"التحكم" وبين "السلطة" و"الاستبداد". ثم إن هناك رئيسا فعليا حاليا، مطلق السلطات بالتأكيد وبلا حدود، والرئيس المقبل يراد له ألا يختلف عن الرئيس الحالي.
 
حتى "الحكومة" لا يمكن أن نعتبرها شريكا في الحكم، إلا بقدر ما كانت عليه في عهد مبارك، حيث كانت "المحلل" أحيانا، و"كبش المحرقة" في أحيان أخرى، و"التابع" الذي يستمد صلاحياته، بل وجوده نفسه من "السيد الرئيس" طوال الوقت. ودعونا نتذكر أن "حكومة الثورة".. ولا فخر! تقدمت -كلها أو بعضها- بالاستقالة أكثر من مرة، مؤكدة أن الأمر كله للمجلس العسكري، يُبقي من يُبقي، ويقيل من يقيل.
 

"
لا يمكن أن نعتبر الحكومة المصرية  شريكا في الحكم إلا بقدر ما كانت عليه في عهد مبارك، حيث كانت "المحلل" أحيانا، و"كبش المحرقة" في أحيان أخرى، و"التابع" الذي يستمد صلاحياته بل وجوده نفسه من "السيد الرئيس"
"

ومؤخرا تقدمت الحكومة -من منطلق دور "كبش المحرقة"- باستقالة، "تكرم" المجلس برفضها. هي الاستقالة التي تلت الهجوم على سفارة الكيان الصهيوني، والتي نسأل: هل جاءت من باب الإحساس بالمسؤولية، أم لمجرد استشعار الحرج؟

 
إن أيا من الإجابتين يوضح بعد الشقة بين المنطق الذي يحرك الحكومة وبين إرادة الشعب. ذلك أن الحكومة التي استقالت بعد اقتحام السفارة لم تتقدم باستقالتها -في المقابل- بعد أن سقط على الحدود مع فلسطين المحتلة خمسة شهداء مصريين، زادوا واحدا بوفاة أحد المصابين مؤخرا، فهل كان هذا لأن الحكومة -كما نرجح- تصرفت في الموقفين في حدود المطلوب منها، أم لأنها تشعر بالمسؤولية عن سلامة السفارة الصهيونية أكثر من شعورها بالمسؤولية عن سلامة مواطنيها من الجنود الذين يحرسون الحدود؟ علما بأن هؤلاء الشهداء هم من عناصر الشرطة، وهي "هيئة مدنية" ووزيرها -وزير الداخلية- أحد وزراء الحكومة، كذلك فإن وزير الخارجية -وهو عضو آخر في الحكومة- فشل في حمل سلطات تل أبيب على الاعتذار عن الجريمة، وهو أضعف الإيمان.
 
ثم إن الحكومة التي لم تستقل من باب الإحساس بالمسؤولية لم تستقل أيضا ولو استشعارا للحرج، ومعروف أن "استشعار الحرج" أوسع نطاقا من "تحمل المسؤولية"، كما أن "المسؤولية الأدبية" أبعد مدى من "المسؤولية المباشرة"، لكن أيا من هذا لم "يغر" الحكومة بتقديم استقالتها، وفي المقابل بادرت الحكومة نفسها إلى الاستقالة بمجرد تعرض سفارة الكيان الصهيوني لهجوم من قبل الشعب المصري الغاضب من وجود قتلة أبنائه على أرضه و"في ضيافة" حكومته، والثائر لأن هذه الحكومة نفسها "خدعته" حين "زعمت" أنها ستطرد السفير الصهيوني وتسحب سفيرها من تل أبيب، ثم اتضح أن أيا من هذا لم يحدث، بل فوجئ في يوم الجمعة 9 سبتمبر/أيلول -اليوم نفسه الذي اقتحمت فيه سفارة الكيان الصهيوني- بنشر تصريح منسوب لسفير النظام المصري إلى تل أبيب، يقول فيه: "العلاقة بين مصر وإسرائيل لن تنقطع أبدا، ولا توجد أدنى مخاوف أو قلق من قطع العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين البلدين، لأن الأصوات في مصر التي تطالب بإلغاء السلام مع إسرائيل وقطع العلاقات معها، ليست إلا أصواتا قليلة وجوفاء وغير مؤثرة بالمرة".
 
وهو التصريح الذي نفاه وزير الخارجية المصري بعد أيام من صدوره ومن اقتحام السفارة، لكنه نفي كان إلى التأكيد أقرب، أولا: لأن السفير نفسه -وهو مصدر التصريح- لم ينف. وثانيا: لأنه جاء بعد استنكار شعبي مشدد لمضمون التصريح ولغته. وثالثا: لأنه نفي جاء في سياق محاولة تهدئة الأوضاع توطئة لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، أي سياق تأكيد مضمون تصريح السفير، الذي يجري نفيه! ورابعا، وليس أخيرا: لأن تصريح سفير النظام المصري إلى تل أبيب جاء في إطار لقائه نائب رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني ووزير الداخلية "إيلي يشاي" زعيم حزب شاس شديد التطرف، وتتمة التصريح -التي لم تُنفَ- أن السفير أعرب عن أمنياته بأن تكون "نتائج التحقيقات (في جريمة قتل شهداء الحدود) ناجحة ومقبولة للجانب المصري والجانب الإسرائيلي"!! هكذا! تل أبيب تقتل، وتنفرد بالتحقيق، وسفير النظام المصري يتمنى أن تكون نتائج التحقيقات مرضية للصهاينة، وكأنها يمكن ألا تكون!
على أية حال نعتقد أن الحكومة كانت تنفذ المطلوب منها طول الوقت، وأن توقيت نشر التصريح الاستفزازي المنسوب للسفير، عبر مصادر إعلامية مقربة من النظام المصري، يمكن أن يضاف إلى حالة "الفراغ الأمني" في محيط سفارة الكيان الصهيوني، وإلى قيام بعض البلطجية المسجلين لدى وزارة الداخلية، والثابت بشهادة الشهود تعاونهم معها من قبل، بالاندساس وسط المتظاهرين أثناء اقتحام السفارة! ما أدى -في النهاية- إلى وصول طوفان الغضب الشعبي داخل السفارة، ليرعب تل أبيب، ويغضب واشنطن، مع إعفاء "المجلس العسكري" من مغبة الغضب والرعب، وإلقاء التبعة بالكامل على كاهل "الحكومة" التي تقدمت باستقالتها متحملة المسؤولية في أداء نموذجي لدور "الأضحية"، مكررة تعريف طبيعة "الممثل" بأنه "شخص يدعي غير حقيقته أمام جمهور يعرف الحقيقة لكنه يتجاهلها".
 
والحكومة كانت "تدعي" أنها صاحبة السلطة -وبالتالي المسؤولية- بينما واشنطن ترسل تحذيرها -رأسا- إلى المجلس العسكري، مهددة بأنها -ضمن "عقوبات" أخرى- ستغلق سفارتها إن تأذى الدبلوماسيون الصهاينة، وكان الرد بأن الأمر يحتاج إلى "صلاحيات أوسع" ليمكن "ضبط الأوضاع"، واقتضت هذه الصلاحيات -عملا لا استنتاجا- أن تشير واشنطن إلى أنها ستغض الطرف عن تطبيق ما يسمى "قانون الطوارئ" بكامل بنوده وسخافاته، ومنها ادعاء أنه سيطبق ضد أعمال "البلطجة" التي نعرف جميعا ومنذ الآن أنها لن تكون إلا أعمال التظاهر والاحتجاج السلمي، بعد أن ينسب محررو المحاضر إليها شيئا من العنف، أو "يندس" بين صفوفها بعض البلطجية "المسجلين" ليلوثوا "سلميتها" ببعض بصمات "العنف"!

"
واشنطن لم تكن -منذ البداية- مرحبة بالثورة المصرية، لكنها في النهاية سلمت لها باعتبارها خيارا أفضل من "الانقلاب" المباشر الذي لم تكن لتقبل به، ولا كان هناك من يمكنه أن يغامر بإطلاقه متحديا رفض واشنطن
"
واشنطن لم تكن -منذ البداية- مرحبة بالثورة المصرية، لكنها في النهاية سلمت لها باعتبارها خيارا أفضل من "الانقلاب" المباشر الذي لم تكن لتقبل به، ولا كان هناك من يمكنه أن يغامر بإطلاقه متحديا رفض واشنطن. وهي -مع النظام المصري- تريد من "الثورة" أن تكتفي بمهمة "الانقلاب"، بمعنى تغيير الأشخاص مع بقاء النظام، الذي لم يتغير فيه شيء، بدليل أن عناصره الأمنية ظلت -عمليا- مضربة عن القيام بواجباتها، حتى عادت حالة "الطوارئ" التي لا يمكنها العمل إلا في ظلها.
 
نحن -إذا- في مرحلة متقدمة من "تجهيز المسرح" لظهور "هتلر" الذي أعتقد أننا سنعرفه تفصيلا بعد أسابيع، وربما شهور، ولكن ليس أكثر من ذلك، وفي هذا السياق فإن النظام المصري، وبعد ساعات من حصوله على "عدم الممانعة" في فرض "الطوارئ" بادر من دون إبطاء إلى غلق قناة "الجزيرة مباشر مصر" في مشهد حرص مدبروه على أن يغيب عنه "الاحترام" في أدنى درجاته وحالاته!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان