المعارضة السورية والبحث عن مجلس وطني

المعارضة السورية والبحث عن مجلس وطني - الكاتب: نواف القديمي


مُنذ أن بدأت الثورة السورية في مارس/آذار 2011 والدعوات لا تتوقف لتشكيل إطار سياسي موحد يُمثّل واجهة سياسية للثورة السلمية في سوريا، وصوتاً للمُعارضة في المحافل الدولية. وكما نجحت قوى المعارضة بثورتي ليبيا واليمن في تشكيل أُطر سياسية موحدة تقود العمل الثوري, كان الضغط يتزايد على المعارضة السورية لتشكيل مثل هذا المجلس.
 
وعلى امتداد سبعة أشهر، أقامت قوى المعارضة السورية الكثير من المؤتمرات واللقاءات بهدف جمع أطياف المعارضة، وتأسيس مجلس وطني تتوحد فيه جميع فعاليات الثورة بالداخل والخارج، ويحظى بما يُشبه الإجماع. فعُقد "المؤتمر السلمي للتغيير" في أول يونيو/حزيران الماضي بأنطاليا التركية، ثم مؤتمر "الائتلاف الوطني لدعم الثورة السورية" يوم الرابع منه في بروكسل، ثم "مؤتمر الإنقاذ الوطني" يوم 16 يوليو/تموز الماضي في إسطنبول، ثم "ملتقى نشطاء الثورة السورية" يوم 27 منه بإسطنبول أيضا، ثم "ملتقى الوحدة الوطنية" يوم 10 سبتمبر/أيلول الجاري في القاهرة. ورغم هذا الزخم في المُؤتمرات والمُلتقيات فإنها فشلت في تشكيل إطار سياسي موحد يتحدث باسم الثورة السورية!
 
وفي منتصف الشهر الجاري تم عقد مؤتمريْن -إضافيين- للمعارضة السورية، أحدهما جرى في العاصمة القطرية الدوحة وعُقد الآخر في إسطنبول. وبينما لم يُفضِ لقاء الدوحة الذي وصِف بالتشاوري عن تشكيل إطار سياسي، أعلن في مؤتمر إسطنبول عن تأسيس "المجلس الوطني السوري".
 
خلال الأيام القليلة الماضية، التقيتُ في العاصمة القطرية -على هامش لقاء الدوحة التشاوري- بعضاً من قيادات المعارضة المُشاركة في هذه اللقاءات، ثم حضرتُ في إسطنبول طَرَفاً من اللقاءات التنسيقية للمشاركين، ثم المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه عن تأسيس المجلس الوطني السوري.
 
وسعياً لاستكشاف وفهم طبيعة الخلاف القائم في الرؤى والمواقف بين أطياف المعارضة السورية، سأحاول في السطور التالية أن أتحدث عن شيءٍ من مَوَاطن التباين في الأفكار والمواقف وطبيعة المشاركين بين هذين المؤتمرين: الدوحة، وإسطنبول، وبعض التحليل لمكامن القصور.
 
***

"
برزت إعلامياً في العقد الأخير عدة شخصيات معارضة للنظام السوري في الداخل والخارج، بعضها تعرّض لقمع أمني شديد وقضى سنين طويلة في السجن، بينما البعض الآخر له حضور في صفوف المعارضة
"

ببساطة يُمكن أن تلحظ أن هناك ضغطاً نفسياً واضحاً تعانيه نخب المعارضة السورية لعدم تمكنها -رغم مُضي سبعة أشهر- من توحيد الجهود، الأمر الذي دفع أطرافاً عديدة للسعي إلى تأسيس مجالس وطنية لم تستوفِ الجهد المطلوب في التشاور مع جميع القوى والشخصيات الرمزية في المعارضة السورية، خاصة وسط الحضور الواضح للخلاف الأيدولوجي بين أطياف المعارضة.

 
وابتداءً، يُمكن الحديث عن أن أبرز الكتل السياسية الفاعلة في المعارضة السورية بالداخل والخارج -منذ ما قبل الثورة- تتلخص في ثلاثة أطراف هي:
1- هيئة التنسيق الوطني التي تضُم أبرز أحزاب المعارضة في الداخل، وعدداً من الشخصيات المستقلة.
 
2- إعلان دمشق الذي تأسس في أكتوبر/تشرين الأول 2005، ويضم عدداً من أبرز شخصيات المعارضة في الداخل والخارج.
 
3- جماعة الإخوان المسلمين المُعارضة في الخارج.
 
كما برزت إعلامياً في العقد الأخير عدة شخصيات معارضة للنظام السوري في الداخل والخارج، بعضها تعرّض لقمع أمني شديد وقضى سنين طويلة في السجن، بينما البعض الآخر له حضور فكري أو حقوقي مرموق وناشط في صفوف المعارضة. ومن أبرزهم الدكتور برهان غليون، وهيثم المالح، ورياض سيف، وسهير الأتاسي، وأكرم البني، وعارف دليلة، وفداء الحوراني، والطيب تيزيني، وميشيل كيلو، وهيثم منّاع.. وسواهم من رموز المعارضة السورية.
 
اللقاء التشاوري للمعارضة السورية الذي عُقد في الدوحة استمر لمدة ثلاثة أيام، وكان هدفه بلورة أفكار مشتركة سعياً لتوحيد صفوف المعارضة، ومن ثمّ عقد مؤتمر -ربما في مكان آخر- للإعلان عن تأسيس مجلس وطني موحد. حضّر لهذه اللقاءات التشاورية ممثلون عن الكتل الرئيسية في المعارضة السورية، حيث حضر عددٌ من ممثلي الأحزاب المعارضة بالداخل والمنضوية في إطار "هيئة التنسيق الوطني" وغالبها أحزاب يسارية، في مقدمتهم أمين سر الهيئة حسن عبد العظيم. كما شارك بعضٌ من أبرز شخصيات "إعلان دمشق" المعارض، في حين حضرت جماعة الإخوان بتمثيلٍ عالٍ تمثل في مشاركة فاروق طيفور نائب أمينها العام.
 
كما حضرت لقاءات الدوحة شخصيات شهيرة في المعارضة السورية (بعضها منضمٌّ لإعلان دمشق، أو هيئة التنسيق الوطني، والبعض خارجهما) مثل برهان غليون، وميشيل كيلو، وعارف دليلة، والطيب تيزيني وسواهم، بينما لم تحضر شخصيات أخرى مثل هيثم المالح، وهيثم منّاع، ورياض سيف، وسواهم. ولكن ما بدا واضحاً أن هناك حضوراً جيداً لشخصيات سياسية تنتمي لطوائف الأقليات (علويين، مسيحيين، دروز)، مع بقاء أغلبية الحضور من الطائفة السنية. وقد انتهت اللقاءات دون التوصل إلى اتفاق أو صيغة تفاهمية بين المشاركين.
 
أما مؤتمر إسطنبول فيبدو أنه حظي بإعداد مبكر واجتماعات متوالية جاوزت الشهرين، وتوّجت هذه الجهود بالإعلان يوم 15 سبتمبر/أيلول الجاري عن تأسيس "المجلس الوطني السوري". وقد بدا واضحاً في اجتماعات إسطنبول الحضور الكثيف للإسلاميين السوريين، سواء من المنتمين لأطر وتنظيمات، أو من الشخصيات المستقلة، في مقابل حضور معقول لشخصيات ليبرالية ويسارية يشكلون قرابة 30% من المشاركين بحسب تصريح المنظمين، وحضور محدود جداً لشخصيات تنتمي للطوائف السورية الأخرى غير السنية. كما أن أغلب المشاركين هم من الشخصيات متوسطة العمر، أي من الصف الثاني في المعارضة، دون وجود أيّ من الشخصيات الشهيرة في المعارضة السورية.
 

"
منظمو المجلس الوطني السوري أن الإخوان سيسمّون ممثلهم لاحقاً, وهو ما يفتح باب التكهنات عن طبيعة موقف الجماعة من هذا المجلس، وحتى في حال مشاركتها، فهل سيتم تمثيلها بمقعد واحد فقط من بين 140 مقعداً؟!
"

أما بالنسبة لمشاركة الكتل الرئيسية في المعارضة، ففي اجتماعات إسطنبول لا وجود تمثيليا لهيئة التنسيق الوطني، أي أن أحزاب المعارضة بالداخل لم تُشارك في هذا المؤتمر. في المقابل شاركت شخصيات محدودة تنتمي لإعلان دمشق، لكنها من غير الوجوه المعروفة إعلامياً. أما جماعة الإخوان فقد حضر للاجتماعات مُمثل لهم من قيادات الصف الثاني رغم أن الأمين العام للجماعة رياض الشقفة يُقيم في إسطنبول، ومع ذلك لم يسمِّ الإخوان ممثلاً لهم في المجلس الوطني المُعلن. وقد أعلن المنظمون للمجلس أن الإخوان سيسمون ممثلهم لاحقاً، وهو أمرٌ يفتح باب التكهنات عن طبيعة موقف الجماعة من هذا المجلس، وحتى في حال مشاركتها، فهل سيتم تمثيلها بمقعد واحد فقط من بين 140 مقعداً في المجلس الوطني؟!

 
بعض منظمي مؤتمر إسطنبول شاركوا في اللقاءات التشاورية في الدوحة، وقد كانت لهم ملاحظات على هذه اللقاءات، من أبرزها أن لقاءات الدوحة لم تتبنَّ صيغة واضحة وجازمة لإسقاط النظام وإسقاط الرئيس، فرغم إقرار هؤلاء المشاركين بأنه لم يتم التطرق إطلاقاً إلى المبادرة العربية كما روّج البعض، فإنهم يقولون إن الحديث كان يتم مرة عن "التغيير الديمقراطي في سوريا"، ومرة عن "إسقاط النظام الاستبدادي الأمني"، وهي صيغة يرى البعض أنها تلمح إلى إمكانية القبول ببقاء رأس السلطة إذا ما فكك النظام الأمني، رغم تأكيد عدد من منظمي لقاءات الدوحة في تصريحات إعلامية أن إسقاط النظام هو الحد الأدنى لجميع المشاركين.
 
أيضاً، انتقد بعض منظمي مؤتمر إسطنبول لقاءات الدوحة لكون معظم حضورها من اليساريين وقيادات أحزاب المعارضة بالداخل، وأن هناك تهميشاً واضحاً للإسلاميين رغم المشاركة الفاعلة لأكبر فصيل إسلامي وهو الإخوان المسلمون.
 
من جانبهم يقول منظمو لقاءات الدوحة إن بعض من شارك فيها -من مجموعة إسطنبول- ورغم اتفاق الجميع على مبدأ إسقاط النظام، يريدون وضع صيغ تتضمن مزايدات في التشدد بالمطالبة بإسقاط الرئيس والنظام، دون مراعاة لكون كثير من المشاركين من الشخصيات المُعارِضة في الداخل الذين سيعودون إلى سوريا فور فراغهم من هذه اللقاءات، وهو الأمر الذي قد يشكّل خطراً بالغاً عليهم.
 
وفي الوقت ذاته فإن مشاركة معارضي الداخل في أي مجلس وطني هو الركيزة الأهم لإعطاء شرعية لهذا المجلس، بدل الاكتفاء بمشاركة معارضين في الخارج ليس لهم علاقة مباشرة بما يجري على الأرض، ولا يتحملون أي تبعات أمنية.
 
أيضاً، ينتقد بعض منظمي لقاءات الدوحة ما جرى في مؤتمر إسطنبول بكونه همّش مشاركة أهم الكتل السياسية في المعارضة وأكثرها حضوراً على الأرض (هيئة التنسيق الوطني، وإعلان دمشق، وجماعة الإخوان)، إضافة إلى تجاهل كثير من رموز النضال السياسي والحقوقي المعارض للنظام السوري -ممن ذكرت بعض أسمائهم- وتهميش مشاركة الطوائف الأخرى -غير السنية- التي هي بحاجة إلى كثير من التطمينات حول وضعها في مرحلة ما بعد إسقاط النظام.
 

"
مشاركة معارضي الداخل في أي مجلس وطني هو الركيزة الأهم لإعطاء شرعية لهذا المجلس، بدل الاكتفاء بمشاركة معارضين في الخارج ليس لهم علاقة مباشرة بما يجري على الأرض
"

قبيل الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري ظهيرة يوم الخميس 15 سبتمبر/أيلول الجاري، دار حديث عن اتصالات أجراها برهان غليون الليلة الماضية بالمجموعة المنظمة لمؤتمر إسطنبول، يطلب منهم تأجيل إعلان المجلس الوطني سعياً لإيجاد صيغة توافقية، بل وقرر القدوم من باريس إلى إسطنبول صباح الخميس من أجل الحوار المباشر مع منظمي المؤتمر بهدف إيجاد حل. ولكنه فور وصوله إلى المطار سمع بقرار منظمي المؤتمر بأن الوقت تأخر كثيراً لعقد مثل هذا الحوار، وأنه جرت عدة تأجيلات سابقة لإعلان المجلس الوطني، لذلك لا تأجيل لموعد هذا الإعلان، فقفل راجعاً من فوره إلى باريس.

 
ورغم أن المجموعتين أعلنتا أنهما يرفضان التدخل العسكري الأجنبي، فإن لقاءات الدوحة كانت أكثر صرامة في التعبير عن هذا الأمر، حيث وضعته واحداً من لاءاتها الثلاث (لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الأجنبي)، وأنها تريد حلاً عربياً بمشاركة تركية، في حين لم يضع منظمو مؤتمر إسطنبول في إعلانهم أي بنود تؤكد الرفض الصارم لهذا التدخل، واكتفى بعضهم بتأكيد هذا الرفض عبر تصريحات إعلامية.
 
***
حاولتُ في السطور السابقة إجراء توصيف للأفكار والمواقف والتشكيلات الرئيسية لكل من لقاءات الدوحة ومؤتمر إسطنبول، دون تدخل في إبداء وجهة نظر شخصية تجاه أيٍّ من المجموعتين. ورغم أن هناك تفاصيل عديدة تستحق التعليق والمناقشة وإبداء الملاحظات، فإنني سأكتفي بإبداء رأيي باقتضابٍ تجاه أفكار رئيسية تخص هذين المؤتمرين.
 
وبالطبع لستُ بحاجة إلى التأكيد على الضرورة القصوى لتشكيل مجلس موحد للمعارضة السورية، كي يكون واجهة سياسية للثورة في المحافل الدولية، وبوصلة توجيه للحراك الثوري في الداخل. لكن برأيي أن من الخطأ محاولة تشكيل المجلس الوطني وفق منطق "المُحاصّة" والتفتيش عن "نسب التمثيل"، أي أنه ليس مطلوباً من المجلس الوطني أن يكون "أكثر تمثيلاً لحضور الأيدولوجيات ونسب الطوائف"، بقدر ما أن المطلوب والملح هو أن يكون "أكثر قدرة على خدمة مسيرة الثورة السورية، وعلى تبديد المخاوف التي قد ترد تجاه بعض التيارات أو عند بعض الطوائف".
 
لذلك برأيي يجب أن يتضمن المجلس الوطني التالي:
1- أكبر قدر من التطمينات للطوائف الأخرى -والعلوية تحديداً- كي تتخلص من هواجس أنها قد تتعرض للقمع والتضييق في حال نجاح الثورة، خاصة مع كثير من الكلام المُثار حول موضوع مصير الأقليات والطوائف، الأمر الذي جعل رأس الكنيسة المارونية البطريرك بشارة الراعي يتحدث بوضوح عن مخاوف المسيحيين في سوريا والشرق، وأن نظام بشار الأسد أكثر ضمانة للمسيحيين. وهذه المخاوف تستدعي من القائمين على مؤتمرات المعارضة مزيداً من الحرص على زيادة تمثيل الأقليات في أي مجلس وطني سوري.
 
2- أكبر مشاركة للمعارضة في الداخل التي تخوض تجربة نضالية صعبة أمام قمع السلطة، سواء كتل المعارضة السابقة للثورة (هيئة التنسيق الوطني، وإعلان دمشق)، أو قيادة التنسيقيات التي تشكلت بعد الثورة.
 
3- التركيز على كثافة مشاركة الشخصيات النضالية المشهورة والمقبولة دولياً، سعياً لتسهيل مهمة مساندة المجتمع الدولي وضغطه على النظام السوري، وهو ما يعني عدم طغيان مشاركة الإسلاميين -حتى لو كانوا هم الأكثر على الأرض- من أجل عدم إثارة مخاوف المجتمع الدولي، خاصة أننا أمام تجربة مشابهة حين تردد الكونغرس الأميركي كثيراً في دعم الثورة الليبية بعد الحديث عن مشاركة الإسلاميين. فحضور الإسلاميين في مرحلة ما بعد الثورة سيحسمه صندوق الاقتراع، والمطلوب الآن هو القبول بكل ما من شأنه تسهيل مهمة الثورة لا الصراع على نسب التمثيل.
 

"
الأفضل عدم غلق الفضاء أمام أيّ من الاحتمالات (التدخل العسكري) التي قد لا تنسجم مع المبادئ، ولكنها قد تأتي في إطار الضرورة القصوى، وتكون بمثابة حائط صد أخير "

4- أهمية وضوح الهدف من تشكيل مجلس وطني وعدم وضع صِيغ قد تفتح مساحة للتأويل والجدل، خاصة أن جماهير المعارضة في الداخل -وهي من تتحمل التبعة الأمنية- تطالب بوضوح بإسقاط الرئيس وكامل النظام.

 
5- عدم الغلق الكامل والمغلظ لفكرة التدخل الدولي، فمسار الثورة السورية ومستقبلها أمرٌ لا يمكن التنبؤ به، ونَهَم السلطة في سفك الدماء لا أحد يعلم متى سيقف. ورغم أمنيات الجميع بعدم تكرار سيناريو الثورة الليبية، فإن احتمالية حدوث شيء مُشابه واستفحال حالة القتل والقمع الأمني أمر لا يُمكن استبعاده تماماً.
 
لذلك فالأفضل عدم غلق الفضاء أمام أيٍ من الاحتمالات التي قد لا تنسجم مع "المبادئ"، ولكنها قد تأتي في إطار "الضرورة القصوى"، وتكون بمثابة حائط صد أخير أمام ارتكاب مجازر مروّعة -لا سمح الله- تماماً كما حصل في الثورة الليبية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.