العلمانية واللائكية والإسلام.. رفعا للالتباس
العلمانية كمسار لتحول مجتمعي تلقائي
وجب التنبيه في البداية أن الكلمة العربية المستعملة، وهي العَلْمانية، لا علاقة لها بلفظ العلم بل هي اشتقاق من كلمة العَالَمْ. وهي ترجمة خاطئة للكلمة الفرنسية والإنجليزية (sécularisation) المشتقة من الكلمة اللاتينية saeculum ومعناها الجيل أو القرن أي الأشياء المرتبطة بالعالم البشري وبالزمن الأرضي.
" ولسن: العلمنة هي مسار يؤدي إلى فقدان المؤسسات والأفكار والممارسات الدينية لمعناها الاجتماعي. ويضيف أنها ناتجة عن عقلنة المؤسسات والتنظيمات الحديثة " |
فالكلمة الأقرب في المجال اللغوي العربي، إذا أردنا اشتقاق المفهوم، هي كلمة الزمن أو الدنيا وتكون العلمانية بذلك زَمْنَنَة. ومثلها موجود في لغات أخرى غير العربية واللاتينية. ذلك أن تفاعل وتعارض البشري النسبي مع المطلق الديني والمقدس عرفته كل الثقافات التي تطورت فيها التصورات والتعبيرات الحضارية منذ القدم.
تاريخيا، استعملت الكلمة الفرنسية والإنجليزية للدلالة على انتقال ملكيات المؤسسة الكنسية، في بعض الحالات، إلى أشخاص أو إلى مؤسسات دنيوية وزمنية وخاصة بعد الحروب الدينية خلال القرن السادس عشر والإصلاحات التي تبعتها.
1- تطور أنماط التمثل الجماعي باتجاه الاستقلالية عن الدين. مثال ذلك تنامي الشعور بالانتماء للوطن والذي يؤشر إلى تحول من نظام قاعدته المجموعة الدينية (مثل الأمة الإسلامية) إلى نظام قاعدته المجموعة الاجتماعية.
من المهم إذن الحديث عن العلمنة كمسار لتطور مجتمعي تلقائي أكثر من الحديث عن العلمانية كموقف أيديولوجي أو سياسي وخاصة في الحالة الفرنسية كما سنرى.
" القول بأن الفصل بين الديني والدنيوي واضح في الحالة المسيحية قول خاطئ, فنحن لا نجد هذا الفصل لدى أول منظري المسيحية وهو سانت أوغوستان بين القرنين الرابع والخامس ميلادي " |
في الفضاء الياباني المختلف عن الغرب من حيث الثقافة والدين دليل آخر على عالمية وكونية العلمنة. إذ يطلق لفظ سيزوكوكا (sezokuka) للدلالة عن العلمنة التي بدأ يشهدها المجتمع الياباني منذ القرن السابع عشر وذلك بتأكد نفوذ طبقة المحاربين الشوغون وبتراجع المؤسسات والرموز المرتبطة بالبوذية. كما شجعت طبقة السموراي الثقافة الكونفوشيوسية التي اعتبرتها أكثر علمنة من البوذية. وقد دخلت العلمنة مرحلة حاسمة في هذا البلد مع إصلاحات الميجي منذ سنة 1867.
قد يكون مفهوم العلمنة مستوردا إذن، لكن الحالة التاريخية والمجتمعية التي يعبر عنها غير مرتبطة فقط بالغرب. هناك تطور عام من مرحلة الأديان باعتبارها أنظمة كلية إلى مرحلة من النسبية التي تتقاسم فيها الثقافة الدينية تأثيرها الاجتماعي مع أنماط أخرى من التمثل والوعي.
أما القول بأن الفصل بين الديني والدنيوي واضح في الحالة المسيحية فهو خاطئ، وهو تفسير متأخر حاول التمشي مع التطورات الحداثية التي شهدتها أوروبا. فنحن لا نجد هذا الفصل لدى أول منظري المسيحية وهو سانت أوغوستان بين القرنين الرابع والخامس ميلادي.
اللائكية والخصوصية الفرنسية
إن ارتبطت العلمنة بالمجتمع وتمثلت في حركة تطورية تلقائية تتجاوز حدود الثقافات فإن اللائكية حالة فرنسية بامتياز وارتبطت بمؤسسة الدولة وتحييدها القانوني عن تأثير المؤسسة الدينية. فاللائكية تعني الفصل القانوني بين المؤسسة الدينية والدولة كما أقره قانون سنة 1905. لكن هذا الفصل لا يعني إلغاء الدين بل عدم تدخل الدولة في المجال الديني.
اللائكية إذن حالة قانونية تهم الدولة وهي مبنية على الصراع، أما العلمنة فحركة داخلية عفوية تاريخية تهم المجتمع. لهذا السبب لا نجد في اللغة الفرنسية مرادفا لكلمة علماني أو علمانية. لا وجود لذلك الشخص الذي يتبنى العلمنة كموقف أيديولوجي أو سياسي. العلمنة إذن ليست موقفا سياسيا أو أيديولوجيا على عكس اللائكية. كما أن اللائكية هي تتويج جذري ونهائي لمسار العلمنة الذي شهده الواقع الفرنسي.
" اللائكية حالة قانونية تهم الدولة وهي مبنية على الصراع, أما العلمنة فحركة داخلية عفوية تاريخية تهم المجتمع, لهذا السبب لا نجد في اللغة الفرنسية مرادفا لكلمة علماني أو علمانية " |
لم تشهد بريطانيا ذلك الجدل الفرنسي بين اللائكيين خاصة من المفكرين ومن رجال التعليم، ورجال الدين، بل كانت العلمنة كمسار تطوري هي العامل الحاسم خاصة وقد تمثلت في موقف سياسي ونظرة فكرية للواقع. نفس هذا التطور شهدته اليابان حيث تعد العلمانية موقفا سياسيا وفكريا.
الإسلام في خضم العلمانية واللائكية
النقاش حول الإسلام مرتبط في بادئ الأمر بالاعتراف بوجود علاقة عمودية وبالبعدين الزمني النسبي والإلهي المطلق في الإسلام كما في التقاليد الدينية الأخرى. فلا نستغرب بالتالي تنقل بعض الوظائف الاجتماعية بين فضائي الأرضي البشري والإلهي كما بينا ذلك في بعض الثقافات الأخرى.
ونجد في تاريخ الإسلام عديد الشواهد على ذلك. فحسب سيرة ابن إسحاق، نجد أن المعاهدة الأولى التي تمت بين المهاجرين والأنصار وسائر مكونات مجتمع يثرب بعد الهجرة اعتمدت على مفهوم سياسي مفتوح للأمة أدمجت بمقتضاه قبائل يهودية في هذه الأمة الناشئة. أي أن أسس الأمة في هذه الحالة هي سياسية وليست دينية.
التمييز بين السلطة الدينية والسلطة السياسية واضح في التاريخ الإسلامي وذلك من خلال نموذجي الخليفة والسلطان. فالخلافة هي مؤسسة الحكم الديني بامتياز باعتبار استنادها على شرعية خلافة النبوة في بعدها السياسي والأخلاقي.
نجد آثارا للعلمنة باعتبارها مسارا لعقلنة التصرف الاجتماعي حتى في الفقه. فقاعدة الضرورات تبيح المحظورات تدخل ضمن منطق العلمنة. بما تعنيه في هذه الحالة من أولوية الضرورة البشرية على المحظور الديني.
أما فيما يتعلق بالمعرفة المٌعَلمنة، والتي يدعي البعض أننا استوردناها من الغرب، فنجد في آثار العلامة ابن خلدون مثالا حيا على عقلنة هذا الجانب. مؤسس علم التاريخ وعلم الاجتماع بامتياز، يضع عامل العصبية، أي العامل البشري، في مرتبة المحدد الفاصل لتطور المجتمع عوض عامل الإيمان والعقيدة.
" مسار العلمنة تسارع في العالم العربي والإسلامي خلال القرن التاسع عشر ليس فرضا من طرف القوى الاستعمارية دائما، بل بسب ما بدا من عجز للهياكل التقليدية في مواكبة تطورات العصر " |
الواقع أن مسار العلمنة قد تسارع في العالم العربي والإسلامي خلال القرن التاسع عشر ليس فرضا من طرف القوى الاستعمارية دائما، بل بسب ما بدا من عجز للهياكل التقليدية في مواكبة تطورات العصر. لذلك كان التعليم من بين أول المجالات التي تمت علمنتها من خلال مدارس جديدة في مصر محمد علي وفي تونس مع مدرسة باردو الحربية والمدرسة الخلدونية والصادقية.
المشكل في العمق إذن ليس في المواجهة المفتعلة بين الإسلام والعلمنة، لأن الإسلام كتجربة تاريخية يبقى مفتوحا أمام إبداعات المسلمين كفاعلين تاريخيين. بل إن التعارض الحاصل اليوم هو بين قراءة انتقائية ومغلقة للإسلام، وبين مسار التطور الموضوعي للمجتمعات الإسلامية.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.