الثورة أم الحرب في بلاد الشام

اسم الكاتب: هيثم مناع



كلما اشتدت وطأة الضربة الأمنية العسكرية على الحركة المدنية الاجتماعية السلمية في سوريا، يعود السؤال عن المواجهة العسكرية بين القامع والمقموع إلى السطح.

 

سألت العديد من الشباب في مدينة القصرين التونسية: لماذا دافعتم عن سلمية الثورة؟ أجاب أكبرهم عمرا "ماذا جنت الجزائر من القتال؟ وهل لدينا من الإمكانيات ما يسمح بتحطيم الثروتين الإنسانية والطبيعية؟".

 

وأجاب أصغرهم "حرب العراق والحرب على الإرهاب جعلتنا نكره كل حرب.. لا نريد الموت حبا في الموت، لا نريد القتل مهما كانت الغاية من القتل، لا يوجد قتل، توجد جريمة قتل".

 

الشباب الذين صرخوا "سلمية" في درعا جنوبي سوريا رفضوا أي صيغة عنيفة بما في ذلك عنف الكلمات، والذين كتبوا على جدران العمري "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"، الذين قالوا في داريا "سلمية سلمية لو قتلوا كل يوم مية"، الذين هتفوا في دوما "إن لجأت للسلاح فلديهم الكثير منه" وحملوا لافتة في حمص عليها "المستبد يقتل والحر يصنع الحياة".. هؤلاء هم من وضع الأسس الصلبة لانتفاضة الكرامة، الأسس الرافضة للعنف والطائفية والتدخل الأجنبي، الأسس التي تعتبر البناء المدني الديمقراطي الأمل الوحيد للقضاء على الدكتاتورية.

 

"
لعل ما يحدث في سوريا اليوم يشكل الاختبار الأكبر للحركة الثورية العربية برمتها، هل بالإمكان تحجيم قانون نيوتن القائل بأن لكل فعل رد فعل مساويا له في القوة ومعاكسا له في الاتجاه، عبر النضال الواعي الناضج القادر على هزيمة قرار السلطة الأمنية جعل الحرب إستراتيجية المواجهة لها
"

مثلت الدكتاتورية السلطة السوداء بكل المعاني، لإنتاجها الواسع للانسداد والاستعصاء الذهني في حياة المجتمعات باعتبارها مادة إلغاء للمبادرة والحوار والتشارك والتفاعل والتضامن والتعارف في حياة الجماعة.

 

وقد تضخمت أضرارها منذ أضيف إلى مبرراتها القديمة كالحرب والكوارث والأزمات، سلاح الدفاع عن أيدولوجية محددة.

 

لم تعد الدكتاتورية مذاك شكلا صفيقا لممارسة العسف، فقد ألبست الشعارات الممارسات الدكتاتورية ثوبا مزركشا يضع على ظهر كل ضحية للتعذيب أو القتل أو التنكيل بطاقة كتب عليها "خائن، كافر، مرتد، عميل، متآمر..". ورغم كل أجهزة الدعاية الضرورية لاستمرارها، لا يمكن للدكتاتورية الاستمرار طويلا إلا بمنطق الظروف الاستثنائية والحرب.

 

لم يكن من الغريب أن يكون أول محركي آلة الحرب في وجه الحركة الثورية العربية معمر القذافي، فقد جمع من بين أقرانه كل صفات الدكتاتور المعاصر، القائد الزعيم المفكر والمنظر لبلده والإنسانية.

 

وقد كان لحالة الاغتيال المدني والفقر السياسي الهائل التي خلقها ما جعل الانزياح نحو الحرب قدرا سريع التحقق في ظروف الدفاع عن البقاء لمن ثار على سلطته.

 

أما في اليمن، فرغم حرب صعدة، ووجود السلاح في كل منزل، وتوجه تنظيم القاعدة من كامل أصقاع الجزيرة العربية إلى جنوبها، فإن التيار الأقوى في الحراك اليمني ما زال يعتقد بفضائل التحول السلمي ويخشى مخاطر الانزلاق إلى الحرب.

 

في سوريا، رغم إلغاء معظم أشكال الوساطة السلمية بين السلطة التسلطية والمجتمع في الأربعين عاما الأخيرة، فشلت السلطة التسلطية الأمنية في بناء حاضنة اجتماعية للعنف تسمح برد فعلٍ تلقائي على اعتداءاتها المتوحشة على المواطنين.

 

ولعل ما يحدث في سوريا اليوم يشكل الاختبار الأكبر للحركة الثورية العربية برمتها: هل يمكن تحجيم قانون نيوتن القائل بأن لكل فعل رد فعل مساويا له في القوة ومعاكسا له في الاتجاه، عبر النضال الواعي الناضج القادر على هزيمة قرار السلطة الأمنية جعل الحرب إستراتيجية المواجهة لها مع الحركة المدنية للتغيير في سوريا؟

 

منذ دخول القوات الخاصة إلى درعا بعد شهر ونيف من انتفاضة الكرامة، اتضح للقاصي والداني أن سياسة السلطة في مواجهة المجتمع تقوم على فكرة الحرب التقليدية و/أو الأهلية.

 

لذا فهي تعتمد منطق الحرب وأساليبها، الكذب والخداع وشل قدرات العدو وقتل كوادره الواعية أو اعتقالها وشيطنته وتزوير الأحداث والصور وإثارة العصبيات العضوية والنزعات الغرائزية عند المتقاتلين وحرمان المواطن من الطمأنينة بربط أمنه بأمن السلطة التي ثار عليها..

 

ومن أهم وسائل الحرب، القدرة على جر الطرف الآخر إلى منطق الحرب، بحيث يتسرب خطاب الخداع والكذب والمبالغة وثنائية الخير والشر إلى خطاب الثوار أو الإعلام الذي يعبر عن طموحاتهم. ويسود في الفضاء الإعلامي كل ما يعطي الأفضلية للتمثيل على الواقع والنسخة على الأصل والظاهر على الكائن..

 

هنا يسقط المقموع وإعلامه في فخ القامع، وتنتهي مهمة المعرفة الإعلامية، وينغمس الجميع في عملية خداع عامة تسمح باستمرار التسلط مع تغيير تماثيله وأصنامه.

 

من نافلة القول إن كل من يؤثر الحرب على الثورة والدعاية على التأمل والتعبئة على استعادة الوعي، يشارك -بإدراك أو بدونه- في استمرار الدكتاتورية.

 

فالدكتاتورية ليست بن علي أو مبارك أو القذافي أو الأسد أو صالح.. إلخ، وإنما هي منظومة تفرز ممثليها وتضغط من أجل جعل خياراتها خيارات شعبية بالرضا أو بالإكراه.

 

كل الانقلابات العسكرية تبدأ بإعلان حالة الطوارئ في البلاغ الأول لأن منطقها يقوم على إلغاء الشرعية الشعبية، وكل تغييرات القشرة تحرص على أن يعاد إنتاج النظام القديم بأقل الخسائر لكل من يستفيد من المنظومة السائدة.

 

هل تحتمل الأوضاع العربية ثورة ديمقراطية مدنية ناجحة؟ وهل لهذه الثورة حلفاء وأنصار؟

 

"
الحرب هي الوسيلة الأفضل لحصر التغيير في القشرة، وهي العدو الأكبر للثورة، كمشروع مواجهة مباشرة مع قوى التكييف وقوة الرياء والإنسان المزيف والموظف في خدمة سلطة قمع القدرات والمبادرات
"

الثورات كالأرواح في الحديث الشريف جنود مجندة، ما توافق منها ائتلف وما تنافر منها اختلف.. من هنا تقتبس الشعوب من تجارب الشعوب وتغتني بها..

 

الثورة تعثر على بصماتها عند من خاض الصراع نفسه من أجل الحرية، ولا يمكن ولا يجوز لثوارها اختزال تجربة أو بلد بموقف حكامه.

 

توقفتُ كثيرا عند مدى استيعاب بعض مبادرات العالم الافتراضي، كتلك المتعلقة بنداءات المقاطعة من شباب سوريين لدول مثل جنوب أفريقيا والهند والبرازيل وفنزويلا.. كيف يمكن أن نتحدث عن استيعاب عندهم لمعنى الثورة؟ هل يمكن القول إن حكومات مغرقة في الظلم لشعوب أخرى يمكن أن تكون قدوة للتحرر في سوريا مثلا؟

 

عندما تختزل العلاقة بالدول ووسائل الإعلام والأشخاص بموقف أو بتصريح، هل يمكن الرد بالقول "الشباب دائما على حق" و"كن ضد السلطة وقل ما تريد"؟

 

عندما يتم تجييش جماعات غير قليلة في حرب مذهبية لا ناقة للشعب السوري فيها ولا جمل، وعندما يراد لثورة شعبية أن تقوم بحرب بالوكالة على هذا القطب الإقليمي أو ذاك، ألسنا بصدد الانزلاق من الثورة إلى منطق الحرب الذي تريد السلطة الأمنية أن نسقط فيه؟

 

عندما تتوقف عملية إنتاج التصورات السياسية لحقبة الانتقال، وتصبح عملية العنف اللفظي عملة رائجة في الشارع، وتبدأ عملية هضم التسلح بفوج الضباط الأحرار حينا والدفاع الذاتي عن النفس أحيانا أخرى، هل يمكن المحافظة على الطابع السلمي المدني للثورة أم أن الأمور قد تفلت من عقالها؟

 

هذه أمثلة بسيطة لما يمكن تسميته سقوط الضحية في منطق جلادها، ومساهمتها بالتالي في إطالة عمره، لكونها تتوقف عن دورها الطبيعي كقوة جاذبة للأغلبية الأهم في المجتمع، أغلبية أهل المواطنة.

 

في الحرب يكون كلا الطرفين على حق، فالحرب في المنظار الذاتي دائما مقدسة، والآخر لا يمكن إلا أن ينتسب للمدنس.

 

الحرب تقضي على محاولات الثورة تمزيق الأخلاق الاستبدادية والسلوكيات المنقوعة في الفساد وخطاب الأمانة والشفافية والصدق.. الحرب هي الوسيلة الأفضل لحصر التغيير في القشرة، وهي العدو الأكبر للثورة، كمشروع مواجهة مباشرة مع قوى التكييف وقوة الرياء والإنسان المزيف والموظف في خدمة سلطة قمع القدرات والمبادرات..

 

لا يمكن لاغتيال الثورة في منطق الحرب أن يتم دون تضافر كل قوى الارتداد، أي الهزيمة المؤقتة للثورة لحساب الخطاب الدعائي الذي يصبو إلى إرجاع القليل من الحياة لأساطير تلفظ آخر أنفاسها.

 

في الحرب، تلاحق الدكتاتورية أكثر العقول ذكاء والنفوس إباء لكي تبعدها عن الجموع الثائرة كي لا تكون نبراسها الدينامي والكارزمي. الحرب لا تتعدى بمنطقها زراعة الفجل، في حين تقوم الثورة بزراعة النخل.. الحرب قد تكون خاطفة، أما الثورة فالزمن فيها مادة إنضاج وعطاء وخصب، وروح المتابعة مدرسة متكاملة لمجتمع جديد.

 

رغم الاختلاف الجوهري بين الحرب والثورة، تبقى التخوم في عدة أوضاع واهية على أرض الواقع. ويمكن القول إن البروباغندا تشكل المصعد والعتلة التي تعمل على انزياح حالة البشر المطالبة بالحرية إلى تجييش فارغ أرعن يُختزل في الغيظ والحقد الدفين العميق والنوازع الغريزية..

 

"
لا يمكن الخروج من التصحر السياسي والفساد الاقتصادي والتحلل الاجتماعي والتراجع الثقافي دون هزة أرضية وجدانية تمس العقول والقلوب ولا تقبل بأقل من القطيعة مع الماضي أساسا لبناء الحاضر والمستقبل
"

هذا التوجه يقتل إبداعات الثورة في أتون أيدولوجيات ظلامية مسبقة الصنع تعطي الطمأنينة لكل ما يتعلق بالموت، وتقتل الاكتشاف والقدرة على الرد الإبداعي على الأوضاع في مسار خطير اسمه التسيير العقائدي الآلي.

 

لا يوجد بين المرشحين المحتملين لدفع ضريبة الحرب المالية طرف ديمقراطي واحد، فكلهم ينتمون لمعسكر العالم القديم والقيم القديمة والنظم البالية في تسلطها وتخلفها.

 

كما أنه لم يكن في المجتمع السوري عشية انتفاضة الكرامة حاضنة للعنف، فقد بدأنا نسمع خطابا كهذا من حزب المستعجلين خارج البلاد، المتأثرين بالنموذج الليبي الذي لم يعد بعد 25 ألف قتيل يشكل مصدر إلهام لأحد من المحيط إلى الخليج.

 

لذا وكما نلاحظ في المتابعة المجهرية لكل من يتحدث في الرد العنيف على جريمة العنف السلطوية، غياب وضوح الرؤية السياسية بل وأي منطلقات إستراتيجية لتغيير ديمقراطي، ولعلهم يشكلون الطرف الأكثر استجابة لمشهد الضرورة الإعلامية القائم على التجييش.. تجييش صار يسبق في أيامنا ليس فقط الخطاب المدني والسياسي بل أيضا الواقع ومتطلباته الفعلية.

 

وليس من الغريب أن نسمع في منطق العديد منهم استحضارا لعقلية الحقد والثأر والانتقام إن كانوا وراء الحدود أو داخلها، وهم بالأمثلة التي قدموها للقتل -على قلتها- لا يختلفون كثيرا عن أخلاق الدكتاتورية التي أنجبتهم في رحم التسلط الذي ينتزع الأنسنة من أي صراع مسلح بين مكونات المجتمع الواحد..

 

ورغم أن احتمالات الحرب في صدر الثورة ما زالت لا تقل عن احتمالات انتصار الثورة على الحرب، فلن يكون تأريخ نقاط الاتصال والانفصال بين الحرب والثورة ممكنا، بسبب العنف المنهجي للدكتاتورية والنفاق الجماعي عند من يريد مناهضتها بوسائل غير سلمية.

 

ليس من الممكن أن يتعامل إنسان صاحب ضمير مع ما حدث في حماة ودير الزور وريف دمشق ومحافظة درعا ومحافظة حمص وإدلب ومدن الساحل بدم بارد ورضوخ مستسلم لقدرٍ لا يعفي منه حذر، لكن تراجيديا الثورة تكمن في أن يدفع جيل أثمانا باهظة من أجل حرية وكرامة أجيال، وأن يحتفظ الثوار بقدر عال من المسؤولية ينصّبهم موضوعيا لتشكيل صمام أمان المستقبل، باعتبار أن الوطن يستعين بهم ولا يستعينون عليه.

 

لا يمكن الخروج من التصحر السياسي والفساد الاقتصادي والتحلل الاجتماعي والتراجع الثقافي دون هزة أرضية وجدانية تمس العقول والقلوب ولا تقبل بأقل من القطيعة مع الماضي أساسا لبناء الحاضر والمستقبل.

 

الثورة في وضع كهذا تنتمي لإنسانية النحن، هي فعل التجاوز للعلاقات العضوية والعصبية والترجمة اليومية لمواطنية الأشخاص وسيادة الدولة. ولا يمكن لأي ثورة معاصرة أن تستحق اسمها عندما تلجأ إلى الإلغاء الضمني لأهم أركان مشاريع الحداثة المعاصرة غير المنجزة.

 

الثورة هي طموح إعادة بناء إنسان التنوير في الحقبة المعاشة، هي النهضة للأمة والنهوض للإنسان والبناء الأرقى للمؤسسات القادرة على ترجمة علاقة متقدمة بين الشخص والمجتمع والدولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.