خريف النخب في الربيع العربي

خريف النخب في الربيع العربي


 
 
لم تكن الغالبية الساحقة من النخب العربية قادرة على توقع الانفجار الشعبي الذي بدأ في تونس وامتد إلى أكثر من قُطْر عربي، فأقصى ما كان يدور حوله حديث هذه النخب في مسألة التغيير السياسي يتمثل في الصراع بين أجنحة الحكم في البلدان العربية واحتمالات التوريث التي كانت تلوح في الأفق في أغلب الجمهوريات، لذلك برز الفعل الاحتجاجي العربي كتعبير عن تطلعات الجماهير المحرومة والمكبوتة بعيداً عن تنظير النخب التي لم تتمكن من فهم حراك الجمهور ولا من مواكبته بالشكل المطلوب.

 
لا تختزل أزمة النخب العربية في عدم فهمها لحركة الجماهير وفشلها في صنع هذه الحركة وقيادتها، بل تتجاوز ذلك إلى دخول كثير من النخب في عداءٍ مع الحالة الثورية العربية لأسباب ودوافع مختلفة، فقد وضعت اللحظة التاريخية المتمثلة بحركة الجماهير العربية غير المسبوقة منذ عقود كل النخب أمام امتحان عسير لمبادئهم ومنطلقاتهم الفكرية والإنسانية، وسقط كثيرون في هذا الامتحان مع انكشاف تناقضات خطابهم مع مواقفهم، وصار الحديث عن سقوط النخب يتردد كثيراً في هذا الزمن العربي المختلف.
 
عزلة المثقف

"
كنتيجة طبيعية للعزلة وغياب التواصل بين النخب والجمهور لم تكن النخب قادرةً على استيعاب الخطاب الثوري للجماهير المحتجة في الشوارع والميادين العربية
"

لأزمة النخب العربية في أجواء الثورات أوجه متعددة، بعضها يمتد إلى ما قبل الربيع العربي، وهنا تحديداً يمكن الحديث عن غياب التواصل بين المثقف العربي والجمهور، وانعزال المثقف وانشغاله بمعارك خارج الاهتمام العام للجمهور، وعدم قدرته على إقناع الجمهور بأفكاره وأطروحاته.

 
فشلت النخب العربية في تلمس الهموم المعيشية للمواطن العربي، واكتفت بالتنظير غير المفهوم في كثير من الأحيان، ولم تتمكن من بناء خطاب قوي متماسك يشكل بديلاً لخطاب السلطة، وغابت عن الفعل الثقافي والسياسي مكتفية برد الفعل في أحسن الأحوال، وفشلت في تقديم نقد جاد لممارسات السلطة يتم استيعابه جماهيرياً، بل إن كثيراً من هذه النخب أحجم عن نقد السلطة وهرب باتجاه الإغراق في العموميات أو في الترف الفكري الذي لا يتصل أبداً بواقع الحال في البلدان العربية، مدفوعاً بحالة إحباط شديد من الواقع ويأسٍ من تغييره.
 
خطاب الأبراج العاجية أنتج غياب النخب عن صناعة حالات الاحتجاج التي تحولت إلى ثورات شعبية شاملة، وكنتيجة طبيعية للعزلة وغياب التواصل بين النخب والجمهور لم تكن النخب قادرةً على استيعاب الخطاب الثوري للجماهير المحتجة في الشوارع والميادين العربية، وبدا أن هناك لغتين مختلفتين لا يلتقيان في معظم الأحيان، وأن رد النخب على حراك الشارع شابهَ إلى حد ما رد السلطة من حيث المفاجأة وبطء الاستيعاب.
 
لعل أبرز مثال يوضح عدم استيعاب النخب لحركة الشارع هو "لجنة الحكماء" التي تشكلت من مجموعة من الرموز النخبوية المصرية إبان ثورة 25 يناير، خرجت اللجنة بمجموعة من المقترحات التي تعبر عن رؤيتها لحل الأزمة في مصر، وكانت المقترحات تعبيراً عن توجس لدى مجموعة المثقفين مما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في مصر إن استمر اعتصام التحرير، لكن الأهم أنها عبرت عن رؤية المثقفين للحالة الثورية في التحرير بوصفها احتجاجاً شعبياً يمكنه تحقيق إصلاحات في النظام السياسي عبر هذه المقترحات، لا ثورة شعبية شاملة تطالب بإسقاط النظام السياسي القائم تماماً وإحلال نظام سياسي آخر مكانه بعقد اجتماعي جديد.
 
لذلك كان المشهد مساء الرابع من فبراير/شباط الماضي في ميدان التحرير معبراً عن طبيعة الاختلاف بين اللغتين، فقوبلت مقترحات الحكماء بصيحات الاستهجان وترداد الشعارات الثورية بشأن سقوط النظام ورحيل مبارك، وسقطت محاولة النخب للاستيعاب أمام حالة ثورة على كل اللغة القديمة.
 
الانحياز للسلطة
يمكن الخوض في حديث طويل عن مثقفي السلطة من مروجي سياساتها ومُجَمِّلي استبدادها، وهؤلاء موظفون يؤدون المطلوب منهم مقابل الحصول على بعض المكاسب الشخصية هنا وهناك، لكن الأهم في قضية انحياز بعض النخب إلى السلطة الذي يجب تسليط الضوء عليه هو اختيار بعض النخب المستقلة أو غير المحسوبة على السلطة بالكامل –وخاصة بعض النخب العلمانية والليبرالية- الانحياز لها في وجه المطالب الشعبية بدافع الخوف من القادم المجهول، وتصفية الحسابات مع الخصوم الفكريين والسياسيين.
 
إن أحد أهم أوجه سقوط بعض النخب العلمانية والليبرالية في امتحان الثورة والحرية العربي الحالي، يكمن في انجرافها وراء سياسات التخويف التي اتبعتها الأنظمة الاستبدادية لتثبيت سلطتها ونفوذها، وهي سياسات قامت على تخويف العلمانيين من الإسلاميين والعكس لتضمن بقاءها قادرة على التحكم والسيطرة في ظل انشغال الجميع بالصراعات التيَّارِية الصغيرة وتشبثهم بالسلطة كمرجعية تحميهم من بعضهم.
 

"
بسبب جماهيرية الإسلاميين وشعبيتهم اختار بعض العلمانيين والليبراليين الارتماء في حضن السلطة خوفاً من تغيير شعبي يأتي بخصومهم للسلطة
"

بسبب جماهيرية الإسلاميين وشعبيتهم اختار بعض العلمانيين والليبراليين الارتماء في حضن السلطة خوفاً من تغيير شعبي يأتي بخصومهم للسلطة، وأوجدوا معادلة تقوم على الرهان على الاستبداد غير الديني لمنع كابوس الاستبداد الديني والعمل على الحفاظ على شيء من الحريات الاجتماعية الموجودة أو المطالبة بالمزيد منها عبر التنازل عن الحريات السياسية للسلطة الاستبدادية.

 
وبناءً على هذا رفضوا الثورات ووقفوا ضد مطالب الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في البلدان العربية بدعوى عدم جاهزية المجتمع للخيار للديمقراطي، وكان هذا تعبيراً عن الخوف من جاهزية المجتمع لخيار ديمقراطي يلفظهم.
 
لكن السلطة الاستبدادية لم تكترث كثيراً لمعادلتهم تلك، لأن هذه السلطة بطبيعتها لا تقدم على خطوة إلا إذا كانت تسهم في تثبيت أركان الحكم، وهي بالتالي لن تهتم بمطلب الحريات الاجتماعية إلا من هذه الزاوية، إضافة إلى كونها تستفيد من ارتماء تلك النخب في أحضانها دون أن تكون ملزمة بتقديم شيء في المقابل والخضوع لمقايضة الحريات السياسية بالاجتماعية التي تطرحها تلك النخب، لأنها بلا وزن وتأثير في موازين القوى القائمة، وهو ما يجعل هذه العلاقة تنتهي إلى استفادة السلطة و"أمل" النخب في إقناع السلطة بتقديم بعض التنازلات البسيطة.
 
من الواضح في طرح النخب المرتمية في حضن السلطة أنها خسرت الجمهور وسلمت بذلك، وهو أمر يقدح في مصداقيتها ويثبت فشلها وسقوطها، كما أنها قررت نقض شعاراتها المرفوعة حول الحرية والديمقراطية خوفاً من الإسلاميين، وبدلاً من المطالبة بنظام ديمقراطي حقيقي يحفظ حقوق الجميع وينهي الاستبداد بكافة أشكاله ويضمن الحريات ولا يسمح بدكتاتورية الأغلبية، يذهب هؤلاء باتجاه العداء مع المطلب الجماهيري في الحرية تمسكاً بليبرالية اجتماعية ضيقة ليتضح قصر نظرهم وزيف شعاراتهم وسقوطهم فكرياً وسياسياً.
 
مثقفو الاعتدال والممانعة
ينطلق الحديث عن موقف مثقفي تياري الاعتدال والممانعة من اتخاذهم مسألة الحرية والديمقراطية والتنديد بالقمع والاستبداد كأدوات تستخدم في الكيد السياسي والإعلامي للخصم دون إيمان حقيقي بها، وما أصاب الأنظمة المعتدلة والممانعة على السواء من غضب شعبي انتهى بثورات على تلك الأنظمة كشف أن هذه الأنظمة فشلت في الداخل وأوصلت شعوبها إلى مراحل متقدمة من الاحتقان تفجرت انتفاضاتٍ وثورات.
قامت الثورات في مصر وسوريا ضد استبداد الأنظمة وفسادها في الأساس، ولم يكن الخيار السياسي للنظام القضية الرئيسية للمتظاهرين (وإن كان في خلفية الحدث في مصر)، لذلك كان حديث المؤامرة (الإيرانية في مصر، والأميركية في سوريا) يفتقد لدقة التحليل ويعبر عن عدم فهم هذه اللحظة التاريخية المُعلِنة عن سقوط المنظومة العربية الرسمية بعد عقودٍ من الفشل والعجز على كل المستويات، وعن تعطش الناس للحرية والكرامة ورفضهم سلب حقوقهم وقهر الأنظمة لهم.
 
فوجئ مثقفو الاعتدال بثورة مصر، وحاولوا في البداية إحالتها لأسباب اقتصادية، وتحدث بعضهم عن مؤامرة إيرانية قطرية، ومع زيادة التخبط تحدث آخرون عن مؤامرة من حلفاء النظام الأميركيين والإسرائيليين! ودافعوا باستماتة عن نظام مبارك وتعزيزه للحريات، وعن قدرته على الإصلاح واستيعاب الصدمة، وأصيبوا بعد سقوطه بصدمة لم يفيقوا منها حتى الآن، غير أنهم وجدوا الثورة من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية في سوريا، وباتوا يتحدثون عن القمع والاستبداد ويرفعون شعارات الحرية.

"
رفع المعتدلون والممانعون شعارات الحرية انطلاقاً من حسابات سياسية لا من مبادئ فكرية وأخلاقية، فسقطوا جميعاً في امتحان الربيع العربي
"
كذلك فوجئ مثقفو الممانعة بثورة سوريا، وحاولوا ولا يزالون إحالتها لمؤامرات خارجية أميركية صهيونية، وتبنوا دعاية النظام المضحكة حول العصابات المسلحة من البداية، وراهنوا على إصلاحات لم تأتِ، ودافعوا باستماتة عن القمع المروع الذي يمارسه نظام الأسد بحق شعبه، وبعد أن كانوا يتحدثون عن الحرية والكرامة في ثورتي مصر وتونس صاروا يرددون دعاية النظامين المصري والتونسي في سوريا ضاربين عرض الحائط بتطلع الشعب السوري للحرية والعدالة.
 
رفع المعتدلون والممانعون شعارات الحرية انطلاقاً من حسابات سياسية لا من مبادئ فكرية وأخلاقية، فسقطوا جميعاً في امتحان الربيع العربي، ولم تنكشف تناقضاتهم وحسب، بل أيضاً غياب حرية وكرامة الإنسان العربي كأولوية في خطابهم السياسي والإعلامي، وإذا كان خطاب الاعتدال يتبنى أمركة سياسية فارغة من المضمون الفكري، فإن خطاب المقاومة والممانعة الذي يتغنى بحرية الشعوب في مواجهة الاستعمار والهيمنة الخارجية معني بمراجعة موقفه من حرية الشعوب في مواجهة القمع والاستبداد الداخلي.

فخ الطائفية
لعل ثورتي البحرين وسوريا شكلتا التحدي الأبرز للنخب الفكرية والدينية في أجواء الشحن الطائفي المحمومة، فقد كانت الثورتان اختباراً عسيراً لمدى انسجام النخب مع أطروحاتهم بشأن الحرية والديمقراطية ومدى قدرتهم على مواجهة السعار المذهبي، كما أن الثورتين أسقطتا الكثير من الأقنعة عن نخب دينية قدمت نفسها بصورة الاعتدال الفقهي والفكري لكنها وقت الأزمة ركبت موجة المذهبية وباتت الجموع المحتقنة تحركها وتوجهها.

 
كان الأمل مع انطلاقة الثورات العربية أن تسود لغة جديدة المشهد الإعلامي والثقافي، وأن تكون شعارات الحرية والتحرر من الأنظمة القمعية وإسقاطها مدخلاً لإسقاط إرثها المتمثل بتدمير دولة المواطنة وإعلاء شأن الهويات الفرعية القبلية والمذهبية على الهوية الوطنية والقومية، لكن ما حدث أن إفرازات المرحلة السابقة تجلت بصورة كبيرة في المرحلة الحالية، واستمر الصوت الموتور مذهبياً في تسيد المشهد وتوسيع حالة الانقسام الطائفي عربياً.
 
ظُلمت ثورة البحرين كثيراً وغابت عنها التغطية الإعلامية، وبدأ التحريض عليها من كتاب ومثقفين ومشايخ كانوا بالأمس يناصرون ثورتي مصر وتونس، فغاب نقاش الحرية والاستبداد ليحل محله النقاش المذهبي العقيم والرخيص، وجاء دور بعض من اشتكوا من مظلومية الشعب البحريني ليتجاهلوا مظلومية الشعب السوري ويقفوا مع جلاديه لأسباب سياسية مذهبية، وهو ما جعل الصراع المذهبي يصل مداه في بعض المجتمعات العربية والخليجية تحديداً.
 
ما حصل أن فريقاً من الطائفيين رأى الثورة في سوريا وحدها والخطر في البحرين، وأن فريقاً آخر رأى العكس، وأنهما اتفقا رغم اختلافهما في أولوية المصلحة المذهبية على مسألة الحرية والكرامة الإنسانية، لكن الأسوأ أن الاحتقان فرض على كثير من النخب المعتدلة غير الطائفية ألا تتحرك بشكل كافٍ للتعبير عن موقف المساندة الواضح والصريح للثورتين والشعبين، وخطورة غياب هذا التحرك أن أنظمة القمع تستفيد من الانقسامات الأهلية وتتغذى عليها مما يعطل أحلام التحول الديمقراطي لهذه النخب، لذلك يلزمها التحرك بوضوح ضد كل دعوات الانقسام الأهلي.
نخب جديدة

"
نحن بحاجة ماسة لطليعة شبابية تؤمن بالتغيير لتصنع خطاباً جديداً يقود بلداننا في مرحلة ما بعد الثورة إلى بر الأمان حيث الدولة المدنية الديمقراطية
"

يمكن القول إن مشكلة النخب التي سقطت في امتحان الربيع العربي تتمثل في الفشل الفكري والجماهيري الذي سبق هذا الربيع، وحجم التناقضات التي ملأت خطاب هذه النخب في ردّها على الثورات وانكشاف غياب أولوية الحرية لمصلحة مجموعة الحسابات السياسية والمذهبية الضيقة.

 
ويمكن القول إن نخباً جديدة تتشكل من المخاض السياسي والثقافي الذي يعيشه العالم العربي اليوم جلهم من الشباب الذي قاد ويقود عملية التغيير، وأمام هؤلاء الشباب فرصة تاريخية لصناعة لغة جديدة وخطاب جديد يرتكز على أنسنة الفكر والمنطلقات ويعلي من شأن الحرية والكرامة الإنسانية ويمنع عودة الاستبداد بخطابه وممارساته.
 
إن الحاجة ماسة لطليعة شبابية تؤمن بالتغيير لتصنع خطاباً جديداً يقود بلداننا في مرحلة ما بعد الثورة إلى بر الأمان حيث الدولة المدنية الديمقراطية التي تحفظ حقوق الجميع وتمنع استبدادا جديداً دينياً أو علمانياً، وتمنح الفرصة لحياة سياسية مفتوحة تنظم الصراع الفكري والسياسي في إطار المؤسسات، وتنشر فكر التسامح بين الفئات الاجتماعية المختلفة وتؤسس لهوية وطنية جامعة في إطار دولة حديثة طال انتظارها في العالم العربي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.