خريف النخب في الربيع العربي

لا تختزل أزمة النخب العربية في عدم فهمها لحركة الجماهير وفشلها في صنع هذه الحركة وقيادتها، بل تتجاوز ذلك إلى دخول كثير من النخب في عداءٍ مع الحالة الثورية العربية لأسباب ودوافع مختلفة، فقد وضعت اللحظة التاريخية المتمثلة بحركة الجماهير العربية غير المسبوقة منذ عقود كل النخب أمام امتحان عسير لمبادئهم ومنطلقاتهم الفكرية والإنسانية، وسقط كثيرون في هذا الامتحان مع انكشاف تناقضات خطابهم مع مواقفهم، وصار الحديث عن سقوط النخب يتردد كثيراً في هذا الزمن العربي المختلف.
عزلة المثقف
" كنتيجة طبيعية للعزلة وغياب التواصل بين النخب والجمهور لم تكن النخب قادرةً على استيعاب الخطاب الثوري للجماهير المحتجة في الشوارع والميادين العربية " |
لأزمة النخب العربية في أجواء الثورات أوجه متعددة، بعضها يمتد إلى ما قبل الربيع العربي، وهنا تحديداً يمكن الحديث عن غياب التواصل بين المثقف العربي والجمهور، وانعزال المثقف وانشغاله بمعارك خارج الاهتمام العام للجمهور، وعدم قدرته على إقناع الجمهور بأفكاره وأطروحاته.
خطاب الأبراج العاجية أنتج غياب النخب عن صناعة حالات الاحتجاج التي تحولت إلى ثورات شعبية شاملة، وكنتيجة طبيعية للعزلة وغياب التواصل بين النخب والجمهور لم تكن النخب قادرةً على استيعاب الخطاب الثوري للجماهير المحتجة في الشوارع والميادين العربية، وبدا أن هناك لغتين مختلفتين لا يلتقيان في معظم الأحيان، وأن رد النخب على حراك الشارع شابهَ إلى حد ما رد السلطة من حيث المفاجأة وبطء الاستيعاب.
لعل أبرز مثال يوضح عدم استيعاب النخب لحركة الشارع هو "لجنة الحكماء" التي تشكلت من مجموعة من الرموز النخبوية المصرية إبان ثورة 25 يناير، خرجت اللجنة بمجموعة من المقترحات التي تعبر عن رؤيتها لحل الأزمة في مصر، وكانت المقترحات تعبيراً عن توجس لدى مجموعة المثقفين مما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في مصر إن استمر اعتصام التحرير، لكن الأهم أنها عبرت عن رؤية المثقفين للحالة الثورية في التحرير بوصفها احتجاجاً شعبياً يمكنه تحقيق إصلاحات في النظام السياسي عبر هذه المقترحات، لا ثورة شعبية شاملة تطالب بإسقاط النظام السياسي القائم تماماً وإحلال نظام سياسي آخر مكانه بعقد اجتماعي جديد.
الانحياز للسلطة
يمكن الخوض في حديث طويل عن مثقفي السلطة من مروجي سياساتها ومُجَمِّلي استبدادها، وهؤلاء موظفون يؤدون المطلوب منهم مقابل الحصول على بعض المكاسب الشخصية هنا وهناك، لكن الأهم في قضية انحياز بعض النخب إلى السلطة الذي يجب تسليط الضوء عليه هو اختيار بعض النخب المستقلة أو غير المحسوبة على السلطة بالكامل –وخاصة بعض النخب العلمانية والليبرالية- الانحياز لها في وجه المطالب الشعبية بدافع الخوف من القادم المجهول، وتصفية الحسابات مع الخصوم الفكريين والسياسيين.
إن أحد أهم أوجه سقوط بعض النخب العلمانية والليبرالية في امتحان الثورة والحرية العربي الحالي، يكمن في انجرافها وراء سياسات التخويف التي اتبعتها الأنظمة الاستبدادية لتثبيت سلطتها ونفوذها، وهي سياسات قامت على تخويف العلمانيين من الإسلاميين والعكس لتضمن بقاءها قادرة على التحكم والسيطرة في ظل انشغال الجميع بالصراعات التيَّارِية الصغيرة وتشبثهم بالسلطة كمرجعية تحميهم من بعضهم.
" بسبب جماهيرية الإسلاميين وشعبيتهم اختار بعض العلمانيين والليبراليين الارتماء في حضن السلطة خوفاً من تغيير شعبي يأتي بخصومهم للسلطة " |
بسبب جماهيرية الإسلاميين وشعبيتهم اختار بعض العلمانيين والليبراليين الارتماء في حضن السلطة خوفاً من تغيير شعبي يأتي بخصومهم للسلطة، وأوجدوا معادلة تقوم على الرهان على الاستبداد غير الديني لمنع كابوس الاستبداد الديني والعمل على الحفاظ على شيء من الحريات الاجتماعية الموجودة أو المطالبة بالمزيد منها عبر التنازل عن الحريات السياسية للسلطة الاستبدادية.
لكن السلطة الاستبدادية لم تكترث كثيراً لمعادلتهم تلك، لأن هذه السلطة بطبيعتها لا تقدم على خطوة إلا إذا كانت تسهم في تثبيت أركان الحكم، وهي بالتالي لن تهتم بمطلب الحريات الاجتماعية إلا من هذه الزاوية، إضافة إلى كونها تستفيد من ارتماء تلك النخب في أحضانها دون أن تكون ملزمة بتقديم شيء في المقابل والخضوع لمقايضة الحريات السياسية بالاجتماعية التي تطرحها تلك النخب، لأنها بلا وزن وتأثير في موازين القوى القائمة، وهو ما يجعل هذه العلاقة تنتهي إلى استفادة السلطة و"أمل" النخب في إقناع السلطة بتقديم بعض التنازلات البسيطة.
ينطلق الحديث عن موقف مثقفي تياري الاعتدال والممانعة من اتخاذهم مسألة الحرية والديمقراطية والتنديد بالقمع والاستبداد كأدوات تستخدم في الكيد السياسي والإعلامي للخصم دون إيمان حقيقي بها، وما أصاب الأنظمة المعتدلة والممانعة على السواء من غضب شعبي انتهى بثورات على تلك الأنظمة كشف أن هذه الأنظمة فشلت في الداخل وأوصلت شعوبها إلى مراحل متقدمة من الاحتقان تفجرت انتفاضاتٍ وثورات.
" رفع المعتدلون والممانعون شعارات الحرية انطلاقاً من حسابات سياسية لا من مبادئ فكرية وأخلاقية، فسقطوا جميعاً في امتحان الربيع العربي " |
فخ الطائفية
لعل ثورتي البحرين وسوريا شكلتا التحدي الأبرز للنخب الفكرية والدينية في أجواء الشحن الطائفي المحمومة، فقد كانت الثورتان اختباراً عسيراً لمدى انسجام النخب مع أطروحاتهم بشأن الحرية والديمقراطية ومدى قدرتهم على مواجهة السعار المذهبي، كما أن الثورتين أسقطتا الكثير من الأقنعة عن نخب دينية قدمت نفسها بصورة الاعتدال الفقهي والفكري لكنها وقت الأزمة ركبت موجة المذهبية وباتت الجموع المحتقنة تحركها وتوجهها.
ظُلمت ثورة البحرين كثيراً وغابت عنها التغطية الإعلامية، وبدأ التحريض عليها من كتاب ومثقفين ومشايخ كانوا بالأمس يناصرون ثورتي مصر وتونس، فغاب نقاش الحرية والاستبداد ليحل محله النقاش المذهبي العقيم والرخيص، وجاء دور بعض من اشتكوا من مظلومية الشعب البحريني ليتجاهلوا مظلومية الشعب السوري ويقفوا مع جلاديه لأسباب سياسية مذهبية، وهو ما جعل الصراع المذهبي يصل مداه في بعض المجتمعات العربية والخليجية تحديداً.
" نحن بحاجة ماسة لطليعة شبابية تؤمن بالتغيير لتصنع خطاباً جديداً يقود بلداننا في مرحلة ما بعد الثورة إلى بر الأمان حيث الدولة المدنية الديمقراطية " |
يمكن القول إن مشكلة النخب التي سقطت في امتحان الربيع العربي تتمثل في الفشل الفكري والجماهيري الذي سبق هذا الربيع، وحجم التناقضات التي ملأت خطاب هذه النخب في ردّها على الثورات وانكشاف غياب أولوية الحرية لمصلحة مجموعة الحسابات السياسية والمذهبية الضيقة.
ويمكن القول إن نخباً جديدة تتشكل من المخاض السياسي والثقافي الذي يعيشه العالم العربي اليوم جلهم من الشباب الذي قاد ويقود عملية التغيير، وأمام هؤلاء الشباب فرصة تاريخية لصناعة لغة جديدة وخطاب جديد يرتكز على أنسنة الفكر والمنطلقات ويعلي من شأن الحرية والكرامة الإنسانية ويمنع عودة الاستبداد بخطابه وممارساته.