سوريا ما بعد الانتفاضة الحموية

سوريا ما بعد الانتفاضة الحموية الكاتب: مهنا الحبيل



حماة في قلب المشهد
مشاركة حلب ووحدة قيادة الثورة
المدد الإقليمي لم يُنقذ النظام
تركيا.. ليس بعد!
حوارات الداخل خسارة مزدوجة

حين سألتُ نشطاء الداخل عبر الإعلام الجديد في مدن سوريا لمعرفة أين تقف حركة الثورة في الضمير الشعبي وأين هي من الأرض والميدان بعد نهر الشهداء، جاءتني أجوبة متحدة في المفهوم طرحت استعداداً مذهلا لعزيمة الشعب في مواصلة الاستشهاد والفداء, وكأن كل ما قدمه الشعب السوري نبع مستمر حتى تحقيق الهدف.

ولكي أجمع هذه الخلاصة المتحدة وأضعها في زاوية الرؤية الإستراتيجية لمستقبل الثورة السورية لم أجد تعبيرا أدق من أن إسقاط النظام لدى حركة الثورة وشعبيتها الواسعة أصبح عقيدةً لا مشروعاً.

حماة في قلب المشهد

"
فدائية حماة أعطت عمقا وزخما تجديديا هائلاً لكل مدن القطر رغم إيمان الجميع وأولهم قيادة الثورة الميدانية وحركتها الشعبية بأن دموية النظام ووحشيته أمرٌ متوقع
"

وسأدلف من هذه المقدمة لإعادة تكوين مجموعة الرصد الميدانية التي سجّلها المراقبون في دهشة من قوة هذه الثورة وعزيمتِها التي تجاوزت كما قررنا سابقا كل ثورات الربيع العربي كحالة مدنية سلمية مستمرة في مواجهة مجازر متنوعة وشرسة في وحشيتها ومنعدمة من أي رديف اجتماعي داخلي أو إقليمي أو دولي.

ومع ذلك لا تزال الثورة تحقق تقدما ميدانيا على الأرض ويزداد إصرار الحركة الشعبية الكبيرة عدداً وتحديا لقرار القمع الأمني, لكن هذه المرحلة فاجأت المشهد بقوة حضور حماة التي خُلّدت في ذاكرة الزمن المعاصر كإحدى مدن جرائم الحرب التاريخية التي قدمت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى, وبات النظام ومعه العمق الإقليمي والدولي في مواجهة قرار شعبي نوعي حين احتشد عشرات الآلاف في ميدان حماة الرئيسي وفي لحظة مركزية جسّدت هتافات سقوط النظام ورفض الحوار صلابةً وبأس الشعب الحموي الذي تحول رغم جراحه إلى حركة انتفاضة داعمة لصمود الثورة السورية وقائدةً لها وليس فقط مشهد إلهام عاطفي لقداس شهدائها الأول في 1982.

ماذا تعني هذه الرسالة الحموية؟ إنها محور مركزي وخاصة في الوحدة النضالية الشبابية بين شباب وشابات المدينة وشراكة كبار السن الذين تقدم أحدهم وهو يهتف شعرا في مصادمات الاقتحام الأخير ويفتخر بشباب حماة بأنهم يتصدرون فدائية الثورة.

والحقيقة أن فهم هذه الرسالة يربطنا بنقطة الانطلاق الأولى ثم العودة إلى مسارين مهمين في تاريخ الثورات. المسار الأول: تاريخ الثورات الإنسانية وكيف أنها في سجلها تحولت فيها هذه المشاهد الصلبة في الإصرار على التحرر انعطافا لا يخالفه التاريخ بأنه ينتصر لتلك الشعوب التي تتحول إرادتها الذاتية واعتمادها السماوي إلى وقود الحرب المركزية للحرية. وأما المسار الثاني: فهو مراجعات سجلات الثورة المصرية الأخيرة والتي أظهرت حركة الثبات والإصرار والتقدم الفدائي في مصر وبحسب شهادة القيادات الميدانية التي نشرت في الجزيرة وأفصحت بأنها كانت مراكز التحول لهزيمة النظام وضعضعته.

فتجرد حماة إلى تلك الفدائية أعطاها عمقاً وأرسل منها زخما تجديديا هائلاً لكل مدن القطر رغم إيمان الجميع وأولهم قيادة الثورة الميدانية وحركتها الشعبية بأن دموية النظام ووحشيته أمرٌ متوقع سوى أنهم كقيادات وتكتلات شبابية للحركة الاحتجاجية يواجهون وحسب ما أعلنوه هذا التحدي بإصرار أكبر على عدم التراجع وبتنظيم يستفيد من وسائط وظروف العصر ويدّخر من آلام العهد القديم ثأراً شعبيا لكن لأجل الحرية وسوريا الديمقراطية العربية.

مشاركة حلب ووحدة قيادة الثورة
وتزامن هذا الدخول الحموي للمشهد بمشاركة مهمة جدا من حلب، ومع أنّ هذه المشاركة لا تزال في مسار التدرج إلا أنّها وصلت لنجاح مهم في خروج احتجاجي مركزي من أحياء المدينة ومصادمات وتقديم أول الشهداء مع تغطية إعلامية لممثلي التنسيقيات في حلب تحدثوا مع وسائل الإعلام, وهنا نحتاج إلى وقفة مهمة:

لقد أظهر الشهر الأخير من الثورة قضية مهمة جدا للغاية تكشف أحد عناصر توسع الثورة وهو حضور اللجان التنسيقية وأفرع الاتحاد العام للثورة السورية في كل المدن والبلدات والضواحي, وكان هذا الحضور شاملا في كل وسائل الإعلام مع تنوّع شخصياتها وتوجهاتها وإجماعها على برنامج الثورة المركزي.

"
قيادة الداخل أظهرت وحدة نوعية ورؤية مركزية مع كثافة الممثلين التي تؤكد وصول قيادة الثورة السورية إلى إدارة ميدانية شاملة ومتناغمة في كل مدن القطر
"

ورغم تنقّل الصورة وأطياف المتحدثين التعددية إلا أن قيادة الداخل أظهرت وحدة نوعية ورؤية مركزية مع كثافة الممثلين التي تؤكد وصول قيادة الثورة السورية إلى إدارة ميدانية شاملة ومتناغمة في كل مدن القطر وتسبق أي جهة أخرى بتحديد أولوية برنامج العمل وسقف المشروع السياسي بعد إسقاط النظام, مع انسجام ونجاح متدرج ووحدة موقف وتضامن متبادل.

هذا العنصر التكاملي لقيادة الثورة الذي ظهر في حلب -كما ظهر في كل المدن قبلها- يشير إلى دقة التخطيط وضبط الميدان وإضافةً أخرى أنّ نجاح القيادات التنسيقية الحلبية في كسر إرادة الاتفاق بين النظام وبعض التجار وانضمام شخصيات دينية كبيرة إلى تنسيقيات حلب يؤكد إمكانية التوسع المركزي القادم للثورة وآثاره الميدانية في حسم قضية إسقاط النظام وجدوله الزمني.

المدد الإقليمي لم يُنقذ النظام
في تقرير لصحيفة الأخبار اللبنانية الرابع والعشرين من يونيو/ حزيران الماضي اعتمد معد التقرير إيلي شلهوب على تصريحات مباشرة له من مسؤول أمني إيراني في لغة مباشرة بإرسال الرسائل كان واضحا منها أنها توجيه سياسي مباشر للجهات المخاطبة، وفي ثنايا هذا التقرير وجّه المسؤول الأمني الإيراني رسائل تهديد مباشرة لتركيا ولدول الخليج العربي من استخدام إيران لما أسماه المسؤول الإيراني –أذرعها– في الخليج وقصف تركيا لدعم بقاء النظام السوري.

هذه الرسائل أعطت مؤشرا على قراءة الموقف الإيراني وتقديره لوضعية صمود النظام, فتهديد المسؤول الإيراني حمل ثغرات عدة تؤكد اضطراب طهران التي أكّد وزير خارجية النظام وليد المعلم التحام النظام معها ومع حزب الله, وجاءت لغة التهديد بالأذرع للخليج الرسمي رغم موقفه المتخاذل بل الذي ساهم في دعم النظام كما ذكر ذلك ممثل النظام السوري في جامعة الدول العربية حين شكر دول مجلس التعاون لمساهمتها في منع طرح قضية الشعب السوري على مجلس الجامعة, هذا الموقف لا يستدعي التهديد الإيراني لكن شعور إيران بالعجز لوصولها لنقطة محددة في دعم النظام وتّر لغتها الأمنية.

وإذا أضفنا تهديد المسؤول في ذات الصحيفة لتركيا بقصف أراضيها فهو مؤشر على هذا الاضطراب, إن تتابع الدعم المعنوي والإعلامي والسياسي واللوجستي والإستراتيجي من إيران للنظام لا يمكن له أن يغير السيناريو الأخير.. لماذا؟

لأن قوة دفع الثورة السورية تنطلق من مكامنها الذاتية وقدراتها الشعبية والتي يعاني النظام وإيران من تصاعدها المستمر باعتمادها على ذاتها الشعبية, وهو ما يجعل طهران عاجزة فعلياً عن نزع فتيل الانفجار الأخير في مستقبل النظام وأجواء سقوطه.

"
ثمة مؤشرات عديدة تدل على أنّ الزخم الشامل لطهران وحزب الله يتراجع ويترنح أمام قوة الثورة
"

ورغم أنّ حزب الله قد اصطف كليا وبقيادته المركزية مع النظام وأعلن مناهضته الشرسة للثورة السورية وتأييده الواضح لعمليات القمع الشاملة, إلاّ أنّ ذلك كله لم يُغير عجز قدرات الحزب عن تشكيل رادع نوعي للثورة وحتى لو اُستخدمت بعض عناصره للاختراق الأمني أو القمعي, لأنه يصطدم بقدرات الثورة ووحدتها الاندماجية ووحدتها الوطنية على أرضها بعد أن سقطت محاولة النظام إثارة الفتنة الطائفية.

ومع أنّ الحزب بمساندته الأسد خسر قاعدة عربية غير طائفية كان يخترقها لمصلحة مشروعه فقد ضحى بها وهو يواجه مأزقا حقيقيا في صراعه الجديد مع المعارضة دون أي ضمان لانتصار حليفه في دمشق, وهذا ما يؤشّر إلى أنّ الزخم الشامل لطهران وحزب الله يتراجع ويترنح أمام قوة الثورة.

تركيا.. ليس بعد!
الحقيقة التي يجهلها البعض أنه لم يكن متوقعا من تركيا أي مشاركة مركزية لدعم الثورة وكان الخيار العسكري مستبعدا بكل القراءات المنصفة, فضلا عن أنّ اعتقاد الغرب برؤية تل أبيب قائم للمحافظة على توازن النظام وصموده، وهو يعطي مؤشرات لأنقرة مع حالة عدم توازن في موقف الحكومة التركية التي تحاول حتى الآن إمساك كل الفرص.

ويُرجع المحلل السياسي التركي إسماعيل ياشا أحد أسباب تردد أنقرة في الدعم الإعلامي والسياسي للثورة إلى ضغوط الحركة العلمانية الكمالية المناصرة لنظام الأسد وغياب الموقف العربي المتواصل والمطالب بزيادة الدعم التركي حتى في الإطار الشعبي والثقافي باستثناء المبادرة المميزة لأعضاء البرلمان الكويتي الذين التقوا المسؤولين الأتراك لدعم الثورة السورية.

غير أنّ مجرد وجود اللاجئين السوريين الذي شكّل إطارا لحركة تنقل المدنيين كمتنفس يرجى أن يتطور إلى دعم لوجستي للثورة السورية السلمية وهذا ما تخشى منه طهران وهددت لأجله وليس لأي تدخل عسكري, وهذا الخيار سيظل قائما ومتوقعا مع تطورات الأحداث وزيادة نفوذ الحركة الاحتجاجية وتصدع النظام في دمشق.

حوارات الداخل خسارة مزدوجة
في بداية هذا الفصل يجب التذكير بأنه لم يكن وارداً تاريخيا أن يسمح نظام الأسد الوراثي أو عمقه الحزبي لأي حالة تواصل للمعارضة, وهذا يعني كمؤشر رئيس بأن هذه المؤتمرات الداخلية جاءت كحالة اضطرارية تؤكد حجم المصاعب الضخمة التي يواجهها النظام لدرجة أن يسمح لطيف من المعارضة بالاجتماع مع كل التدخلات التي باشرها.

"
 حين يُظهر النظام ضعفا وعجزا إضافيا وحين تظهر الثورة قوة وإصرارا فهذا يعني أنّ سقوط النظام أضحى قضية وقت
"

وهو ما أعطى حصيلة سلبية على صعيدين: الأول شهادات المشاركين في تدخل النظام وفرضه بعض الشخصيات الإضافية ثم تصوير ذلك إعلاميا وتزامنه مع استمرار عملية القتل اليومي, فيما شكّل الفيلم المصور بضرب المعارض السوري ماجد صالحه في المؤتمر من قبل المحيطين به من المثقفين بعد أن أعلن أنهم سيبحثون كل مطالب الشعب بما فيها إسقاط النظام.

هذا المشهد شكّل شهادة على عبثية مؤتمر الحوار وبعده عن أي عزم للإصلاح الحقيقي, وفَقَدَ هذه الورقة كليا مع قوة الرد الشعبي على دعواته وتخصيص الهتاف الواسع في القطر برفض الحوار ورحيل النظام.

ولذلك فإن خلاصة هذه المرحلة من الثورة حين تُظهر ضعفا وعجزا إضافيا للنظام وقوة إصرار وتدحرج مركزي للثورة السورية، فهي تعني أنّ سقوط النظام أضحى قضية وقت تزحف بصورة متسارعة لذلك المشهد الذي ينعقد فيه المجلس الانتقالي للثورة في قلب دمشق وهو يغني النشيد الوطني مستقلا بشعبه ويؤدي التحية للعلم السوري ولصورة الشهيد حمزة الخطيب معلنا حرية العهد الخصيب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.