دور المسيرات الشعبية في التحرير
انتشرت خلال شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران الماضيين المسيرات الشعبية، ومن المنتظر أن تحدث في الأيام والشهور القادمة من العام 2011, وتميزت بتحرك كتل جماهيرية كبيرة في اتجاه فلسطين، وإذا كانت قد اشتملت أساسا على فلسطينيين فإنها لم تخل من ناشطين عرب رأوا أن من واجبهم المشاركة فيها.
" المسيرات الشعبية استلهمت روحها من المظاهرات المليونية التي انطلقت في دول عربية كثيرة، واستطاعت أن تغير النظام الحاكم في كل من تونس ومصر " |
رغم أن أحدا لم يذكر سببا لانطلاق هذه المسيرات، من الواضح أنها تحركات استلهمت روحها من المظاهرات المليونية التي انطلقت في دول عربية كثيرة، واستطاعت أن تغير النظام الحاكم في كل من تونس ومصر ولها ما يشابهها في كل من اليمن وسوريا.
بينما لم ترق المظاهرات في كل من البحرين والأردن إلى مستوى المسيرة الشعبية الحاشدة، في حين تحولت المسيرات في ليبيا إلى نزاع مسلح، وبذا خرجت عن مفهوم المسيرة الشعبية خاصة أنها استعانت بقوى خارجية مما أبعدها عن احتمال أن تشكل نموذجا يمكن الاستعانة به أو أن نحذو حذوه.
ما حققته المسيرات حتى الآن
من المهم أن يجري تقويم ما حدث في المسيرات وما استطاعت أن تحققه، خاصة أن البعض يرون في المسيرات أسلوبا هاما يمكن أن يلعب دورا في تحقيق تحرير فلسطين والوصول بالصراع العربي الإسرائيلي إلى محطة نهائية تحقق للشعب الفلسطيني آماله المشروعة، بل يكاد البعض يرى في المسيرات الشعبية الأسلوب الوحيد لتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني.
إن أول ما يمكن أن نتصور أنه تحقق هو أنه أحدث قلقا لدى سلطات وأجهزة العدو الإسرائيلي، أي أن العدو سواء كان أجهزة حكومية أو منظمات للمجتمع المدني لم يستطع أن يتجاهل المسيرات الشعبية منذ بدء الإعلان عن تسييرها، إذ رأى فيها تهديدا لكيانه، حيث تشابهت مع أساليب العدو في السيطرة على فلسطين أثناء الانتداب البريطاني، لذا فقد وجه قواته إلى الأماكن التي يمكن أن تنطلق منها المسيرات إلى قلب فلسطين المحتلة.
كذلك أثبتت المسيرات أن الشعب لديه الاستعداد والقدرة على تحمل الخسائر البشرية في مقابل القدرة على النفاذ إلى الأرض الفلسطينية، وهذه القدرة هامة حيث تشكل القاعدة الرئيسة في حروب التحرير الوطني. كذلك أكدت المسيرات جدية عزم الشعب الفلسطيني في الشتات على العودة إلى فلسطين.
" تقييم ما جرى من مسيرات شعبية لا بد أن يضع في الاعتبار أن المسيرات أدت إلى خسائر بشرية كبيرة بينما أدت إلى مكاسب لها طابع معنوي دون أن تحدث تغييرا على الأرض " |
من جهة أخرى نرى أن المسيرات دفعت وتدفع السلطات الإسرائيلية إلى توفير قوات إضافية لمواجهة احتمالات اجتياحات كتل جماهيرية كبيرة في أماكن متعددة ومتسعة، وبالتالي فإنها تحمل السلطات الإسرائيلية أعباء جديدة في وقت تتعرض فيه لانتقادات كثيرة، كما أنها لا تستطيع أن تطمع كثيرا في موارد إضافية خارجية في ظل الأزمة المالية العالمية.
لكن مما لا شك فيه أن المسيرات أدت إلى خسائر بشرية كبيرة نسبيا دون أن تحقق نتائج إيجابية على الأرض، ومهما كانت الأوضاع فإن الخسائر البشرية هي في النهاية أغلى الخسائر والتي لا يمكن تعويضها مقارنة ببقية الخسائر المادية والمعنوية.
وهكذا فإن تقييم ما جرى من مسيرات شعبية لا بد أن يضع في الاعتبار أن المسيرات قد أدت إلى خسائر بشرية كبيرة بينما أدت إلى مكاسب لها طابع معنوي دون أن تحدث تغييرا على الأرض.
مزايا المسيرات الشعبية
ترجع مزايا هذا النوع من المسيرات إلى أنها لا تحتاج إلى تحضيرات كبيرة سوى حشد الأفراد الذين لديهم الاستعداد لمواجهة المخاطر الناجمة عن المسيرة بما فيها إمكان الاستشهاد في أوقات محددة وأماكن محددة، وأنها تستطيع أن تحتشد في أماكن كثيرة في توقيت واحد.
كما تتميز بأنها يمكن أن تنطلق من أماكن كثيرة عديدة يصعب على العدو أن يعد قوات كافية لمواجهة أعداد كبيرة كهذه على مواجهات واسعة في وقت واحد.
وتتميز المسيرات السلمية بأنها تشكل إحراجا للعدو، حيث يبدو قمعها نوعا من انتهاك حقوق الإنسان ومضادا لما تنادي بها القوى المؤيدة لإسرائيل، ورغم أهمية هذا العامل يجب عدم الاعتماد عليه كثيرا حيث جرى فضح ممارسات هذه الأطراف في سجن أبو غريب في العراق، وفي معتقل غوانتانامو بواسطة الولايات المتحدة، ثم في التعاون مع دول أخرى في تعذيب المتهمين بالاشتراك في الإرهاب.
" أهم عيوب المسيرات الشعبية أنها يمكن أن تؤدي إلى خسائر بشرية كبيرة يمكن أن تصل إلى حد المجزرة دون أن تؤدي إلى نتيجة على الأرض " |
أهم عيوب المسيرات الشعبية هو أنها يمكن أن تؤدي إلى خسائر بشرية كبيرة يمكن أن تصل إلى حد المجزرة دون أن تؤدي إلى نتيجة على الأرض، كما أنها تحتاج إلى أفراد على مستوى عال من التأهيل السياسي والقادر على التضحية العالية، وهو مستوى يختلف من مجتمع إلى آخر.
وترتبط طبيعة الجماهير من هذا النوع بصعوبة السيطرة عليها حيث لا تحكمها قواعد قانونية مشابهة لتلك القواعد التي تجمع الوحدات العسكرية ووحدات المقاومة المسلحة، كذلك فإن المسيرات الشعبية قد تجري خارج سيطرة القيادات السياسية والشعبية.
أهمية المسيرات
ترجع أهمية المسيرات إلى أنها أكدت للعدو الصهيوني والقوى الدولية خاصة تلك التي تدعم العدو الإسرائيلي على أن لا سلام في فلسطين بلا عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه، وإلغاء الوهم الذي سعت وسائل إعلام أجنبية وعربية للترويج لها بأن الأجيال الجديدة من الشعب الفلسطيني لن تكون حريصة على العودة إلى فلسطين مع تآكل أجيال الماضي، نظرا لأن بعضها لم ير فلسطين ولم يرتبط بها، وليست لديه ذكريات منها عدا ما سمعه ويسمعه من الجيل السابق.
هذا إذا كان ما زال هناك بعض هذا الجيل بعد مرور أكثر من ستين سنة على النكبة وخروج أعداد كبيرة من شعب فلسطين عام 1948، وهكذا تبدو الأمور بعد هذه المسيرات كما لو كانت القضية تبدأ من جديد ولا تتجه إلى نهاية.
أثبتت المسيرات القدرة العالية على التضحية، إذ من جهة أخرى أدت المسيرات الشعبية إلى خسائر بشرية كثيرة، ولم يكن لديها أمل في الوصول إلى أهدافها، ربما أوحت المسيرات الشعبية التي جرت في الفترة الماضية إلى العدو أنه يستطيع أن يقمع هذه المسيرات في أي وقت تنظم فيه، وتوفر له فرصة الدراسة واتخاذ إجراءات مضادة.
لذا فإن أي تفكير لتنظيم مسيرات شعبية جديدة يجب أن يضع في اعتباره أن يتجنب تكرار ما حدث سابقا سواء من حيث المكان أو العدد أو الأسلوب والوسائل.
المسيرات في إطار إستراتيجية التحرير
يسهل الخروج مما سبق باستنتاج أن المسيرات وحدها لا يمكن أن تؤدي إلى تحرير فلسطين واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، ولكن يبقى السؤال: هل يمكن استبعاد هذا الأسلوب نهائيا سواء في تحقيق التحرير أو بشكل تلقائي كما حدث؟ هل يمكن نجاح المسيرات الشعبية للوصول إلى سلام حقيقي عادل وشامل يعترف بحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه؟ إذا كان نعم فكيف؟ وإذا كان لا فما العمل؟
" إذا كان من المستحيل عمليا استبعاد المسيرات الشعبية تماما كجزء من إستراتيجية تحرير فلسطين، فإن من الصعب أيضا استبعادها في الظروف السياسية السائدة " |
من المؤكد أنه يمكن استبعاد المسيرات الشعبية من إستراتيجية تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، حيث ربما لم يستخدم هذا النوع من العمل السياسي في عمليات تحرير سابقة، وبذا قد يكون استبعادها مبررا، ولكن يبقى السؤال: إذا كانت المسيرات ليست وسيلة كافية لتحقيق التحرير، هل يعني هذا استبعادها تماما من إستراتيجية التحرير؟ وهل يمكن استبعاد المسيرات الشعبية التلقائية التي هي خارج إستراتيجية التحرير؟
في رأيي أنه إذا كان من المستحيل عمليا استبعاد المسيرات الشعبية تماما كجزء من إستراتيجية تحرير فلسطين، فإن من الصعب أيضا استبعاد المسيرات الشعبية التلقائية خاصة في الظروف السياسية السائدة، التي انتشرت فيها المسيرات الشعبية الداخلية من أجل الإصلاح السياسي.
إستراتيجية التحرير
لا شك أن التحرير يحتاج إلى قوة عسكرية قادرة على تكبيد العدو خسائر مؤثرة تجعله يقتنع أنه لا يستطيع أن يستمر في احتلال فلسطين وأن يتجاهل مطالب الشعب الفلسطيني إلا بعد دفع ثمن غال واستمرار الدفع، وإلا فإنه سيفشل في تحقيق الهدف الذي كان معلنا عن الهدف من إنشاء الدولة العبرية بإيجاد وطن قومي آمن لليهود، حيث تظل فلسطين المحتلة أكثر الأماكن تعرضا وتهديدا لليهودي.
ولا يشترط أن تكون هذه القوة العسكرية متفوقة تقليديا أو فوق تقليدي، ولكن المهم أن تكون قادرة على تكبيد العدو مجموعة من الخسائر البشرية والمعنوية والاقتصادية التي تحد من قدرته على مواجهتها، لكن القوة العسكرية عادة تكون مرتبطة بالدولة والحكومة، وإذا لم تكن هذه القوة في المتناول حاليا فهذا لا يعني أنها لن تحدث، فهناك فترة انتقالية، تنتقل فيها الدول والمجتمعات من وضع العجز إلى وضع القدرة.
من المتصور أن إستراتيجية التحرير يمكن أن تشتمل على قوات عسكرية نظامية تشتمل أساسا على بعض العناصر الثقيلة خاصة في مجال الدفاع الجوي والأسطول والقوات الجوية، حيث يصعب على القوى الشعبية امتلاك قوات جوية ووسائل دفاع جوي قادرة على مواجهة طائرات قتال العدو على مسافات بعيدة وإصابة أهداف أرضية للعدو، أو أسطول بحري قادر ليس على الاشتباك بسفن وغواصات أسطول العدو، بل وتقديم المعاونة للقوات البرية أيضا، وكذا القدرة على حماية خطوط المواصلات البحرية.
لكن قوى التحرر الوطني افتقرت عادة لهذه الوسائل قبل الاستقلال، ولاقت صعوبات في الحصول عليها بعد الاستقلال، لكن وجود دول عربية "مستقلة"، يشير إلى احتمال مشاركة بعض موارد هذه الدول في عملية تحرير فلسطين، وإذا كان هذا غير متوقع في الوقت الحالي وفي المستقبل القريب، فإن هذا ليس مستبعدا في المستقبل المنظور.
" تظل المقاومة عنصرا هاما في إستراتيجية التحرير إلى جانب القوات النظامية التي يمكن أن تشترك في الإستراتيجية وفقا للظروف السياسية التي يمكن أن تتوفر في حينه " |
تستطيع المقاومة أن تعوض الكثير من فقدان الوسائل السابقة خاصة بعد أن أصبحت الصواريخ بما فيها الصواريخ الموجهة متيسرة، كما أن صواريخ الدفاع الجوي المحمولة على الكتف وعلى وسائل النقل الخفيفة يمكن أن تؤدي مهام مفيدة وهامة جدا، وقد لعبت الصواريخ التي كانت لدى المقاومة اللبنانية في حرب تموز 2006 دورا هاما في التأثير على العدو الإسرائيلي، ولعب الصاروخ البحري دورا هاما في إصابة قرويطة إسرائيلية قبالة شاطئ بيروت كان لها صدى هام لدى الروح المعنوية الإسرائيلي.
هكذا تظل المقاومة عنصرا هاما في إستراتيجية التحرير إلى جانب القوات النظامية التي يمكن أن تشترك في الإستراتيجية وفقا للظروف السياسية التي يمكن أن تتوفر في حينه.
هنا يأتي دور المسيرات الشعبية التي يمكن أن تلعب دورا هاما في تشتيت قوى العدو الضغط عليه مما يسهل أعمال قوى المقاومة والقوات النظامية العاملة كما تستطيع في ظلال معارك الدائرة أن تندفع إلى عمق فلسطين والسيطرة على المناطق الهامة ودفع المستوطنين إلى هجر المستوطنات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.