الانتخابات التركية والاستحقاقات

الانتخابات التركية والاستحقاقات

المشهد الانتخابي
الانتخابات ومعركة المرحلة الجديدة

الانتخابات التركية والثورات العربية

تجري الانتخابات التركية النيابية في الثاني عشر من شهر  يونيو/ حزيران الحالي على وقع الثورات التي يشهدها العالم العربي, وعلى الرغم من اختلاف طبيعة الحدثين إلا أن ثمة رابطا قويا بين المعركتين في ظل العلاقات الإيجابية التي تكونت بين تركيا والدول العربية, والمتغيرات التي شهدها الداخل التركي منذ تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم في البلاد عام 2002, فضلا عن تحول تركيا الطامحة للنفوذ الإقليمي إلى قوة تغيير مؤثرة في محيطها.

وعليه لا يمكن النظر إلى الانتخابات التركية بمعزل عن ما يجري في العالم العربي من تطورات دراماتيكية, ولعل هذا ما يفسر التصريحات المتتالية لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بشأن الثورات التي تشهدها العديد من الدول العربية.

المشهد الانتخابي
مع أن النتائج تكاد تكون محسومة سلفا لصالح حزب العدالة والتنمية كما تشير استطلاعات الرأي, فإن ثمة معركة متعددة الجوانب تجري على امتداد البلاد, ولعل السبب الأساسي لذلك هو أن الحزب يريد تحقيق فوز كاسح يؤمن له العدد الكافي من النواب في البرلمان كي يتمكن من إقرار دستور جديد يعد له أردوغان من داخل البرلمان دون الحاجة إلى استفتاء جماهيري كما حصل أثناء إقرار التعديلات الدستورية الأخيرة.

تشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب العدالة سيفوز بأكثر من 40% من الأصوات, فيما تعطي لحزب الشعب الجمهوري نحو 27% من الأصوات وحزب الحركة القومية نحو 11%, أي أن ثلاثة أحزاب فقط من أصل ثمانية عشر حزبا مشاركا في هذه الانتخابات ستتمكن من اجتياز عتبة نسبة 10% المطلوبة حسب القانون التركي لدخول البرلمان, فيما يخوض الأكراد الانتخابات من خلال مرشحين مستقلين على أن يشكلوا حزبا جديدا من كتلتهم البرلمانية بعد الانتخابات حيث تعطيهم الاستطلاعات إمكانية الفوز بنحو ثلاثين نائبا.

تتركز المعركة الأساسية لحزب العدالة والتنمية على جبهتين: جبهة الدوائر الكبرى مع حزب الشعب الجمهوري في مدينتي إسطنبول وأنقرة حيث تبدو المعركة فيهما صعبة في ظل مرشحين منافسين أقوياء من قبل حزب الشعب الجمهوري الذي أحدث انطلاقة قوية في الفترة الأخيرة.

"
على الرغم من التحديات الماثلة أمام أردوغان إلا أن ثمة أوراقا قوية بيده لتكون معركة الانتخابات مدوية تكرس حكم حزب العدالة والتنمية أطول مدة في تاريخ تركيا منذ تأسيسها
"

وجبهة المعركة المصيرية في المناطق الجنوبية الشرقية ولاسيما ديار بكر معقل الحركة الكردية الصاعدة, ولعل حساسية المعركة هنا تنطلق من الفوز الكبير الذي حققته الحركة الكردية في الانتخابات البلدية عام 2009 وسط ازدياد دور العامل القومي الكردي في تحديد تجاه التصويت الانتخابي لدى الأكراد, وهو عامل لا يصب في صالح أردوغان الذي يتهمه الأكراد بالتنصل من خريطة الطريق التي طرحها بشأن إيجاد حل سياسي للقضية الكردية.

يضاف إلى هذا فإن ثمة حديثا عن ترهل في قيادات حزب العدالة والتنمية, فيما يؤخذ على أردوغان نفسه عصبيته ومزاجه المتقلب في مواجهة منافسه كمال كيلجدار أوغلو الذي يتسم بقوة الهدوء في مواقفه وسياساته.

على الرغم من هذه التحديات الماثلة أمام أردوغان إلا أن ثمة أوراقا قوية بيده لتكون معركة الانتخابات مدوية تكرس حكم حزب العدالة والتنمية أطول مدة في تاريخ تركيا منذ تأسيسها, ولعل أهم أوراقه:

 1- الاقتصاد: لا يختلف اثنان في أن حكم حزب العدالة والتنمية غيّر وجه الاقتصاد التركي, فقد أخرج البلاد من أزمة اقتصادية خانقة كانت تعيش على وقع وصفات صندوق النقد الدولي، وحقق نهضة اقتصادية خفضت من معدلات التضخم والدين والبطالة مقابل زيادة في الدخل والنمو, وكل ذلك جعل تركيا في قائمة الدول الكبرى اقتصاديا في العالم, وهذا يحسب للحزب في تطلعه إلى فوز انتخابي كاسح.

2- الإنجازات السياسية التي حققها حزب العدالة, فقد حقق سلسلة إصلاحات داخلية, لعل أهمها التعديلات الدستورية التي تم إقرارها في سبتمبر/ أيلول, وقد أعطت هذه الإصلاحات دفعة قوية للحياة السياسية في البلاد, كما حققت حالة من التعايش بين الإسلام السياسي و(العلمانية) المتمثلة بالجيش بعد عقود من الصراع الأمني والدموي بينهما.

3- السياسة الخارجية لتركيا في عهد حزب العدالة والتنمية, إذ حققت هذه السياسة قفزة هائلة تجاه مختلف الدوائر الجغرافية المحيطة بتركيا والقضايا المثارة, فمن نظرية صفر المشكلات إلى التطور الكبير في العلاقات مع الدول العربية وإيران وروسيا والصين, وصولا إلى تعزيز مكانتها الإستراتيجية في السياستين الأميركية والأوروبية, كل ذلك جعل من تركيا دولة إقليمية مؤثرة, وهو ما عزز من مكانة الحزب في عين الناخب التركي الذي بدأ ينظر باعتزاز إلى دور بلاده في الخارج.

هذه العوامل وغيرها تشكل الرصيد الحقيقي لخوض حزب العدالة والتنمية الانتخابات في مرحلة حساسة يبدو فيها أردوغان وكأنه يقف بين مرحلتين, مرحلة قيادة البلاد إلى تحقيق الإنجازات, ومرحلة التطلع إلى إنجاز دستور جديد ينقل البلاد إلى مرحلة جديدة, ليكون بذلك أردوغان أول رئيس حزب في تركيا يبقى في السلطة لمدة 12 عاما إذا أكمل ولاية ثالثة مع أنه يتطلع إلى قيادة البلاد من القصر الرئاسي شرط أن يعطيه الدستور الجديد صلاحيات رئاسية قوية على الطريقة الأميركية كما ألمح إلى ذلك مرارا.

الانتخابات ومعركة المرحلة الجديدة
تقول واحدة من الشركات التركية المختصة بإجراء الاستطلاعات في تركيا إن العامل الأساسي لدى ناخبي حزب العدالة والتنمية هو كاريزما أردوغان, فالأخير بات رمزا للمرحلة بعد أن نجح في تكريس صورته بوصفه الرجل الذي قاد البلاد بقوة خلال المرحلة الماضية, وفي كل الحسابات فإن أردوغان سيجعل من الانتخابات معركته الحاسمة لإطلاق رؤيته لتركيا الجديدة خلال العقد المقبل وذلك من خلال دستور جديد.

بانتظار نتائج الانتخابات فإنها ستكون بمثابة إطلاق يد أردوغان في كيفية إدارة المرحلة المقبلة, نظرا لأنها تعني:

1- إن نتائج الانتخابات ستكون بمثابة تصويت ليس على شعبية حزب العدالة والتنمية فحسب, بل على سياسة أردوغان ورؤيته لتركيا في المرحلة المقبلة, وعليه أعد أردوغان حزبه للمرحلة المقبلة من خلال تجديد قرابة نحو 60% من نوابه, والقسم الأكبر من هؤلاء يمثل الجيل الجديد.

"
النجاح الحاسم الذي يخطط له أردوغان هو إمكانية وضع دستور جديد للبلاد بدلا من الاستمرار في سياسة التعديلات, وهي سياسة جوبهت بانتقادات داخلية وخارجية لمحدوديتها
"

2- إن النجاح الحاسم الذي يخطط له أردوغان يعني إمكانية وضع دستور جديد للبلاد بدلا من الاستمرار في سياسة التعديلات, وهي سياسة جوبهت بانتقادات داخلية وخارجية نظرا لمحدوديتها في مجال الإصلاح, والنصر الحاسم بنظر أردوغان هنا يعني حصول حزبه على أغلبية كبيرة تمكنه من إقرار دستور جديد من داخل البرلمان.

ويتطلب هذا سحب البساط من تحت أقدام حزب الحركة القومية بحيث يفشل الأخير في الحصول على نسبة 10% المطلوبة لدخول البرلمان كي يتفرد حزب العدالة والتنمية إلى جانب حزب الشعب الجمهوري بالبرلمان, ولعل هذا ما يفسر ترشيح العدالة والتنمية لمجموعة من المرشحين القوميين في بعض الدوائر الانتخابية المحسوبة على القوميين بغية الاستحواذ على أصوات جمهوره.

3- إن نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات وفق ما سبق يعني تسجيل انتصار جديد على القوى التقليدية وتحديدا الجيش الذي بات يدير الصراع مع قوى الإسلام السياسي من وراء الستار, حيث منظمة (أرغينيكون) والتي تدار من قبل مراكز الثقل في المؤسسة العسكرية.

ومن الواضح أن أردوغان وفي تطلعه لإطلاق إستراتيجيته الجديدة يدرك أنه أمام جملة من التحديات الداخلية التي تمنعه من ذلك إذا ظلت الأمور تراوح مكانها, ومن أهم هذه التحديات:

1- التحدي الكردي: لا يخفى على أحد مدى تصاعد حجم القضية الكردية في تركيا, خاصة بعد أن نجح حزب العمال الكردستاني في بناء جناح سياسي قوي له. وإذا ما نجح الأكراد في تحقيق فوز كبير في الانتخابات البرلمانية على غرار الانتخابات البلدية عام 2009, فإن ذلك سيعمق من معاناة أردوغان في المرحلة المقبلة لجهة كيفية التعامل مع القضية الكردية, حيث بات من الصعب عليه وضع سقف أو تصور محدد لهذه القضية, والثابت هنا هو أن أردوغان سيجد صعوبة بالغة في التقرب من المطالب الكردية في المرحلة المقبلة عنفا أو سلما، لتبقى القضية الكردية بمثابة قنبلة في الخاصرة التركية قابلة للانفجار في هذا الظرف أو ذاك.

2- مسألة الأقليات المذهبية كالعلوية أو الدينية منها أي المسيحية, وتحديدا مطالب الأرثوذكس الذين يطالبون بالاعتراف بمسكونية بطريركية الروم الأرثوذكس في إسطنبول ليكون مركزا دينيا عالميا مستقلا على غرار الفاتيكان, وإذا كانت المسألة العلوية مسألة قديمة تتعلق بمطالبة العلويين الذين يقدر عددهم بأكثر من 15 مليون شخص بالهوية الخاصة بهم من تعاليم ومراكز دينية وتمثيل سياسي واعتراف دستوري, فإنها بالنسبة للأرثوذكس مسألة دينية تاريخية حساسة حاضرة في الذاكرة والمكان والسياسات, حيث تحظى هذه المطالب بدعم غربي, ولعل ما قد يصعد من هذه المطالب الثورات الشعبية الجارية في المنطقة.

3- إن القوى الأخرى لن تقبل بتركيا كما يريدها أردوغان, فلهذه القوى أوراقها وعناصر قوتها, فحزب الشعب الجمهوري الوريث التاريخي لحزب أتاتورك استعاد أنفاسه ووحد صفوفه وبات ينتهج سياسة جديدة أقرب إلى البرامج العملية من الشعارات العلمانية السابقة ومقولات أتاتورك, كما أن قائده الجديد كمال كيلجدار أوغلو استطاع أن يضع مجموعة من التكتيكات العملية التي نجحت في رفع شعبية الحزب في الفترة الأخيرة, كما أن القوى الكردية التي تنافس حزب أردوغان على أصوات مناطق الجنوب والشرق تحشد كل إمكاناتها لتوجيه صفعة قوية لأردوغان وسياسته الموصوفة كرديا بالخداع.

الانتخابات التركية والثورات العربية
قد لا يرى البعض وجود علاقة مباشرة بين الانتخابات التركية والثورات العربية نظرا لاختلاف الموضوعين, إلا أنه لا بد للمتابع للسياسة التركية أن يرى هذا الأمر بوضوح خاصة بعد أن حول أردوغان الثورات العربية إلى أحد أهم مضامين خطابه الانتخابي, فأردوغان الذي دعا حسني مبارك إلى الرحيل وتذكيره بحفرة المترين المكعبين, وكذلك دعواته المتتالية للنظام السوري إلى الإصلاح بلغة تحمل النصح والتهديد معا.. هذا الخطاب يثير أسئلة كثيرة ولاسيما فيما يتعلق بسوريا خاصة بعد احتضان تركيا مؤتمر أنطاليا للمعارضة السورية ومقارنة أردوغان بين طائفة زعيم المعارضة التركية كمال أوغلو وطائفة الرئيس السوري بشار الأسد.

"
الانتخابات المقبلة إما أن تكون بداية لمرحلة جديدة يتطلع أردوغان فيها إلى قيادة تركيا خلال العقد المقبل, وإما تكون بداية العد التنازلي لمسيرة صعود الحزب
"

كل ذلك يثير أسئلة في الداخل التركي عن سياسة حزب العدالة والتنمية التي عرفت بأنها بعيدة عن الطائفية, لاسيما وأن مثل هذا الخطاب يحمل مخاطر على الداخل التركي نظرا للانقسامات المذهبية في البلاد حيث الأعداد الكبيرة للعلويين وقدرتهم على خلط الأوراق.

قد يكون مفهوما ركوب أردوغان ميول قاعدته الشعبية الانتخابية, وقد يكون مفهوما في فن السياسة ركوب موجة الثورات العربية باعتبار أن ذلك يظهر تركيا بمظهر الداعمة للتغيير والديمقراطية, ولكن الأكيد هنا أن ممارسة هذا الخطاب يحمل ازدواجية يمكن استثمارها ضد صاحبها, خاصة وأن تركيا ليست بمنأى عن التغييرات الجارية, ويكفي هنا أن نذكر وجود شعب كردي في تركيا محروم من حقوقه دستوريا.

من دون شك, ستكون الانتخابات المقبلة محطة حاسمة في تاريخ حزب العدالة والتنمية , فهي إما أن تكون بداية لمرحلة جديدة يتطلع أردوغان فيها إلى قيادة تركيا خلال العقد المقبل وبتطلعات إمبراطورية وإما أن تكون بداية العد التنازلي لمسيرة صعود حزب العدالة والتنمية في ظل استحقاقات حزبية وسياسية داخلية وأخرى إقليمية ودولية كشفت عن العديد من نقاط الخلل في سياسة الحزب وطريقة إدارة زعيمه للقضايا والملفات الحساسة بروح التحدي والصدام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.