التوافق أولا وليس الدستور أو الانتخابات

العنوان: التوافق أولا وليس الدستور أو الانتخابات



الانفراد سبب الاستقطاب
خطأ اللجوء إلى الشعب قبل التوافق
الحلول الوسط حلول توافقية
عهد وطني لإدارة عملية الانتقال

يعالج هذا المقال موضوع الانقسام السياسي الراهن في مصر بشأن موضوع الانتخابات أولا أم الدستور أولا. وينطلق المقال من أهمية إحداث قدر من التوافق الوطني أولا قبل الحديث عن الدستور أولا أو الانتخابات أولا.

فالمراحل الانتقالية التي تعقب الثورات لا تحتاج ولا تحتمل أن ينتصر فريق لرأيه على حساب الفريق الآخر. كما لن يُكتب النجاح لمسار فرض أصحابه رؤيتهم على الآخر دون حوار وتوافق.

هذا بجانب أن في معظم حالات الانتقال الديمقراطي الناجح، لا يتم وضع الدستور، ولا يُطلب من الجماهير الذهاب إلى صناديق الانتخاب، بعد أسابيع أو شهور من انهيار النظام القديم. ليست هذه دعوة إلى إطالة المرحلة الانتقالية في مصر، وإنما هي دعوة إلى بذل كل الجهود من أجل الوصول إلى حل نهائي وحاسم يقوم على التوافق والحوار ويبتعد كلية عن الانتصار لرؤية فريق واحد.

الانفراد سبب الاستقطاب
لا بد من الاعتراف، بداية، أنه يوجد انقسام سياسي في مصر حول أفضل طريق لبناء النظام الديمقراطي ووضع الدستور، والأخطر أن هذا الانقسام السياسي اقترن، للأسف، باستقطاب أيديولوجي حاد منذ استفتاء 19 مارس/آذار.

سببان أساسيان لهذا الانقسام، أولهما ارتباك المسار الذي حدده المجلس العسكري بعد ساعات من سقوط مبارك، وتشكيله لجنة لتعديل الدستور غير متوازنة في تشكيلها، ثم تصميمه على تمرير التعديلات دون حوار أو نقاش حقيقي، ثم انفراده بتعديل القوانين المكملة للدستور، وفي تعيين المحافظين والوزراء.

"
كان على المجلس العسكري أن يُشرك كافة القوى والشخصيات الرئيسة، التي صنعت الثورة وساهمت فيها، في صنع كافة القرارات المصيرية خلال المرحلة الانتقالية
"

كان على المجلس العسكري أن يُشرك كافة القوى والشخصيات الرئيسة، التي صنعت الثورة وساهمت فيها، في صنع كافة القرارات المصيرية خلال المرحلة الانتقالية.

والسبب الثاني هو قبول الإخوان المسلمين، واصطفاف التيار الإسلامي كله تقريبا وراءهم، بهذا المسار وخروجهم عن الإجماع الوطني الذي كان قائما قبل تشكيل لجنة تعديل الدستور.

للأسف لقد ربط معظم هؤلاء بين تعديل الدستور من جهة وبين بقاء المادة الثانية من الدستور وصد هجوم "علماني" متخيل على الحياة السياسية في مصر من جهة أخرى، أو هكذا صُورت الأمور لهم.

كان على هؤلاء التمسك منذ البداية بضرورة الانتصار لمسار توافقي -أيا كان هذا المسار- بدلا من الاصطفاف وراء مسار لم يخضع للمشاورة والنقاش، وأدى إلى تفريق الجماعة الوطنية. ولنتذكر جيدا أنه بدون دعم الإخوان، والتيار الإسلامي، ما كان لهذا المسار أن يرى النور.

خطأ اللجوء إلى الشعب قبل التوافق
واقع الأمر أن خطأ هذا المسار ليس بالأمر الهين، ففي معظم تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة لا يتم اللجوء إلى الشعب -إنْ في شكل استفتاءات أو انتخابات- بعد أسابيع من انهيار النظام القديم، ليس لعدم جاهزية قوات الأمن فقط كما تصور البعض في مصر، وليس لعدم استعداد الأحزاب الجديدة للحشد أو التعبئة، وإنما لسبب آخر أكثر أهمية هو عدم تصدير خلافات النخب إلى الشارع قبل التوافق حولها.

كما أن وضع دستور جديد لم يتم، في معظم حالات الانتقال، بعد انهيار النظام القديم مباشرة، إذ اقتضى الأمر أن تمنح الجمعيات التأسيسية، التي يُنتخب أو يُعين أعضاؤها، الوقت الكافي للوصول إلى التوافقات المطلوبة لوضع الدساتير.

هكذا سارت الأمور مثلا في جنوب أفريقيا، حيث تم العمل بدستور مؤقت صغير من عام 1993 إلى 1996 ثم دخل الدستور الجديد حيز التنفيذ عام 1996. وفي بولندا بدأ الانتقال الديمقراطي أواخر الثمانينيات أما الدستور الجديد فقد رأى النور بعد استفتاء أجري عام 1997. وفي البرازيل، بدأ الانتقال في النصف الأول من السبعينيات ووضع الدستور الجديد عام 1988. وفي الهند استغرق العمل في الجمعية التأسيسية التي وضعت الدستور نحو ثلاث سنوات من عام 1946 إلى 1949.

وفي أعقاب الثورات على وجه التحديد -حيث تنكسر حالة الخوف لدى الجماهير ويتصور الكثيرون أن بإمكانهم النزول في الشارع متى أرادوا لتحقيق ما يرغبون فيه- يتطلب الأمر إجراء توافقات بين النخب حول مسار المرحلة الانتقالية قبل الذهاب إلى الاستفتاء للاحتكام إلى الشعب.

لهذا كان الأسلم والأوجب في مصر هو حسم الخلافات حول أفضل طريق لوضع الدستور أو لإدارة المرحلة الانتقالية بالتوافق أولا في غرف مغلقة ثم تقديم الأمر للناخبين.

وكان لابد أن تطرح التعديلات لنقاشات وحوارات أوسع ثم تعاد إلى اللجنة لإدخال تعديلات على النصوص المعدلة في ضوء النقاشات التي تمت ثم طرحها مرة أخرى للنقاش، وهكذا حتى حصول أوسع قدر ممكن من التوافق الوطني على التعديلات.

لم تفهم معظم النخب أهمية هذا الأمر، بل وراح البعض يستخف بالدروس والعبر المستمدة من تجارب الآخرين، ويتصور أن مصر حالة فريدة. وقد تحدثت كثيرا عن خطورة هذه الأمور في عدة محافل وفي مناسبات مختلفة، وحذرت من أن أي مسار لا يحظى بتوافق وطني واسع لن يكتب له النجاح. فهذه سنة كونية تكررت في حالات انتقال أخرى.

"
بعد ظهور نتيجة الاستفتاء تصاعدت مخاوف التيارات غير الإسلامية وظهرت مطالب بوضع الدستور أولا، أعادتنا إلى نقطة البداية: الدستور أم الانتخابات؟
"

وقد تأخرت القوى السياسية المعارضة لهذا المسار  -وقد كنت بينهم- في التصدي لهذا المسار وفشلت في التوافق على أفضل طريق لمواجهته، بل وراح البعض يهاجم أنصار التيار الإسلامي ويحذر الناس منهم ويتصور أن هناك صفقة بين المجلس العسكري والإخوان وأن مصر مقبلة على دولة دينية.

وذلك حتى كانت نتيجة الاستفتاء التي فاقمت، كما توقعت، حالة الاستقطاب السياسي. وفي أعقاب صدور تصريحات غير مطمئنة من أفراد محسوبين على التيارات الإسلامية تصاعدت مخاوف التيارات الأخرى وظهرت مطالب بوضع الدستور أولا، لندخل مرحلة استقطاب أيديولوجي حاد، أعادتنا إلى نقطة البداية: الدستور أم الانتخابات؟ وهكذا أصبحت البلاد أمام مسارين لكل منهما شرعية ما وحجج قوية.

الحلول الوسط حلول توافقية
في مثل هذه الحالات لا يجب أن يتصور أحد أن بإمكانه فرض رؤيته على الآخر، فالمباراة ليست صفرية ويجب ألا تكون صفرية إذا أردنا الوصول إلى حل وسط.

الحل في اعتقادي لا بد أن يكون توافقيا عن طريق توافق النخب وقادة القوى السياسية في القاعات المغلقة وبعيدا عن الانفراد والإقصاء، على أن يأتي دور الجماهير لاحقا بالذهاب إلى صناديق الانتخابات بعد أن تتوافق النخب وليس قبله لتفادي انتقال انقسامات النخب إلى الشارع مرة أخرى كما هو حادث اليوم.

والحل التوافقي يقتضي معرفة مخاوف كل طرف من الطرف الآخر، ثم العمل على معالجة هذه المخاوف. أي يجب أن يعالج الحل الوسط مخاوف أنصار الدستور أولا، والتي أهمها احتمال سيطرة الإسلاميين على البرلمان وانفرادهم بتشكيل اللجنة التأسيسية ووضع الدستور.

كما يجب أن يعالج مخاوف أنصار مسار الانتخابات أولا، والتي تدور حول أن المسار تمت الموافقة عليه شعبيا ورسميا في استفتاء شعبي، بجانب أنه لا يجب معاقبة أي فريق على تنظيمه وقوته الشعبية، والمخاوف الخاصة بإلغاء أو تعديل المادة الثانية.

تتطلب الحلول الوسط توقف كل طرف عن محاولة إقناع الطرف الآخر برؤيته أو محاولة فرضها عليه. كما يجب إدراك أن هذه الحلول لن تحقق مطالب طرف واحد فقط.

"
تتطلب الحلول الوسط توقف كل طرف عن محاولة إقناع الطرف الآخر برؤيته أو محاولة فرضها عليه. كما يجب إدراك أن هذه الحلول لن تحقق مطالب طرف واحد فقط
"

فعلى النقيض من هذا، لا بد أن يطرح كل طرف على نفسه السؤال التالي: ما الذي يمكن أن أقدمه للطرف الآخر لكي لا تستمر حالة الاستقطاب ولكي أمنع وصول البلاد إلى حالة قد أفقد فيها كل مطالبي؟ لا بد أن تسأل كل القوى السياسة نفسها هذا السؤال حتى لا نفشل جميعا، وحتى لا تستمر أو تتعاظم حالة الاستقطاب وتسود الفوضى وتطول المرحلة الانتقالية ويعود النظام القديم بواجهات جديدة.

ويجب أن ينطلق الحل التوافقي من المشتركات التي يعلنها الطرفان في مناسبات مختلفة. فالطرفان يعلنان عددا من الأمور ينبغي البناء عليها، على رأسها: عدم انفراد طرف واحد بوضع الدستور، ووضع ضمانات للديمقراطية والتداول على السلطة، والوقوف ضد الحكم العسكري والحكم الثيوقراطي.

عهد وطني لإدارة عملية الانتقال
وأتصور أنه يمكن بلورة الحل الوسط التوافقي في اتفاق أو عهد وطني توقعه كافة القوى الوطنية، يبدأ من الإبقاء على مبدأ الانتخابات أولا مع وضع توافقات وضمانات لكافة الأطراف في شأن ثلاثة أمور رئيسة، هي: ضمانات الحكم الديمقراطي وعدم الانقلاب عليه في النظام السياسي المنشود، وتشكيل اللجنة التأسيسية التي ستضع الدستور وضمان تمثيل كافة القوى الرئيسة فيها، والتنسيق في انتخابات البرلمان القادم وضمان عدم وصول فلول النظام البائد إليه.

يمكن صياغة هذا العهد ليتضمن توافقات حول ديمقراطية النظام ومدنيته في شكل مواد فوق دستورية، أهمها: احترام حكم القانون واستقلال القضاء والتداول على السلطة، الحفاظ على المادة الثانية كمرجعية عليا مع إضافة عبارات لضمان حقوق الأقباط والأقليات الأخرى، حياد الجيش وعدم تسييسه ومدنية جهاز الشرطة، المواطنة ومبدأ الكفاءة في التعيينات، ضمان الحريات الأساسية السياسية والمدنية.

كما يجب أن يتضمن العهد معايير لضمان تمثيل أوسع كافة القوى السياسية الرئيسة في اللجنة التأسيسية التي ستضع الدستور، وضم خبراء النظم السياسية والقانون الدستوري وممثلين عن الجمعيات الحقوقية والمجتمع المدني والنقابات العمالية والمهنية وائتلافات الشباب.

بجانب الاتفاق على اتخاذ القرارات داخل اللجنة التأسيسية بمبدأ الإجماع، وفي حالات الاختلاف الحاد يتفق على أغلبية محددة مثل 75% أو حتى 80% من الأعضاء.

هذا بجانب التعهد بالتنسيق بين كافة القوى السياسية الرئيسة في الانتخابات القادمة بالتوافق على قوائم موحدة وعدم التنافس في الدوائر الفردية إن وجدت.

"
من أجل ضمان الوصول إلى الوثيقة التوافقية واحترامها يجب اشتراك كافة القوى السياسية الرئيسة في التوافق والتوقيع عليها من قبل قادتها
"

أتصور أخيرا أنه من أجل ضمان الوصول إلى هذه الوثيقة واحترامها يجب اشتراك كافة القوى السياسية الرئيسة في التوافق على الوثيقة والتوقيع عليها من قبل قادتها، فلا يمكن تصور نجاحها من دون فصيل سياسي أساسي.

وأتصور أن أهم هذه القوى هي: الإخوان، الجمعية الوطنية، الوفد، حزب الغد، حزب الجبهة، حزب التجمع، الحزب الناصري، الكرامة، الوسط، ائتلافات الشباب الرئيسة، وكافة القوى الرئيسية التي شاركت في الثورة.

وأتصور أيضا أنه يجب دعوة قادة أو مؤسسي الأحزاب الجديدة التي ظهرت مؤخرا بما في ذلك الأحزاب السلفية والليبرالية والاشتراكية، بل ومرشحو الرئاسة أيضا. كما يجب البعد عن الإعلام قدر الإمكان وإنجاز المهمة أولا في جلسات مكثفة والتوقيع عليها قبل الحديث عن مضامينها في الإعلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.