باكستان حائرة بين أميركا وطالبان

باكستان حائرة بين أميركا وطالبان



عُقَد السياسة الباكستانية
تتابع النذر
نحن سيئون ولكن!

اعتادت السياسة الباكستانية منذ الاستقلال (سنة 1947) على أسلوب في الإدارة يعتمد على حفظ ما يمكن أن تتيحه المرحلة القائمة من مكتسبات لصالح أشخاص أو أحزاب بعينهم، دون نظر إستراتيجي يرعى بشكل موسع عموم المواطنين وحقوقهم، ويُدخِل في حسابه مستقبل الدولة ومشروعها برمته.

وليس العيب هنا –فيما أرى- عيب فرد أو اتجاه أو مسلك بعينه، وإلا لسهل بتره أو علاجه، بل هي مشكلة عامة تحمَّل مشروع الدولة الباكستانية كثيرا من الأوزار لأجلها، وأصبح في حاجة إلى كثير من الوقت والجهد للبُرْء منها.

عُقَد السياسة الباكستانية
توجد على وجه مؤكد استثناءات في تلك القراءة التي قد لا يوافق عليها كثيرون هنا في باكستان، خاصة حين نتحدث عن فترات حكم الأحزاب والجماعات السياسية التي ينتمون إليها، ففي نظر أنصار حزب الشعب (پيپول پارتي) تمثل فترات حكم بي نظير بوتو ووالدها ذي الفقار علي بوتو العصر الذهبي لباكستان، فبوتو الأب ترتبط به فكرة المشروع النووي الباكستاني، وبهما معا ترتبط فكرة العودة إلى الديمقراطية وحقوق الشعب في انتخاب قيادته بعد سيطرة الانقلابات العسكرية.

وفي المقابل ينتسب أنصار حزب الرابطة الإسلامية إلى المؤسس محمد علي جِناح الذي يحظى بإجماع شعبي واتفاق نادر على كونه قيادة رمزية للدولة، والذي عاجلته المنية عقب نشأة باكستان ببضعة عشر شهرا فقط، فأصبح أيقونة تُوظَّف للدعاية والدعاية المضادة، فحزب الرابطة يقدم نفسه وريثا شرعيا لجناح وأفكاره، في حين يتهم خصوم الحزب قيادات أجنحته الحالية (نواز شريف وتشودري شجاعت حسين ومن بعدهما برويز مشرف) بالمجافاة التامة لروح ومضمون الرسالة التي أنشأ "القائد الأعظم" دولة باكستان على أساسها.

"
إشكالية الاستقطاب السياسي في الحالة الباكستانية تبدو في تداخل العوامل العرقية واللغوية والمذهبية وتعقدها، بحيث يبلغ كل طرف جهده في الإضرار بغيره وتشويه صورته
"

وأما أنصار ضياء الحق -الذين يمثلون قلة في هذا المعترك، وليس لهم كيان سياسي محدد يمثلهم- فيعدون الجنرال الراحل هو المانع الأعظم الذي حال دون الانسياح الروسي في المنطقة بوقوفه إلى جانب الجهاد الأفغاني، والراعي الأكبر للمشروع النووي لباكستان، وأكبر شخصية سعت من خلال كرسي الرئاسة إلى تأكيد الهوية الإسلامية لباكستان.

وليس عجيبا بعد ذلك أن نصادف مواقف شديدة السلبية من كل تيار تجاه الآخر وزعامته وتاريخه، فضياء الحق في رأي خصومه قتل الديمقراطية، وقاد انقلابا عسكريا ضدها، وأعدم القيادة المنتخبة للدولة متمثلة في بوتو الأب، وتمسح بالإسلام حتى يسوِّغ أفعاله. وأما بي نظير بوتو فهي في نظرهم تعدت وساعدت على التعدي على أموال الدولة على نطاق واسع، وكذلك تأتي أسماء نواز شريف وغيره من الساسة العاملين في الساحة الباكستانية في رأي خصومهم.

وقد نجد هذا الاستقطاب السياسي في كثير من الدول شرقا وغربا؛ مواقف شديدة الإيجابية من الأنصار السياسيين، وشديدة السلبية من الخصوم، إلا أن إشكالية الحالة الباكستانية تبدو في تداخل العوامل العرقية واللغوية والمذهبية وتعقدها، بحيث يبلغ كل طرف جهده في الإضرار بغيره وتشويه صورته، ليس من خلال المنابر والمنافذ السياسية الشرعية، ولكن حتى خلال تفاصيل الحياة اليومية وبصورة حثيثة.

تتابع النذر
لقد ضحى كثيرون من أجل قيام دولة باكستان، ومات مئات الآلاف من مسلمي شبه القارة الهندية عند الانفصال، ومئات الآلاف بعده، لكن بعد أن بدأ المشروع يتخذ لنفسه صورة الدولة الفعلية، بحث أغلب الناس عن نصيبهم من الغنيمة، سواء السكان الأصليون في الأقاليم التي انفصلت عن الهند، والمهاجرون الذين انتقلوا من أنحاء شبه القارة إلى الدولة الجديدة؛ وظهرت العنصرية والإقليمية والعصبية للغة والمسلك الديني والاتجاه القومي كأعلام على مجتمع مريض.

لذلك لا نعجب أن تتحول كراتشي -العاصمة السياسية السابقة والعاصمة التجارية الحالية لباكستان- إلى ساحة حرب حقيقية تعكس عواقب الظلم الاجتماعي الوخيمة، وتعبر عن هذا التشرذم القتَّال الذي أصاب كيان الدولة التي لا تبسط الآن سلطانها كاملا على تلك الناحية الخطيرة من باكستان.

ومع هذا القصور الحاد في إدارة الدولة تتابعت النذر حتى يفيق الباكستانيون من غفلتهم، ويدركوا أن التماس العلاج للبدن المعطوب صار أمرا ملحا، فقد انسلخت باكستان الشرقية (بنغلاديش الحالية) عن جسم الدولة بعد مرور أقل من ربع قرن على نشأتها، والسبب هو العنصرية والعصبية الإقليمية ورفض نتائج الديمقراطية، كما ارتفعت نسبة الفقر والأمية والنهب المنظم للمال العام حتى صارت من أعلى النسب في العالم.

ويمكننا أن نرقب من الدلائل الخطيرة على إخفاق المشروع الباكستاني في الوصول إلى بر الأمان وحال الاستقرار –غير ما سبق– ازدياد أعداد القائلين بأن الانفصال عن الهند كان خطأ في الأصل. مع أن القضية الآن ليست قضية حكم بخطأ هذا الرأي أو صوابه؛ لأن خطوة بهذا الحجم (أي الانفصال عن الهند) لا يمكن الاعتذار عنها بعد القيام بها، وإنما نناقش قضية صحة الانفصال أو خطئه قبل أن نقوم به.

"
الرياح التي هبت وتهب على باكستان من وقت إلى آخر، وهزت كيانها هزا، لم تكن دائما من الخارج كما قد يُتوقع، بل إن ما هب على الكيان الناشئ من رياح الداخل كان أعتى
"

والسؤال الباكستاني الأهم بعد الانفصال هو: كيف يمكن أن ينجح المشروع الجديد ويصل إلى وضع الاستقرار؟ وأما سؤال المرحلة الحالية فهو: كيف يمكن إنقاذ باكستان من الانهيار والفشل؟

وفي ضوء هذا، يجب أن نلاحظ أن الرياح التي هبت وتهب على باكستان من وقت إلى آخر، وهزت كيانها هزا، لم تكن دائما من الخارج كما قد يُتوقع، بل إن ما هب على الكيان الناشئ من رياح الداخل كان أعتى من كل رياح هبت عليه من الخارج، بما في ذلك مؤامرات الهند للفتك بالجارة "المارقة"، والتدخل الأميركي المتواصل في الشأن الباكستاني.

إن السياسة الباكستانية القائمة على أسلوب الصفقات لم توفر لهذا الكيان مناعة ضد التدخل الخارجي، بل أدت حساسية المنطقة، والقراءات المخابراتية الدقيقة لسلوك القيادة الباكستانية، إلى ولادة حالة نادرة في تاريخ الكيانات السياسية جعلت قابلية التدخل الخارجي في باكستان عالية من خلال ثقوب وشروخ خلّفتها المطامع الشخصية والخلافات المذهبية والحزبية.

نحن سيئون ولكن!
الدول في طور الانتقال والتحول تحتاج من مواطنيها من يعطي لا من يأخذ، ومن يضحي لا من ينتظر المكافأة؛ وذلك إلى حينِ أن تصبح الأمور طبيعية، وهذه الروح هي التي تتحول بها البدايات المتواضعة في حياة الدول والمؤسسات إلى تحولات عملاقة، والخطوات الأولى في حياة الأفراد والجماعات إلى قفزات عبقرية.

ومع تلك الصورة المعتمة لباكستان بعد أكثر من ستين عاما من نشأتها، فإن أبواب الأمل لا تزال منفتحة، وقدرة الشعب على استعادة المبادرة قائمة، وسد فوهات الفساد الواسعة والضيقة ليس أمرا مستحيلا، خاصة أن غنى الدولة ليس من نوع الغنى المؤقت المرتبط بثروة قابلة للنضوب، بل يتمثل في ثروات متجددة تمثلها الأرض الزراعية والثروة المائية والحيوانية الكبيرة، مع ثروة بشرية كبيرة ومتنوعة النشاط، إضافة إلى كنوز ضخمة من المعادن يحويها باطن الأرض.

إن نجاح مشروع القنبلة النووية الباكستانية، بخبرات وطنية خالصة، كقوة ردع ضرورية في مواجهة الهند أو الجارة النووية المعادية، يمثل نموذجا للنجاح شبه المستحيل الذي يمكن أن يتحقق في باكستان، ولو لم يعِ الباكستانيون هذا الدرس فإنهم سيكونون آثمين دينيا ووطنيا.

ولعل أول ما ينبغي أن يصارح به الباكستانيون أنفسهم هو أنهم "سيئون بدرجة كبيرة" في الأداء الاجتماعي والسياسي على السواء، وأنهم يتأرجحون في أغلبهم بين نهجيْن ليسا في صالح المشروع الباكستاني:

الأول: التبعية لأميركا بما تمثله من عناية بمصالح واشنطن ولو على حساب باكستان ومستقبلها؟

الثاني: طالبان بما تمثله من طاقة قتالية فتية، لكنها تحتاج إلى توجيه أفضل لصالح الدولة التي يمثلون جزءا من بنيانها.

وإذا كان توجيه الخطاب إلى الأميركيين لكي يرفعوا أيديهم عن باكستان لا يجدي كثيرا، فليكن الخطاب إلى التشكيلات السياسية والاجتماعية المختلفة التي تضمها باكستان، وأول ذلك هو ضرورة توظيف العلاقة الإيجابية مع الصين سياسيا كما توظف اقتصاديا وثقافيا، لا لمواجهة أميركا، ولكن للهروب من الانفراد الأميركي بإسلام آباد وتبعاته الخطيرة، خاصة أن الصينيين هم أكبر داعم لباكستان، وأن بكين تدخر جارتها الصديقة لمصالحها السياسية والاقتصادية، ومن حق الباكستانيين أن يفعلوا هذا أيضًا.

وأحسب أن إدارة العلاقات مع كل من الصين والولايات المتحدة في وقت واحد -بدون أن تؤدي إلى صراع جديد في المنطقة بين القوى الكبرى في العالم- تحتاج إلى حنكة وإخلاص من السياسي الباكستاني، بعيدا عن أساليب الخداع واستغلال أطراف ضد أخرى.

"
أول ما ينبغي أن يصارح به الباكستانيون أنفسهم هو أنهم "سيئون بدرجة كبيرة" اجتماعيا وسياسيا، وأنهم يتأرجحون بين نهجين ليسا في صالح المشروع الباكستاني
"

وهذا بدوره يحتاج إلى بث الثقة في نفوس المواطنين تجاه قيادة سياسية نظيفة، وعلاج الجبهة الداخلية من أزماتها، والتأكيد على القواسم المشتركة التي تجمع أبناء الشعب، وإشاعة ثقافة الحوار، والتركيز على ثقافة الهدف الواحد والتعبيرات المتعددة، وليس هناك شعب أشد تنوعا في الأعراق واللغات من الشعب الأميركي، ومع ذلك يسود السلام الاجتماعي أغلب الولايات والمدن الأميركية، والسبب هو ما ترسخ في العقل الأميركي من أن الاستقرار في مصلحة الجميع.

وأما طالبان، فلابد لهم من اليقين بأن لا تناقض بين المحافظة على باكستان ورعاية الإسلام وتعاليمه، بل إن المحافظة على الدولة فرض ديني، والاستمرار في الحرب الداخلية إهدار لأغلى طاقات الأمة في غير محلها.

ولعل الثورات العربية في تونس ومصر قدمت للجماعات المجاهدة في العالم صورة أخرى قد تكون مناسبة أو محتاجة إلى شيء من التطوير لمواجهة الأنظمة الفاسدة، وتوجيه الدولة إلى رعاية مصالح الأمة، لا العمل لمصلحة هذا الطرف وحده أو ذاك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.