بن لادن حيا وميتا

بن لادن حيا وميتا - الكاتب: باسم عالم


فرح الكثيرون, وغضب الكثيرون، وارتفعت وتيرة التحليلات والآراء المتباينة حول هذا الرجل، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. وأردف ذلك كله، تلك المجموعة التي أبت إلا أن تكذب الخبر وتصر على أن الرجل لا يزال على قيد الحياة، على نسق حياة "صدام حسين" الذي سوف يظهر يوما ما، وكأنهم يهربون من واقعهم المؤلم ليلوذوا بالخيال والأماني واضعين رؤوسهم في الرمال إنكارا للحقيقة ورفضاً لها.

"
إن كان بن لادن مجاهداً فلن يكون آخر المجاهدين في سبيل الله، وإن رأى البعض الآخر أنه إرهابي مارق فإن هذا الفكر لا ولن ينتهي بموت شخص
"

وليس هذا مجال الإقناع أو الاقتناع بصحة الرواية ولا بوجوب الحزن عليه أو الفرح بمغادرته دنيانا، إذ إن ثمة حقائق يجب أن نرتكز عليها ونؤمن بها كان ما كان الحدث أو كائناً ما كان الرجل بالنسبة لنا.

إن موت أسامة بن لادن (رحمة الله) لم يكن بالأمر المستغرب ولا يجب أن يكون بالأمر المستنكر، فالموت مصير كل حي، وسواء نظر إليه البعض بوصفه مجاهدا في سبيل الله أو أصر البعض على أنه شخصية إرهابية مارقة، فإن طبيعة العلاقة الصدامية بينه وبين القوى الغربية كانت تقود وبشكل مضطرد إلى هذه النهاية المحتومة.

فإن كان مجاهداً فلن يكون آخر المجاهدين في سبيل الله، وقد مات واستشهد قبله من هم خيار من خيار، وإن رأى البعض الآخر أنه إرهابي مارق فإن هذا الفكر لا ولن ينتهي بموت شخص، كما أنه لم يبن على جهد شخص بعينه.

إن ما حدث ليس سوى لحظة تاريخية هامة، ولكنها بلا شك لحظة عابرة سوف تليها الكثير من الأحداث العظام الجسام في تاريخنا وعالمنا العربي والإسلامي المعاصر.

ولعل موت الرجل وتصفيته كان خيرا وأشرف له من أن يتم عرضه سجيناً مكبلاً ذليلاً في إطار محاكمة صورية مسبقة النتائج كما حدث للرئيس صدام حسين (رحمه الله)، بل ولعل دفنه في ظلمات بحر العرب (وإن كان قد تم خوفا من خلق رمزية وصورة خيالية لمكان دفنه أو منعاً من اتخاذه مزاراً) قد خلق رمزية وجدانية خيالية لدى مناصريه ومناوئيه على حد سواء، بل ولدى شعوب الأرض التي سمعت به وتابعت أخباره دهشة وإعجابا أو حنقاً وبغضاً، وأجزم أن هذا الحدث إن حدث في العهد الأغريقي لجعلَ منه فلاسفة اليونان ورواتها أوديسة أخرى وملحمة من ملاحم التاريخ الذي تتناقله الأجيال حتى يومنا هذا.

والمتأمل لما حدث محاولاً تحليل معطياته ونتائجه، إنما يفعل ذلك من وحي تطلعاته وأفكاره وما يؤمن به مهما كانت نظرته نظرة تحليلية علمية محايدة، ولعل ذلك سوف ينعكس على الرأي المقدم أردت ذلك أم لم أرد.

أولاً: إن وجود بن لادن في باكستان على النحو المستقر الذي اتضح من خلال مكان إقامته وكيفية عيشه والمنطقة التي بقي فيها (حيث ذكرت الروايات الصادرة أنه بقي في المقر منذ أغسطس/آب 2010 حتى تاريخ الهجوم عليه) إنما يكشف عن حقيقة طالما ظلت احتمالاً قوياً، وهي رمزية أسامة بن لادن القيادية دون اضطلاعه الحقيقي بالعمل التطبيقي والميداني ولا التدبير الفعلي لتنظيم القاعدة، بل أكاد أجزم بأن التحول الفكري المفاجئ الذي طرأ على أسامة بن لادن والذي انعكس في أطروحاته وأدبياته، إنما كان نتيجة إغراق تنظيم القاعدة في الفكر الجهادي المصري بعد أن لحق به د. أيمن الظواهري وأتباعه إلى أفغانستان وانضموا إليه قسراً بأمر من الملا محمد عمر الذي أمر كل العرب أن يكونوا تحت لواء واحد يرأسه أسامة بن لادن.

"
أصبح بن لادن رهينة لإرادة تنظيم الجهاد المصري بقيادة الظواهري من جهة، والحصار العالمي والأميركي عليه والذي جعل منه عنواناً للإرهاب والعنف من جهة أخرى
"

وهنا أصبح أسامة بن لادن رهينة لإرادة تنظيم الجهاد المصري بقيادة الظواهري من جهة والحصار العالمي والأميركي عليه الذي جعل منه عنوانا للإرهاب والعنف من جهة أخرى.

ولأن أقوى التنظيمات للقاعدة من حيث المواءمة الفكرية ونوعية الروح الجهادية لبن لادن، كان تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية واليمن، يليه العراق ثم المغرب العربي، فقد اضطر المتنفذون من أتباع الظواهري في التنظيم للإبقاء على أسامة بن لادن رأساً لهذا التنظيم ورمزاً له للحفاظ على الأتباع والتأثير عليهم من خلال هذا الرمز.

ثانياً: يقودنا هذا الحديث إلى ما نراه لا محالة كائناً ألا وهو صعود الظواهري كرجل أول في تنظيم القاعدة وهو ما سوف يُحدث وبشكل فوري أو مرحلي صدعاً حقيقياً بين أطراف التنظيم من جهة والمركز من جهة أخرى، حيث إن تنظيم الجهاد المصري بعناصره وقياداته لن يجد القبول لدى الأطراف، وهذا سوف يؤدي إلى الاكتفاء برابط أدبي أو انفصال علني وقيام مجموعة أو مجموعات جديدة منبثقة وبقيادات محلية أو إقليمية، وفي جميع الأحوال سوف يفقد التنظيم رمزيته وزخمه الإعلامي وإن لم يفقد آلياته وقدراته على المجابهة قولاً وفعلاً في المرحلة الحالية، وهذا سيجعل الأطراف الإقليمية والمحلية أكثر قدرة على التحوّر والتكيف مع المستجدات فكريا وتكتيكياً كما شهدنا من تنظيم الجهاد في مصر.

ثالثاً: سواء قتل أسامة بن لادن في أغسطس/آب 2010 منذ أشهر بعيدة أو قتل يوم الإعلان عن مقتله، فإن توقيت الإعلان في حد ذاته وفي هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها عالمنا العربي والإسلامي له دلالات هامة لا يمكن تجاهلها على الصعيد الإقليمي والعالمي، والمتتبع لآراء وأطروحات مراكز الأبحاث وصناعة القرار الغربية سوف يجد تحولا نوعيا بدأ مع انهيار النظام الدكتاتوري في تونس حيث أصبح الجميع بين عشية وضحاها ينادي بأن الوقت قد حان لإعادة صياغة السياسة الغربية على وجه العموم والأميركية على وجه الخصوص لتأخذ في الاعتبار حق الشعوب واستثمار الجهد وحسن النوايا الأميركية في الشعوب لا في الأنظمة، وما نتج عن ذلك من ضرورة تقبل إرادة الشعوب ورغبتها في تقرير مصيرها والاستقلال الفعلي في حكمها لأنفسها.

وهذا يعني بطبيعة الحال صعود نجم التيارات الإسلامية وحتمية وصولها إلى الحكم أو المشاركة الفعالة فيه عاجلاً أم آجلاً، وهو ما أدركته أوساط صنع القرار في الغرب إدراكاً واضحاً لا لبس فيه، وقد تجلى هذا الإدراك في مد قنوات الاتصال وإعادة فتحها مع التيارات الإسلامية السياسية في المنطقة.

"
على أميركا والغرب أن يتقبلوا نتائج الثورات العربية وأن يذعنوا لحقيقة وجود الإسلاميين كقوة ضاربة في الساحة العربية والإسلامية 
"

ويعتبر هذا التوجه الجديد توجه المرغم الذي فقد جميع استثماراته على مدى جميع العقود السابقة في المنطقة وهو يراها تذهب أدراج الرياح في أعقاب الأنظمة الزائلة، ولكي تستعيد الولايات المتحدة الأميركية والغرب مكانتهم وتأثيرهم وإن بشكل جزئي فلا بد لهم أن يميلوا مع الشعوب الثائرة (كما حدث في مصر) وأن يساندوها (كما يحدث في ليبيا) وأن يتقبلوا نتائج تلك الثورات وأن يذعنوا لحقيقة وجود الإسلاميين كقوة ضاربة في الساحة السياسية العربية على وجهه الخصوص والإسلامية على وجه العموم.

وهذا بيت القصيد والعقبة الكأداء التي تواجه صانع القرار والسياسة الأميركية في ظل رأي عام محلي طالما استخدم ذريعة بن لادن وجعل منه رمزاً شيطانياً وفزاعة يمرر من خلالها سياساته، وهذا ما دفع بالرئيس باراك أوباما ليعلن نبأ مقتل بن لادن بنفسه وفي هذا التوقيت بالذات ليحصل على المصداقية والتفويض الشعبي الحقيقي بعد إزالة هذا الترميز الشيطاني من الساحة، ليكون بذلك بطل الحرب والسلام.

فهو الذي أزال الشيطان والعدو الأكبر للولايات المتحدة وليس بمقدور أحد أن يطعن بعد ذلك في نواياه وصلابته وأميركيته ومرجعيته الدينية والوطنية التي كانت دائماً محل تشكيك وتهكم، مما سيمكنه بعد ذلك من فتح صفحة جديدة مع الإسلام السياسي في تونس ومصر وسوريا واليمن وفلسطين وغيرها، دون أن يتهمه أحد بالتنكر لدماء الضحايا الأميركيين ودماء الجنود الأميركيين بأي حال من الأحوال.

بل سيمكنه أيضاً من قبول طالبان كمرجعية حاكمة في أفغانستان حيث إن العداء لطالبان كان مرتبطاً بإيوائها بن لادن، وبذلك يتمكن من الانسحاب من أفغانستان وحفظ ماء وجهه ويخرج بمظهر المنتصر الذي حقق مراده بإنهائه لبن لادن ووجوده ورمزيته حيث كان تسليمه مطلباً وشرطاً لعدم غزو أفغانستان في حينه.

رابعاً: أما أدبيات الإرهاب والمقاومة والجهاد فقد استفادت استفادة عظيمة من وجود أسامة بن لادن كرمزية استخدمها كل طرف لصالح أدبياته ومصطلحاته وأطروحاته.

"
بخروج بن لادن عمليا من الساحة السياسية وإن بقي يخيم عليها بروحه إلى حين، فإنه يعطي مجالاً ضخماً لحركات المقاومة الشعبية كي تنطلق وبقوة لتفعيل مرادها
"

واليوم بخروج أسامة بن لادن عملياً من الساحة السياسية، وإن بقي يخيم عليها بروحه إلى حين، فإنه يعطي مجالاً ضخماً لحركات المقاومة الشعبية سواء كانت مقاومة للمحتل أو ثورة على الطغيان كي تنطلق وبقوة لتفعيل مرادها والعمل عليه في مأمن من وصمة الإرهاب والانتماء للقاعدة الذي ظل مستخدماً عبر العقدين الماضيين ضد كل من قاوم الظلم أو الاحتلال كائناً من كان.

ومهما كانت توجهاته ونواياه سوف لن يكون بمقدور الحكومات المستبدة في المستقبل القريب أن تتهم الثوار والمقاومين بأنهم من تنظيم القاعدة، فنظام القذافي لن يستطيع أن يستميل الغرب بادعاءاته، والحكومة اليمنية اليوم في طريقها لفقد هذه الورقة التي كانت رابحة في السابق بل ولعل الغرب قرر سحب هذه الورقة من البازار السياسي المحلي وإعلان تصفيات بالجملة لبضاعته القديمة المتمثلة في الأنظمة المستبدة المهترئة إيذاناً بوصول بضاعة جديدة ذات طعم وروح وصناعة محلية ذاتية بقبول غربي لا يملك غيره في أسوأ الظروف أو بتسويق غربي في أحسن الظروف.

رحمه الله.. لقد كان عبر مراحل حياته وتغيراته الفكرية (تلك التي وافقناه عليها وتلك التي خالفناه فيها) شخصا متسقا مع نفسه، صادقا مع ضميره، كما كان رمزية مؤثرة، أراد ذلك أم لم يرده، وقد كانت لحياته ولمواقفه قيمة مرحلية فتحت آفاقا كثيرة وأغلقت أخرى، كما أن لموته أيضا قيمة مرحلية أغلقت الكثير من الأمور وفتحت الكثير من الآفاق. والله من وراء القصد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.