ضرورات الجبهة القومية العروبية الإسلامية في تونس
السياسة فن عريق وعلم مستحدث، لا يعلم كنهها سوى من خبرها ممارسة وفعلا تاريخيا، ومن قضّى الليالي الطوال حفرا وتنقيبا ودراسة لتجارب الحكم والوصول إليه على اختلافها وتنوعها مبنى ومعنى.
ويرتكز الفن العريق على مبدأين رئيسيين هما التفاوض والمصلحة، ومن لا يتقن ذلك فلا شأن له بهذا الفن مهما ادعى من معرفة بأصول السياسة ومقتضياتها.
" يرتكز فن السياسة العريق على مبدأين رئيسيين هما التفاوض والمصلحة، ومن لا يتقن ذلك فلا شأن له بهذا الفن مهما ادعى من معرفة بأصول السياسة ومقتضياتها " |
وفي السياسة قاعدة ثالثة مكملة للمبدأين أن لا عدو دائم ولا صديق دائم، وفيها أيضا قاعدة رابعة أن شروط اللعبة السياسية المتغيرة كثيرا ما تكون في حل من السجال الأيديولوجي الثابت.
إن هذه الديباجة كانت ضرورية لأن الحديث موجه إلى ثلاث قوى -وهي الأحزاب والتنظيمات القومية، والعروبية اليسارية، والإسلامية- لم تمارس السياسة قط في تجاربها الوطنية والمحلية الطويلة الممتدة لما يناهز نصف قرن، وإن كانت مارست الأيديولوجيا والأفكار، على الرغم من أرصدتها النضالية المتفاوتة.
ولما كان سبيل السياسة منتهاه الحكم فإن هذه القوى لم تذق للسلطة طعما منذ نشأتها وإلى يوم الناس هذا، ولعل قلة خبرتها بالعمل السياسي هو ما حرمها ذلك الحق المكفول بشرعيتها الشعبية والمجتمعية والتاريخية، أكثر من تربص الأعداء بها. ولكي لا يبقى الحديث أقرب إلى الرموز والتلميحات وجب تفصيل القول في تلك القوى.
إن المقصود بالقوى القومية هي الأحزاب القومية العربية مجسدة في حركة الشعب الوحدوية التقدمية بوصفها حزبا ممثلا للتيار القومي بمعناه الواسع والذي يتبنى ثنائية العروبة والإسلام بخلفية يوسفية وناصرية، وكل من حركة البعث وحزب الطليعة العربي الديمقراطي بوصفهما حزبين قوميين بخلفية بعثية، وغير ذلك من التنظيمات والشخصيات القومية ذات الوزن الفكري والتاريخي الكبير.
أما القوى العروبية فتتشكل من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ومجموع الأحزاب اليسارية التي تؤمن في عقيدتها السياسية بهوية تونس العربية وبإسلامها الحضاري وليس العقائدي فقط، وترفض الانخراط في التبعية والولاء للفرنكفونية الذي تميزت به بعض الحركات اليسارية التقليدية، والعمالة للولايات المتحدة الأميركية وللاتحاد الأوروبي وهو خيار من تداول على السلطة في تونس منذ نهاية الاحتلال الفرنسي وإلى غاية ثورة 14 يناير المجيدة.
إن الأحزاب اليسارية العروبية في تونس عديدة ولها رصيد نضالي محترم، ونكتفي بالإشارة إلى حزب العمل الوطني الديمقراطي ومن شابهه في البرامج والاختيارات، على سبيل الذكر لا الحصر. أما الأحزاب الإسلامية فيمكن تحديدها في حركة النهضة بوصفها حزبا إسلاميا استفادت قياداته من تجربتها في المهجر عندما احتكت بتجارب المجتمع المدني والسياسي فغيرت الكثير من مقولاتها التي أعلنت عنها في برنامجها التأسيسي لسنة 1981، وفي حزب الإصلاح والتنمية ذي الخلفية الإسلامية التقدمية الذي يعود من حيث النشأة إلى منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم.
وهذه الجبهة من المفترض أن تكون مفتوحة لكل من يرغب في الانتماء إليها على أرضية الأهداف المشتركة التي تحددها لنفسها في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ تونس.
إن دوافع تشكيل الجبهة القومية العروبية الإسلامية كثيرة وهي ضرورات أكثر منها خيارات، وعلى الفرقاء السياسيين الذين تناولناهم بالحديث أن يعتبروها شرا لابد منه فيتجاوزون صراعاتهم التاريخية الدامية من أجل هدف أسمى هو المصلحة الوطنية بأكملها والتأسيس لنموذج جديد في العمل السياسي يكون قدوة للأحزاب العربية كما كانت ثورة تونس النموذج المحتذى.
إن ضرورات هذه الجبهة عديدة فهي الوحيدة القادرة على قطع الطريق أمام التجمعيين بمسمياتهم الكثيرة الجديدة "الوطن والوفاق والآفاق والأحرار.. إلخ" لكي لا يعودوا إلى السلطة مرة أخرى وهم من احتكرها أكثر من نصف قرن انتهى إلى الوبال على البلاد والعباد، وهم من تمرّس بالممارسة السياسية الميدانية وخبر خفاياها، وهم من يمتلك المال السياسي القادر على شراء المقاعد والأصوات والذمم، وهم الأقدر على ممارسة السياسة مجرّدة من الحد الأدنى من الضوابط الأخلاقية بعد أن تعلموا ذلك في أكاديمية التجمع العريقة في الفساد والإفساد.
" الجبهة القومية العروبية الإسلامية هي الوحيدة التي تستطيع إنهاء القبلية والعائلية والجهوية السياسية فتقطع على الساحل إمكانية العودة إلى السلطة " |
والجبهة هي الوحيدة التي تستطيع إنهاء القبلية والعائلية والجهوية السياسية فتقطع على الساحل إمكانية العودة إلى السلطة بعد أن احتكرها لمدة تجاوزت نصف القرن وتقطع على "بلدية الحاضرة" الارتقاء إلى كرسي الحكم، وفق هذه الخلفية -خاصة وأن كافة المؤشرات تقول إن بعضهم قد انطلق في حملته الانتخابية من أجل الوصول إلى هرم الحكم بعد أن ساعدته الأقدار على احتلال الموقع الذي يمكنه من الحديث باسم الثورة التي لم يسمع عنها ناهيك عن عدم مشاركته فيها قبل 14 يناير. وإذا كان هذا الأمر تجنيّا فأين هي المقالات الصحفية أو النصوص الأكاديمية وأين هي التصريحات الإذاعية أو التلفزية المؤيدة لانتفاضة 17 ديسمبر/كانون الأول يوم أن انطلقت من سيدي بوزيد وتداعت في القصرين وتالة قبل أن تلتهب في بقية المناطق لتصل بعد شهر إلى الحاضرة, ثورة أسقطت بن علي- يوضع حد للتوزيع غير العادل للسلطة.
وبالتالي إعادة بنائها وفق الانتماء السياسي وليس وفق الانتماء الجهوي بوصفه أحد أبرز مظاهر الفساد السياسي في تونس المعاصرة، ومن ثمة تأمين التوزيع العادل للثروة الضامن الوحيد لعدم العودة إلى تفقير وتهميش المناطق الداخلية والجنوبية للبلاد، وهي التي كانت وراء طرد الاستعمار ومنبع الحركات الاحتجاجية الكبرى التي عرفتها تونس في ظل الدولة البورقيبية وحكم بن علي.
وهذه الجبهة قادرة على منع صعود جواسيس الدول الأجنبية إلى أعلى هرم السلطة وتولي الحقائب الوزارية والاستشارية في قصري الرئاسة والحكومة، والأمثلة على ذلك كثيرة منذ أيام بورقيبة وإلى يوم سقوط بن علي، ولا تحتاج تفصيل القول فيها.
إن الجبهة القومية العروبية الإسلامية هي الحد الأدنى الممكن أمام القوى والأحزاب والشخصيات غير المشكوك في وطنيتها واعتزازها وافتخارها بانتمائها إلى هذا الشعب في قراه وأريافه ومدنه وحواضره التاريخية مهما كانت تلك المناطق بعيدة عن مركز السلطة.
وإن التقاءها في مثل هذه الكتلة التاريخية سيمكن من انتخاب مجلس وطني تأسيسي لا يقع التلاعب فيه بهوية الشعب والبلد، فبدل من النقاش حول لغة الدولة ودينها وجب الحديث عن لغة الشعب ودينه لأن الشعب هو الأصل وليست الدولة، ووجب التنصيص الواضح على انتماء تونس إلى أمتها العربية وإلى العالم الإسلامي كترجمة عملية لبعدي اللغة والدين.
وهذا التحديد الواضح للانتماء والهوية ستليه التزامات سياسية وتنموية تحدّ من التبعية للرأسمال العالمي وصناديقه القارضة وللدول الكبرى وما يعنيه ذلك من تحكم في القرار السياسي وبالتالي تحقيق الندية السياسية.
فإذا تم الاتفاق على ذلك فإن طبيعة النظام السياسي يجب أن تكون موضوع حوار، ولما كانت الخيارات محدودة بعد استبعاد النظام الرئاسي بوصفه مصدر الكوارث التي عرفنها، فإن النقاش يجب أن يتركز على الأفضلية بين النظامين البرلماني والنصفي (نصف رئاسي ونصف برلماني)، وهذه مسألة يمكن الخوض فيها في ندوات فكرية مفتوحة مع الاستعانة بخبراء القانون والسياسة وعلم الاجتماع السياسي.
" أدرك الجميع من تجربة المؤتمر القومي الإسلامي أن ما يجمعهم أكبر بكثير مما يفرقهم, وأن المشاريع الاستعمارية أكبر من أن يواجهها كل طرف على حدة " |
وكل ذلك تكون أرضيته احترام الديمقراطية وما تعنيه من مشاركة والقبول بالتعدد السياسي والتداول السلمي على السلطة بعيدا عن كافة أنواع الإقصاء السياسي والإعلامي أو أي نوع آخر من أنواع الإقصاء يكون مصدره الدين أو الجنس أو اللون أو الجهة، وتجنب ممارسة العنف بأشكاله سواء كان ماديا أو رمزيا، واحترام القانون والعمل على تغييره وفق الآليات الدستورية التي سيقع الاتفاق عليها، واحترام الحريات الفردية والعامة وغيرها من المبادئ الإنسانية التي لا يوجد اعتراض عليها من أي كان من القوى المشار إليها على اختلاف ألوانها وعقائدها السياسية.
لقد سبق للقوى القومية والعروبية اليسارية والإسلامية أن خاضت تجربة مشابهة ولا تزال تُعرف بالمؤتمر القومي الإسلامي الذي يضم شخصيات وممثلي أحزاب وتنظيمات من القوى المشار إليها، وقد أدرك الجميع أن ما يجمعهم أكبر بكثير مما يفرقهم وأن حجم التحديات والمشاريع الاستعمارية المعدة للوطن العربي بما في ذلك تونس أكبر من أن يواجهها كل طرف على حدة.
كما بينت تلك التجربة أنه أمام مصلحة أمة بأكملها تذوب الخلافات الصغيرة وتختفي التناقضات الجانبية والثانوية ويصحو الضمير الحي في القوى المناضلة.
إن هذه الدعوة في نهاية الأمر صرخة واستغاثة من مثقف وجامعي وأكاديمي، قبل أن تكون نداء سياسيا، من أجل مصلحة بلده الذي أُستبيح عرض وشرف أبنائه لأكثر من نصف قرن باسم الاستقلال والحداثة والعقلانية.. وكلها كانت مجرد شعارات مزيفة، ولكي لا يردد كل طرف من الأطراف المذكورة مقولة "أُكلت يوم أكل الثور الأبيض" بعد فوات الأوان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.