الحرية والطائفية في سوريا

الحرية والطائفية في سوريا



تعاني كل المجتمعات البشرية من انقسامات أفقية كالفروق بين الأغنياء والفقراء، وأخرى عمودية كالانشقاقات الطائفية والدينية. فالتصدع الأفقي في المجتمع مُعين للثورة حافز عليها، بينما يعوق التصدع العمودي مساعي الثورات والتغيير.

وليست المشكلة في "التمايز" المذهبي أو الديني أو العرقي، بل في "التمييز" ضد قطاع من المجتمع على أساس هذا الانتماء، سواء كان هذا القطاع أغلبية أو أقلية.

والصراع السياسي الدائر في سوريا اليوم هو صراع بين الشعب والسلطة، بين الاستبداد والديمقراطية، وليس صراعا بين السنة والعلويين.

"
كثيرا ما وجدت السلطة القاهرة في الانقسامات الاجتماعية العمودية فرصة للاحتماء والتوظيف لصالح بقائها، وهذا ما تحاول السلطة السورية فعله اليوم
"

لكن الصراعات السياسية كثيرا ما لبست لبوس الدفاع عن الدين والطائفة والمذهب. وكثيرا ما وجدت السلطة القاهرة في الانقسامات الاجتماعية العمودية فرصة للاحتماء والتوظيف لصالح بقائها، من خلال تأليب بعض المجتمع على بعض، وضرب بعضه ببعض، وهذا ما تحاول السلطة السورية فعله اليوم.

فقد تردد في خطاب الرئيس السوري بشار الأسد يوم 30/3/2011 الحديث عن "الفتنة" ثماني مرات، والوعد بـ"مكافحة الفتنة" و"درء الفتنة" و"ضرب الفتنة" و"وأد الفتنة". كما تردد في الخطاب لفظ "المؤامرة" مفردا وجمعا سبع مرات، ولفظ "الدم" بالمفرد والجمع ست مرات. أما لفظ "الطائفة" ومشتقاتها فترددت سبع مرات في فقرة واحدة من الخطاب.

ولا يمكن فهم الخطاب دون تأملٍ في هذه الألغام اللغوية الثاوية في بنية الخطاب، وبحثٍ في خلفية البنية السلطوية والعلاقات الطائفية في سوريا. فما يستبطنه الخطاب حقيقة -وإن لم يصرح به تماما- هو العلاقة المعقدة بين الأقلية العلوية الحاكمة والأغلبية السنية المحكومة في سوريا، وهذا ما نحاول هنا وضعه في سياق الزمان، لنبين مصلحة الشعب السوري الثائر في اجتناب أي انزلاق طائفي يطيل عمر الاستبداد ويضاعف ثمن التغيير.

على خلاف الخريطة الطائفية في العراق التي امتازت بالثبات النسبي على مر القرون، امتازت الخريطة الطائفية في بلاد الشام بالكثير من المرونة والتقلب.

فقد عرفت تلك البلاد مولد أعظم الإمبراطوريات السنية في التاريخ، وهي الدولة الأموية، ثم شهدت في العصر العباسي دولا شيعية عدة، منها الدول الحمدانية والمرداسية والعقيلية في حلب، ودولة بني عمار في طرابلس.

وقد كانت غالبية أهل الشام سنية خلال العهد الأموي والعهد العباسي الأول، لكن الأغلبية تحولت شيعية في نهاية العصر العباسي، كما لا حظ العديد من المؤرخين المعاصرين لتك الفترة.

فحينما زار الرحالة المغربي ابن جبير دمشق في أيام صلاح الدين الأيوبي كتب عنها: "وللشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة، وهم أكثر من السنيين بها، وقد عمروا البلاد بمذاهبهم" (رحلة ابن جبير، ص 252). ثم رجعت الغالبية سنية في نهاية الدولة الأيوبية وبداية عصر المماليك فالعثمانيين.

ورغم التفسير الطائفي للتاريخ الذي يصور السنة والشيعة اليوم معسكريْن متناقضين منذ الأزل، فإن السنة والشيعة الإمامية في الشام وقفوا في خندق واحد ضد الهجمة الصليبية التي دامت قرنين من الزمان.

وقد قاد قاضي حلب الشيعي أبو الفضل ابن الخشاب حركة الجهاد المبكر في شمال الشام ضد الصليبيين، واستنجد بقادة عسكريين سنيين أتراك، من ماردين والموصل وخلاط في سبيل ذلك.

وخطب ابن الخشاب في الجيش التركي السني خطبة بليغة في ساحة معركة "حقل الدم" الحاسمة، التي كانت أول انتصار للمسلمين على الصليبيين. وقد خصص الكاتب اللبناني المعاصر أمين معلوف الفصل الخامس من كتابه "الحروب الصليبية كما رآها العرب" لدور ابن الخشاب في محاربة الصليبيين، وعنون الفصل بعنوان "مقاوم بعمامة".

ثم جاء صلاح الدين الأيوبي جيلا بعد ذلك، فقاد أعظم حركة تحرر من الصليبيين، وكان في ركابه المؤرخ والشاعر الشيعي يحيى بن أبي طي، مؤلف أول سيرة لصلاح الدين بعنوان: "كنز المؤمنين من سيرة الملك صلاح الدين".

وكلتا الصورتين: صورة الفقيه الشيعي المعمَّم وهو يقود قوة عسكرية سنية، والقائد العسكري السني الذي يجمع حوله علماء السنة والشيعة وهو يقارع الصليبيين، صورة جميلة زاهية لا نجد مثيلا لها في هذا الزمن الطائفي.

ولم يغب عن هذا الإجماع السني الشيعي ضد الصليبيين يومذاك سوى طائفة الإسماعيلية النزارية المعروفة تاريخيا باسم الحشيشية.

والعلويون في سوريا اليوم فرع من الشيعة الإمامية انبتَّتْ صلته بمنبعه قرونا مديدة، وعاش أتباعه عزلة جغرافية وفكرية وشعورية عن جمهور المسلمين. وقد نشأ لديهم فراغ فكري وفقهي هائل، بحكم العزلة والانكفاء على الذات، والانبتات عن خضم الثقافة الإسلامية العريض، السني منه والشيعي على حد السواء.

وقد أدت هذه القطيعة إلى ظهور أصوات التكفير والتشهير من كل جانب، فوصم علماء السنة والإمامية العلويين بأنهم "غلاة" و"كفرة"، بينما وصم العلويون السنةَ والإمامية بأنهم "نواصب" و"مقصِّرة".

ثم بدأ العلويون في القرن التاسع عشر التواصل مع محيطهم، والبحث عن جذورهم الضائعة، فأسس بعض شيوخ الطائفة مساجد في مناطقهم لأول مرة في التاريخ، وشجعهم العثمانيون على ذلك، وعلى تبني الفقه الحنفي الذي يعد يومذاك قانون الإمبراطورية.

"
في مطلع القرن العشرين حاول الفرنسيون إقناع العلويين بجذور مسيحية لا أصل لها، وبالاستقلال عن سوريا في اللاذقية وطرسوس، وأسسوا لهم دويلة عاصمتها اللاذقية 
"

وفي مطلع القرن العشرين حاول الفرنسيون إقناع العلويين بجذور مسيحية لا أصل لها، وبالاستقلال عن سوريا في اللاذقية وطرسوس، وأسسوا لهم دويلة عاصمتها اللاذقية بين الأعوام 1922 و1937.

وكانت الغاية من ذلك فصل الطائفة العلوية عن الحركة الوطنية السورية الداعية إلى استقلال كامل سوريا عن الاستعمار الفرنسي. لكن العلويين لم يقتنعوا بالانفصال عن عمقهم العربي الإسلامي، وكتب قادتهم إلى الخارجية الفرنسية ينددون بنشاط اليسوعيين الفرنسيين في مناطقهم، في رسالة وقعها معهم قادة سنة ومسيحيون سوريون، في تلاحم رائع في وجه الغازي ومكائده.

وقد أدرك مفتي فلسطين المجاهد أمين الحسيني مطلع القرن العشرين وضع العلويين التاريخي ومفترق الطرق الذي يمرون به في رحلة العودة إلى الجذور بعد الخروج من تيه العزلة، فبادر ببصيرة دعوية وحكمة سياسية إلى إصدار فتوى عام 1936 تعلن: "إن هؤلاء العلويين مسلمون، وإنه يجب على عامة المسلمين أن يتعاونوا معهم على البر والتقوى، ويتناهوا عن الإثم والعدوان، وأن يتناصروا جميعا ويتضافروا… لأنهم إخوان في الملة، ولأن أصولهم في الدين واحدة…". لكن فتوى أمين الحسيني لم تتعضَّد بجهد سني منهجي لكسب العلويين، وإنما تلاها جهد شيعي إمامي مكثف في شكل تيار يدعو إلى إرجاع الفرع العلوي إلى أصله الإمامي.

وقد قاد هذا التوجه من قادة العلوية: سليمان الأحمد (والد الشاعر المعروف بدوي الجبل)، وعبد الرحمن الخيِّر، ومن قادة الإمامية: الشيخ محمد جواد مغنية، والشيخ حسن الشيرازي الذي زار سوريا عام 1972 لغاية "إجلاء الهوية الدينية للعلويين"، و"إزاحة الضباب التاريخي الذي يلفُّهم".

وقد اعترفت الدولة السورية للعلويين بأنهم شيعة إمامية قبل أن يحكموا سوريا بعقدين من الزمان، وذلك من خلال المرسوم الرئاسي التشريعي رقم 3 لعام 1952، وقرار مفتي الجمهورية رقم 8 من العام ذاته.

وحينما حكم العلويون سوريا عام 1970 كان حكمهم مستظلا بظل القومية العربية، لكن ذلك لم يكفكف من الحساسية التاريخية الكامنة بينهم وبين الثقافة السياسية السنية ذات الجذور الأموية في سوريا، فزادت الحاجة إلى إخراج الطائفة من عزلتها، من أجل بناء شرعية سياسية لحكمها، ودمجها في المجتمع السوري العريض.

وتلقف علماء الإمامية هذه اللهفة العلوية إلى الاندماج الاجتماعي والشرعية السياسية، فأصدر الإمام موسى الصدر –مثلا- فتوى عام 1973 تنص على أن العلويين "مسلمون شيعة"، وذلك -على ما يبدو- بطلب من حافظ الأسد الذي كان يواجه مأزق نص دستوري ينص على أن رئيس الدولة يجب أن يكون مسلما.

ثم تعمقت الصلة بين العلويين والإمامية، وزادت المصلحة السياسية بعد الثورة الإيرانية، وزادت الشقة بين العلويين والسنة بعد انتفاضة الإخوان المسلمين في سوريا مطلع الثمانينيات، والمذابح المروعة التي تلتها، ولم تستطع العقود الثلاثة الماضية أن تمحو ميراث الثمانينيات الدموي، بل دخل شيء من الفكر السلفي إلى النسيج الفكري الإخواني السوري، فانضاف إلى بقايا تراث تسنُّن أموي قديم في سوريا، كما توطدت المصلحة السياسية والقرابة العقلية بين العلويين والشيعة الإمامية في لبنان وإيران.

وكان الأخطر من كل ذلك بقاء المظالم التي نتجت عن تلك المذابح دون تصحيح حتى اليوم. فآلاف السجناء والمفقودين والمهجَّرين السوريين لا يزالون ينتظرون لفتة عدل وإنصاف منذ ثلاثة عقود.

"
من الخطأ الاعتقاد بأن رحلة العودة إلى الجذور دفعت العلويين إلى التشيُّع الإمامي من غير رجعة، أو أن صراع حافظ الأسد مع الإخوان قد جعل القطيعة نهائية بين العلويين والسنة
"

على أن من الخطأ الاعتقاد بأن رحلة العودة إلى الجذور دفعت العلويين إلى التشيُّع الإمامي من غير رجعة، أو أن صراع حافظ الأسد مع الإخوان قد جعل القطيعة نهائية بين العلويين والسنة.

والحق أن البحث عن الخروج من العزلة دفع العلويين في اتجاهات ثلاثة، هي: اتجاه العودة إلى الجذور الإمامية، واتجاه العلمنة التي جسَّدها حزب البعث وقد كان مُنظِّره الأبرز في سوريا علويًّا هو زكي الأرسوزي، واتجاه الاندماج الاجتماعي في المجتمع السني العريض عبر التزاوج والتعليم.

ولا ينبغي أن ننسى أن زوجة الرئيس بشار الأسد تنحدر من أسرة سنية عريقة من حمص، وليست حالته استثناءً ضمن النخبة العلوية اليوم.

فرحلة العلويين من العزلة إلى الاندماج لا تزال في بداياتها. وإذا كانت وشائج المذهب القديم تدفع العلويين إلى إيران، فإن رابطة العروبة أقوى عندهم من ذلك. فالجذور الإمامية والمصلحة السياسية الآنية دفعت بالطائفة العلوية شطر التشيع الإمامي، والشعور القومي والسعي إلى الاندماج في شعبها يدفعان بها إلى التسنن.

ربما يحتاج العلويون في سوريا اليوم أن يدركوا -قبل فوات الأوان- أن ما سيؤمِّن مستقبلهم ليس التشبُّث بحكم سوريا، أو الاصطفاف الأعمى مع سلطة الأسد، بل بناء حكم ديمقراطي، والخروج من المنطق الطائفي برمَّته.

فمساهمة العلويين في الثورة الشعبية في سوريا ليست واجبا وطنيا فقط، بل هي ضرورة مصلحية لمستقبلهم. ونقض المنطق الطائفي حاجة وجودية للسنة وللعلويين على حد السواء، ليجد السنة المسالك مفتوحة أمامهم وهم غالبية الشعب، وليطمئن العلويون على مستقبلهم من الخوف الوجودي المتحكِّم في كل الأقليات الحاكمة.

أما قادة الثورة الشعبية في سوريا فهم بحاجة إلى طمأنة العلويين على مستقبلهم ومكانهم في سوريا المستقبل، وإقناعهم بالحقيقة الواضحة، وهي أن النظام قد يحاول اتخاذهم سُلَّما إلى أمجاده، والمغامرة بمستقبلهم ومستقبل أبنائهم بوضعهم وجهًا لوجه مع غالبية شعبهم السوري، في معركة سيكون الشعب فيها هو المنتصر حتما.

كما تحتاج قيادة الثورة الشعبية ومعاضدوها من أهل الرأي والقلم ترجيح كفة المستقبل على الماضي، فليس مما يخدم الثورة البحث في جذور العلويين ومحاكمة ما كان ينسب إليهم في كتب التراث من عقائد تاريخية مضمحلَّة هم يتبرؤون منها اليوم، بل المهم هو إعادة دمجهم في جسد الأمة الواحدة، عبر خطاب سياسي وفكري وفقهي جامع، يتأسَّس على عموم العدل والحرية والاعتراف بحق الاختلاف، وعلى منهج الفطرة الإسلامية الذي يُصدِّق الناس في عقائدهم وفي أنسابهم دون تكلف أو امتحان.

وباستعارة بعض مصطلحات الدكتور علي شريعتي، نقول إن "التسنن الأموي" لا يصلح أرضية لبناء سوريا الديمقراطية وغير الطائفية التي يطمح إليها الشباب السوري الثائر اليوم، كما لا يصلح لهذه المهمة "التشيعُ الصفوي" المشحون بغريزة الانتقام من الأمويين وتراثهم، ومن أمثلته قول الشيخ حسن الشيرازي إن تأسيسه للحوزة الزينبية في سوريا عام 1976 جاء "جبرا للتاريخ الأموي… ولإحياء مذهب أهل البيت عليهم السلام في عاصمة الأمويّين أعداء أهل البيت".

"
الانتقال من ثقافة الإكراه السلطوي والنبذ الاجتماعي إلى ثقافة الإقناع والاحترام، هو السبيل لفتح مسالك المستقبل أمام الشعب السوري الأبي
"

فليس استمرار القهر أو الأخذ بالثأر خيارا صالحا للثورة السورية، وليس العنف خيارا لها أيضا، وهي تحمل وراءها تراث الثمانينيات البغيض الذي لم تجفَّ دماؤه بعد.

ومما يبشر بالخير أن الشباب الثوار في سوريا والمثقفين السوريين الأحرار الداعمين لهم على دراية تامة بمخاطر المنزلق الطائفي، كما أن بعض المؤشرات تشير إلى محاولات للتنسيق السني العلوي في اللاذقية ضد العصابات الموالية للنظام، وانضمام بلدة (نُبُّل) الشيعية الإمامية إلى الحراك الثوري، ونزول الأكراد بثقلهم وراء الثورة. وهذا ما سيضمن بقاء الثورة السورية ثورةَ شعب بحق، ويجعل ترويضها أو حرْفها عن مسارها أمرا عصيًّا.

إن الانتقال من ثقافة الإكراه السلطوي والنبذ الاجتماعي إلى ثقافة الإقناع والاحترام هو السبيل لفتح مسالك المستقبل أمام الشعب السوري الأبي. ويبدو من خلال الدراسة التاريخية للعلاقات السنية والشيعية في شتى تجلياتها أن مشكلة العلويين في سوريا أكثر تعقيدا من الناحية السياسية، بحكم تراكم المصالح والولاءات، والارتباط بأحلاف سياسية في لبنان وإيران وغيرهما.

لكنها أقل تعقيدا من الناحية الاعتقادية والفكرية، فليس لدى العلويين تراث فكري أو فقهي ثقيل يتعصبون له، وإنما ربطهم النظام السوري بنفسه فيما يشبه العصبية القبلية، واتخذهم مطية لسلطانه كما اتخذ آخرين مطية.

فعلى العلويين أن يتحرروا من هذا اللعب السلطوي بمصائرهم، ويدركوا أنْ لا مجال للحياد اليوم بين موكب الحسين الآتي من مروج درعا، وكتائب يزيد المتحصنة في قلعة دمشق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.