تونس على طريق البناء الديمقراطي

تونس على طريق البناء الديمقراطي - الكاتب: توفيق المديني



إذا كان إسقاط الدولة البوليسية التونسية شكل قطيعة معرفية، ومنهجية، وفكرية وسياسية وأخلاقية مع عالم الاستبداد ومنطقه وفكره وسياساته وأخلاقه، فإن الثورة الديمقراطية التونسية لم تكتف بهذا الإسقاط على الرغم من ضرورته.

بل إن قوى المجتمع المدني الحديث المحرك الأساس لهذه الثورة، تناضل باستماتة في سبيل الانتقال إلى بناء نظام ديمقراطي جديد في تونس، يمنع العودة إلى دوامة التسلط البوليسي من جديد، ولا يسمح بإعادة إنتاجه، حيث إن الخروج من عالم الاستبداد يقتضي تحولا جذريًّا في الوعي والممارسة الديمقراطييْن. وكلما كان هذا التصور المنشود إنسانيًّا وديمقراطيًّا كان مناوئًا للعنف بجميع صوره وأشكاله ودرجاته.

"
القوى السياسية الراديكالية، وتكوينات المجتمع المدني الحديث في تونس، هي القوى المدافعة عن الثورة المستمرة من أجل بناء نظام ديمقراطي جديد
"

وعلى الرغم من فرار الرئيس السابق بن علي، وتشكيل حكومة محمد الغنوشي على إثر ذلك، فإن القوى السياسية الراديكالية، وتكوينات المجتمع المدني الحديث، والاتحاد العام التونسي للشغل، وهي القوى المدافعة عن الثورة المستمرة من أجل بناء نظام ديمقراطي جديد في تونس، ظلت تعتبر أن الحكومة المؤقتة، هي عبارة عن تحالف مشبوه بين طرفين، طرف أول يمثل بقايا رموز "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي" وإن أعلنت الاستقالة منه فهي استقالة لم تغير من حقيقة الأمر شيئا ما دام حزب التجمع الحاكم سابقًا هو الذي أوصل هؤلاء إلى مواقع حكم البلاد استنادًا إلى شرعية انتخابية مزيفة لا تعبر عن إرادة حقيقية للشعب، وطرف ثان يمثل رموز بعض أحزاب المعارضة القانونية حسب تصنيف نظام بن علي ومن انضم إليهم من الرموز الانتهازية في المجتمع المدني دون أية شرعية حقيقية للجميع.

ولما كان  استمرار هذا التحالف في الحكومة المؤقتة يعيق عملية القطع الثوري مع نظام بن علي البوليسي، ويعطي نفسًا جديدًا للقوى المعادية للثورة لكي تطفو على المشهد السياسي التونسي، ويجعل الثورة الديمقراطية التونسية عرضة للمصادرة والالتفاف عليها، فقد ركزت "جبهة 14 يناير/كانون الثاني 2011" التي أعلن عن تشكيلها في 22 يناير/كانون الثاني 2011، باعتبارها «إطارًا سياسيا يعمل على التقدم بثورة شعبنا نحو تحقيق أهدافه والتصدي لقوى الثورة المضادة"، في أولويات مطالبها على حلّ "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم سابقا، وعلى انتخاب مجلس وطني تأسيسي، بهدف صياغة دستور جديد لتونس.

والحال هذه، فإن أكبر إنجازات الثورة التونسية تمثل في حلّ حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم سابقا، بوصفه حزبًا شموليا، حيث تنتشر فروعه في جميع أنحاء تونس، وكان في أوج قوته يضم حوالي مليونين ونصف مليون عضو من أصل عدد سكان إجمالي قدره عشرة ملايين نسمة.

فهو ككل الأحزاب الشمولية الحاكمة ليس له أية أيديولوجيا معروفة، سوى أنه جهاز أمني هلامي جنّد نفسه لخدمة الحاكم والدولة البوليسية، وله علاقات غير مشروعة بين رجال المال ورجال السلطة.

وجميعها مظلات تتفرخ تحتها ممارسات الفساد الممنهج والنهب المنظم للشعب. تلك هي حالة الأحزاب الشمولية الفاسدة في كل من تونس ومصر، التي احترقت في وهج الثورة إلى الأبد.

وقد حققت الثورة التونسية انتصارًا جديدًا بتمكنها من الحصول على قرار نهائي من القضاء التونسي يوم الأربعاء 9 مارس/آذار 2011، بحلِّ حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم سابقا إبان عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وهو ما أثار احتفالات واسعة في الشارع التونسي الذي لم يتراجع أمام محاولات الحزب بث الفوضى في البلاد والبقاء في السلطة بعد فرار بن علي.

وأعلنت المحكمة الابتدائية في العاصمة التونسية أنها "قررت حلّ التجمع الدستوري الديمقراطي وتصفية ممتلكاته وأمواله" عن طريق وزارة المالية. وكان نائب وزير الداخلية التونسي بن مراد قد صرّح قائلاً: "لقد تم حل التجمع الدستوري الديمقراطي وبذلك تحقق أحد أهم أهداف الثورة".

وأضاف "إن هذا الحكم لا يعتبر حكمًا نهائيًّا لأن الحزب موضوع القضية في مقدوره تقديم قضية استعجالية لاستئناف الحكم، غير أن طلب الاستئناف لا يوقف تنفيذ الحكم".

"
المبزع:
تونس دخلت مرحلة جديدة أساسها ممارسة الشعب لسيادته كاملة في إطار نظام سياسي جديد يقطع نهائيا بلا رجعة مع النظام البائد
"

إن خارطة الطريق التي يراها مجلس حماية الثورة الذي يضم حوالي 14 حزبًا سياسيًّا والاتحاد العام للشغل وجمعيات المجتمع المدني، مناسبة في تونس، تكمن في دعوة الرئيس المؤقت إلى حلّ الحكومة الحالية والدخول بصورة عاجلة في مشاورات واسعة من أجل ضمان أوسع وفاق وطني حول اختيار الوزير الأوّل، وتشكيل حكومة مؤقتة لتصريف الأعمال مشهود لأعضائها بالكفاءة وعدم التورّط مع النظام السابق، وتنتهي مهامّها بانتخاب المجلس التأسيسي، ولا يكون لأعضائها حقّ الترشّح للانتخابات اللاحقة للفترة الانتقالية الرئاسية والتشريعية.

كما تعهّد المجلس في بيانه، بتقديم خطّة متكاملة ومحدّدة في الصيغ القانونية والعملية وفي التوقيت، من أجل انتخاب مجلس تأسيسي يضع دستورا جديدا للجمهورية ويتولى إدارة المرحلة الانتقالية تكريسا للشرعية الشعبية على أن ينحلّ المجلس الوطني لحماية الثورة فور انتخاب المجلس التأسيسي.

وأمام الضغط الشعبي المستمر، استجاب بالفعل السيد فؤاد المبزع رئيس الجمهورية المؤقت لمطالب الشعب التونسي وقوى المجتمع المدني، بتجسيد القطيعة النهائية السياسية والمؤسساتية مع النظام السابق، من خلال الكلمة التي توجه بها إلى الشعب التونسي مساء الخميس 3 مارس/آذار 2011، والتي أكد فيها دخول تونس في "مرحلة جديدة أساسها ممارسة الشعب لسيادته كاملة في إطار نظام سياسي جديد يقطع نهائيا بلا رجعة مع النظام البائد".

و"عملا بأحكام الفصل 57 من الدستور وحفاظا على الدولة وعلى استمرارها وديمومتها ومن منطلق الوفاء لأرواح الشهداء والحرص على تجسيم مبادئ الثورة" أعلن السيد فؤاد المبزع التزامه بمواصلة مهمته رئيسَ جمهورية مؤقتًا بعد أجل 15 مارس/آذار 2011 خلافا لما أشيع وذلك حتى إجراء الانتخابات.

ولغاية تحقيق هذا الهدف تم ضبط خطة عمل بالنسبة للمرحلة القادمة والحرص على أن تكون محطاتها واضحة ومواعيدها مضبوطة والمشاركة فيها مفتوحة لجميع الأطراف السياسية وكافة مكونات المجتمع المدني المعنية. وأعلن أن هذا البرنامج يتضمن المراحل الأساسية التالية:

أولاً: اعتماد تنظيم مؤقت للسلطات العمومية مكون من رئيس الجمهورية المؤقت وحكومة انتقالية برئاسة السيد الباجي قائد السبسي. وينتهي العمل بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية يوم مباشرة المجلس الوطني التأسيسي مهامه إثر انتخابه انتخابًا شعبيًّا حرًّا تعدديًّا شفافًّا ونزيهًا.

ثانيا: وقد حدد تاريخ انتخاب هذا المجلس بيوم الأحد 24 يوليو/تموز 2011.

ثالثا: وحتى يكون انتخاب المجلس الوطني التأسيسي انتخابا ديمقراطيا طبقا لمبادئ الثورة يتعين إعداد نظام انتخابي خاص لذلك.

رابعا: بعد صدور الأحكام الانتخابية الجديدة يبدأ الإعداد الفعلي للعمليات الانتخابية.

"
الرئيس المؤقت يؤكد أنه سيسعى لتجسيد الانتقال الديمقراطي ووضعه في أيادي مجلس وطني تأسيسي يكون خير معبر عن إرادة الشعب
"

وأكد رئيس الجمهورية المؤقت أنه يحدوه عزم قوي على تنفيذ هذا البرنامج بكل صدق وبكل شفافية لتجسيد الانتقال الديمقراطي ووضعه "في أياد أمينة، أيادي مجلس وطني تأسيسي يكون خير معبر عن إرادة الشعب في بناء أسس تونس المستقبل تونس الحرية والكرامة".

وفي السياق عينه أعلن رئيس الحكومة التونسية المؤقتة الباجي قائد السبسي، يوم الثلاثاء 7 مارس/آذار2011، تشكيلة حكومته الجديدة المؤلفة من 22 وزيرا بينهم 5 وزراء جدد، حيث لم تعد تضمّ أيا من وزراء الحكومة الأخيرة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.

واضطر قائد السبسي الذي تولى رئاسة الحكومة، لأن يقوم فورًا بتعديل الحكومة التي ورثها عن سلفه محمد الغنوشي بعد استقالة خمسة وزراء.

وكان من أولى الإجراءات التي اتخذتها حكومة الباجي قائد السبسي، القرار الذي اتخذته وزارة الداخلية التونسية بإلغاء إدارة أمن الدولة، والقطع نهائيا مع كل ما من شأنه أن يندرج بأي شكل من الأشكال تحت منطوق "الشرطة السياسية" من حيث الهيكلة والمهمات والممارسات.

وأوضحت وزارة الداخلية في بيان صدر عنها مؤخرًا أن هذه "الإجراءات العملية جاءت تماشيًا مع قيم الثورة ومبادئها والتزامًا باحترام القانون نصًّا وممارسةً وتكريسًا لمناخ الثقة والشفافية في علاقة الأمن بالمواطن وحرصًا على معالجة السلبيات المسجلة في ظل النظام السابق في مستوى هذه العلاقة".

وتندرج هذه الإجراءات والقرارات في إطار الرؤية الجديدة لمهام وزارة الداخلية ومواصلة ما شرعت فيه من خطوات عملية للمساهمة في تحقيق مقومات الديمقراطية والكرامة والحرية.

وما أن تم تحديد موعد 24 يوليو/تموز المقبل لإجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، حتى صادق مجلس الوزراء التونسي في اجتماعه يوم 18 مارس/آذار 2011على مشروع مرسوم ينص على حل المجالس الأربعة: مجلس النواب ومجلس المستشارين (غرفتي البرلمان) والمجلس الدستوري والمجلس الاجتماعي والاقتصادي، حيث إن هذه المجالس التي يهيمن عليها أنصار الحزب الحاكم سابقا انتهت عمليًّا مع الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وحل التجمع الدستوري الديمقراطي، وأصبح حلها رسميًّا مطلبًا للشارع التونسي.

ولم يمض على تشكيل ثالث حكومة انتقالية في تونس سوى أسبوعين حتى بدأ فريق رئيس الوزراء الباجي قائد السبسي في تنفيذ تعهداته بإعادة هيبة الدولة بعد قرار بسجن ثلاثة من أبرز معاوني الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، هم: عبد العزيز بن ضياء المستشار الأول لبن علي، وعبد الوهاب عبد الله مستشاره الإعلامي، وعبد الله القلال وهو وزير داخلية أسبق بتهم فساد مالي.

وينظر إلى سجن ثلاثة من أبرز معاوني بن علي على أنه خطوة جريئة لم تتخذها حكومة الغنوشي الذي شغل أيضا منصب وزير أول في عهد بن علي. وكان رئيس الوزراء الحالي الباجي قايد السبسي قد تعهد عند تسلمه منصبه بأن يعيد هيبة الدولة من خلال استعادة الأمن وملاحقة كل المسؤولين المتورطين في قضايا فساد.

ولكي تشق الثورة الديمقراطية في تونس طريقها بنجاح، ومن دون مصادرة منهجية لمحتواها وأهدافها، فقد اجتمعت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في تونس يوم 26 مارس/آذار 2011 للاتفاق على توسيع تركيبتها تعزيزا لتمثيليتها.

وكانت تركيبة الهيئة مثار جدل واعتراض من قبل القوى السياسية اليسارية والإسلامية، فضلاً عن تكوينات المجتمع المدني، بسبب ضمّ هذه الجنة شخصيات دعت إلى مساندة ترشح الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي لانتخابات 2014.

وكان الأستاذ عياض بن عاشور رئيس الهيئة قد أعلن في تصريحات للصحفيين على هامش الاجتماع أنه "تلافيا للاتهامات بالإقصاء سيتم توسيع تركيبة الهيئة من 71 عضوا حاليا إلى نحو 130 بهدف تمثيل أوسع للأحزاب السياسية والجهات والشخصيات الوطنية".

وأقر بأنه "كان هناك إقصاء لكنه غير متعمد… وسيتم توسيع تمثيل الأحزاب ليزداد عدد الأحزاب الممثلة في الهيئة وعدد ممثليها من واحد إلى ثلاثة"، مشيرا إلى ضرورة أن تكون جميع القوى ممثلة "من إسلاميين ويساريين وقوميين عرب".

كما سيتم توسيع تمثيل المنظمات وخصوصا الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) وعمادة المحامين لتمثل كل منها بأربعة مندوبين. وسيتم تمثيل الجهات بـ24 ممثلا، أي بواقع ممثل عن كل ولاية "بعد أن يقترح الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أسماء على الهيئة العليا بالتنسيق مع مجالس حماية الثورة في الجهات".

"
مطلوب الآن العمل على صياغة دستور ديمقراطي لدولة مدنية حديثة هي دولة الكل الاجتماعي، دولة المواطنين الأحرار
"

و بما أن القضية الجوهرية المطروحة الآن في تونس تتمثل في انتخاب المجلس التأسيسي، الذي سيتولى الإشراف على إنجاز دستور جديد للبلاد، فإن هذا الأمر يتطلب تشكيل لجان متخصصة من مختلف الأطياف السياسية الوطنية والديمقراطية، ومن رجال القانون الأكفاء، تكون مهمتها الأولى صياغة دستور جديد للبلاد، مستأنسة في ذلك بأرقى الدساتير الديمقراطية في العالم، لا سيما في البلدان الأسكندنافية، والولايات المتحدة الأميركية.

دستور جديد يؤكد على الفصل الفعلي والحقيقي بين السلطات، وعلى استقلالية السلطة القضائية، حيث كان القضاء في عهد النظام البوليسي السابق خاضعًا ومتواطئًا، وفي ظل وجود أكثر من 100 قاض "فاسد" من بقايا حقبة بن علي أصبح مطلب إخراجهم ضرورة لتطهير السلطة القضائية، والتأكيد كذلك على حرية واستقلالية الصحافة بوصفها تمثل سلطة رابعة تمارس دورها الرقابي لتكون مع السلطة القضائية المستقلة تمثل السلطة الموازنة للسلطة التنفيذية، وعلى التداول السلمي للسلطة من دون اللجوء إلى استخدام القوة، وعلى ضمان الحريات العامة والفردية للمواطنين.

أي بصورة إجمالية العمل على صياغة دستور ديمقراطي لدولة مدنية حديثة هي دولة الكل الاجتماعي، دولة المواطنين الأحرار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.