ما بعد التدخل الدولي في ليبيا

الخطورة الدائمة للتدخل الدولي
شرور الاستبداد وشرور التدخل
الواجب بعد التدخل الدولي
نتحدّث عن التدخل الدولي في ليبيا من موقع متابعة الثورة عن بعد، ونبيح لأنفسنا التسرّع في إصدار الأحكام على أولئك الذين يتحرّكون بثورتهم في أتون ما واجهته وتواجهه من "حرب قمعية رهيبة"، ممّا لا يكاد يعرف التاريخ الحديث في المنطقة العربية له مثيلا، اللهمّ إلا بدرجة مشابهة في سوريا عندما شهدت ما شهدت من إجرام استبدادي قبل ثلاثين سنة.
كما أنّنا نكتب متأثرين -ربما أكثر ممّا ينبغي- بتوجّهات وتصوّرات وتطلّعات ذاتية متعدّدة، تحمل عناوين إسلامية وعلمانية وقومية ودينية ووطنية و"ليبرالية"..، بينما يتحرّك الثوّار من منطلق واحد ولهدف واحد: إنقاذ الأرواح، أرواح الأطفال والنساء والشيوخ والرجال من دمويّة استبدادٍ يمارس الإجرام يوما بعد يوم منذ 42 سنة.
الخطورة الدائمة للتدخل الدولي
إنّ كلّ تدخل دولي في ليبيا -وغير ليبيا- في الوقت الحاضر، وفي كلّ وقت، خطير ومرفوض..، وإن تحوّلت القوى الدولية إلى قوى صادقة فيما ترفعه من شعارات بشأن الحريات والحقوق والدفاع عن الشعوب الأخرى.
التدخل الدولي مرفوض لأنه لا يصدر -كما يعلّمنا التاريخ القريب والبعيد- إلا عن مطامع دولية، ولا تسعى القوى التي تمارسه إلا لتحقيق مصالح أنانية.
حتى وإن وُجد في الدول المعنية أفراد وفئات ومنظمات ينطلقون فعلا من منطلقات إنسانية مشتركة، ومبادئ ومثل قويمة –وهم جديرون بالتواصل والدعم المتبادل- إنّما قد يمارس هؤلاء بعض الضغوط على صانعي القرار وقد يؤثّرون في بعض جوانبه..، ولكنّ القرار الدولي -لا سيّما فيما يتعلق بالحرب والسلم- تصنعه القوى المتنفذة، ولا تزال هذه القوى المتنفذة حريصة على الهيمنة بكل شكل من أشكالها، وعلى مختلف الأصعدة، وفي مختلف الأمكنة..، ولئن صدقت ذرائعها بصدد الإنسان وحقوق الإنسان في حالة استثنائية من الحالات، فيكفي أن يوصلها التدخل الدولي عبر تلك الذرائع إلى وضع من الأوضاع الجديدة في بلدٍ ما أو منطقة ما، لتعمل مجدّدا وفق دوافعها الأصلية، وتستغلّ ما وضعت عليه يدها من إمكانات وما يمكن أن تجده من مرتكزات جديدة لمتابعة ممارسة الهيمنة.
" من الخطورة بمكان التسليم بأنّ الثورات الشعبية السلمية البطولية الحضارية قد أثّرت على القوى الدولية، فأُعجبت بإرادة الشعوب وما تصنع، وأصبحت حريصة على دعمها! " |
هذا ما يسري على ليبيا وسواها، وعلى حقبة الثورات العربية ومن قبلها ومن بعدها..، ومن الخطورة بمكان إغفال هذه الحقيقة، والتسليم بأنّ هذه الثورات الشعبية السلمية البطولية الحضارية قد أثّرت على القوى الدولية، فأُعجبت بإرادة الشعوب وما تصنع، وأصبحت حريصة على دعم إرادتها، بغضّ النظر عن مواطن التناقض بين هذه الإرادة ومطامع الهيمنة.
ولئن غابت –ولا تغيب- مطامع ما في استغلال الثروات، النفطية وسواها، أو التجارية والاستثمارية، أو حتى السياسية والاقتصادية والحضارية والأمنية جميعا، فهل يمكن أن يغيب في صناعة قرارات التدخل الدولي، مفعولُ تناقض إرادة الشعوب العربية والإسلامية مع واقع السياسات الغربية وما فيها من انحياز مطلق إلى الباطل الصهيوني، وهو جزء مندمج حتى النخاع في باطل الهيمنة الدولية؟
ليس السؤال المطروح على صعيد قضية التدخل في الدولي هو: هل نقبل به عن بعد أو لا نقبل؟، إنّما نواجه جملة من الأسئلة التي علينا طرحها والتعامل مع الوقائع القائمة على أساسها، وفي مقدمتها:
1- أصبح التدخل الدولي واقعا قائما..، فما الذي يجب صنعه للحدّ من أضراره؟
2- أصبح التدخل الدولي واقعا قائما..، فما الذي أدّى إليه، وكيف نحول دون تكراره؟
3- هدف التدخل الدولي المعلن رسميا هو إنقاذ ليبيا وأهلها، وهو هدف سليم والوسيلة مرفوضة، فما الذي يمكن أن يحقّق الهدف ويمنع من "تغوّل الوسيلة" لتحقيق أهداف أخرى؟
شرور الاستبداد وشرور التدخل
لا بدّ من أن ينطلق استيعاب الطريق التي أوصلت إلى التدخل الدولي في ليبيا –بغض النظر عن الموقف الواجب خلاله ومن بعده- من واقع ليبيا وأهلها والحكم الاستبدادي فيها.
أهل ليبيا الثائرون ثائرون على الاستبداد الشاذ القائم فيها..، وليس على قناعه القومي الناصري أو توجّهه الأفريقي. وواقع ثورة أهل ليبيا كواقع الشعوب العربية الأخرى، منها من سبق بالثورة على الاستبداد، ومنها من انطلق بالموازاة مع ليبيا، ومنها من ستأتي ثورته آجلا أو عاجلا.
وليست حقبة الثورات هذه حقبة أوضاع "طبيعية" بمعنى مزدوج للكلمة..، ليست طبيعية بمنظور استبداد منتشر في سائر الأقطار الأخرى، ليمكن التركيز على قطر واحد ثار من بينها، وليست طبيعية بمنظور استقرار واقع متغيّر قادم..، تلوح معالمه عن بعد، ولم تبلغ مداها بعد.
هل كان يُنتظر أمام هذه المعطيات أن يهرع "العرب لنجدة العرب" كي يصدر الدعم عن المنطقة العربية لشعب ليبيا الثائر على الاستبداد، وقد بدا في ردّه الدموي كمن جنّ جنونه، أو "ضاعف" أساليبه الجنونية في التعامل مع الشعب؟
" ليت الدول العربية تولّت بنفسها دعم ثورة شعب ليبيا بدلا من دعوة القوى الدولية إلى التدخل، ولكنّ هذا "الأمل" أقرب إلى التمنيات على أرضية الواقع القائم " |
"ليت" الدول العربية تولّت بنفسها دعم ثورة شعب ليبيا بدلا من دعوة القوى الدولية إلى التدخل، ولكنّ هذا "الأمل" أقرب إلى التمنيات على أرضية الواقع القائم.
ألا ينبغي لنا من مواقع المراقبة عن بعد أو "معايشة" الأحداث من خارج ساحة الحرب الدموية الاستبدادية الغادرة التي انطلقت بعد "ساعات" من الثورة السلمية الشعبية في ليبيا، أن نستوعب حال الثوّار وهم "يعايشون" بأنفسهم ما صنعته تلك الحرب من فتك مريع بأهل ليبيا دون أن يجدوا عونا عربيا، ودون أن يكونوا في أوضاع شبيهة بما كان عليه ثوار تونس ومصر، لأسباب عديدة، جميعها من صنع حكم استبدادي شاذّ أكثر من سواه، تسلّط على ليبيا طوال أربعة عقود، وصنع فيها ما لم يصنعه سواه على كل صعيد؟
إن كل من يشكّك في ثوّار ليبيا ناهيك عن تخوينهم، لأنهم تراجعوا –جزئيا- عمّا أعلنوه في البداية من إصرار كبير بشأن رفضهم للتدخل الأجنبي، يضع نفسه من خلال التشكيك أو التخوين في أحد موضعين اثنين:
1- تأييد الاستبداد الدموي بأبشع نوعياته ضد ثورة الشعب المشروعة، وتوظيف رفض التدخل الدولي –المرفوض من حيث الأساس- لأغراض أخرى، ترتبط بتوجّهات من يصدر التأييد عنه، وليس بواقع شعب يعاني لعقود من دمويّة الاستبداد، وليس في "أيام الثورة" فحسب.
2- الخطأ في تقدير الأولويات، أو الخطأ في استيعاب ما تعنيه القاعدة النسبية المعروفة لدفع الضرر الخطير الأكبر بضرر لا تخفى خطورته أيضا..، هذا مع أهمية استمرار وضوح الرؤية وإدراك حجم الواجب الكبير لمتابعة العمل في مواجهة جميع الأخطار وليس تثبيت بعضها دون بعضها الآخر.
وينبغي التنويه هنا بأنّ كل مقارنة بين التدخل الدولي في ليبيا وحرب احتلال العراق أو حرب احتلال أفغانستان، مقارنة فاسدة من حيث الأساس، وإذا انطلق أصحابها من تشابه مطامع الهيمنة الدولية واستمراريتها، فهم لا ينطلقون من المقارنة بين واقع الشعوب الشقيقة، وواقع أنظمة الحكم التي قامت وحكمت دون تمثيل إرادتها تمثيلا مشروعا قويما.
الواجب بعد التدخل الدولي
لا بدّ من التحوّل عن رفض التدخل الدولي قبل وقوعه، إلى موقف جديد يتعامل معه ومع نتائجه بعد وقوعه، فاستمرار الرفض في هذه الحالة أصبح عبثيا بصدد ليبيا، وإن لم يكن عبثيا من حيث ضرورة التمسّك بالرفض على صعيد كل ثورة شعب عربي آخر على الاستبداد.
لا بدّ أن يصدر الموقف الجديد عن الجمع بين أمرين اثنين:
1- تأييد تحرير شعب ليبيا من الاستبداد، ودعمه بكل وسيلة ممكنة ليزداد قدرة على استرداد سيادته ووطنه ودولته مع تحرّره.
2- العمل على عدم ترسيخ النتائج الخطيرة المحتملة بسبب التدخل الأجنبي، وعدم تحويله إلى نموذج يسري على بلدان عربية أخرى لا يزال الاستبداد فيها رافضا للرضوخ لإرادة الشعب الثائر.
وفي مقدّمة ما يترتب على ذلك:
1- رفض ممارسات دول عربية -في مقدمتها الجزائر، علاوة على سوريا على الأرجح- وهي تتخذ من ذريعة التدخل الدولي منطلقا لتأييد استمرار الاستبداد في ليبيا، أو دعمه ضدّ ثورة شعب ليبيا، والعمل المباشر على إحباط تلك الممارسات بالكشف عنها، والتعبئة الشعبية لمعارضتها، واعتبارها سببا إضافيا من أسباب الثورة على الاستبداد المحلي الذي يمارسها، ويناقض بذلك إرادة الشعوب التي يتسلّط عليها.
2- رفض ما يوصف بالمبادرات والوساطات والأطروحات أيا كان مصدرها، ومهما كانت صيغة إخراجها، ما دامت تفضي بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى تجزئة ليبيا، كي تبقى الثغرات مفتوحة أمام الهيمنة الأجنبية.
" المطلوب هو دعم ثورة شعب ليبيا ومطالبها المتركّزة على هدف إنهاء وجود الاستبداد من الجذور، ودعم الجهود الشعبية الذاتية المتنامية لإقامة الدولة الليبية على أسس جديدة قويمة " |
3- دعم ثورة شعب ليبيا ومطالبها المتركّزة على هدف إنهاء وجود الاستبداد من الجذور، إنهاءً شاملا لمختلف صوره الجزئية أو الكلية، الصريحة أو المقنّعة، ودعم الجهود الشعبية الذاتية المتنامية لإقامة الدولة الليبية على أسس جديدة قويمة، في مقدّمتها التمكين لسيادة الشعب، ونفاذ إرادته، واستقلاله عن مختلف أشكال الارتباط بنفوذ أجنبي.
4- مضاعفة العمل للتواصل والتضامن على مستوى الشعوب العربية والإسلامية والأفريقية، ودفع الأنظمة القائمة إلى الخضوع لإرادة الشعوب، وممارسة الضغوط الممكنة لتقدّم الدعم العربي والإسلامي والأفريقي المباشر لشعب ليبيا وقياداته المنبثقة عن ثورته، ومعارضة ما يقترن من ذلك بالتمكين لقوى دولية من التأثير على بناء مستقبل ليبيا ودورها الإقليمي عربيا وأفريقيا وإسلاميا.
إنّ تحرّر الإنسان في البلدان العربية هو الهدف، وإن تحرّر الشعب كلّه في كلّ بلد من هذه البلدان هو الهدف، وإن كل شعب يتحرّر من الاستبداد يوجد المزيد من المعطيات لتلاقي تلك الشعوب على تحقيق الأهداف المشروعة، تقدّما ووحدة وعدالة، وتحريرا للأراضي المغتصبة وفي مقدمتها فلسطين، وتحريرا للثروات من كل استغلال محلي أو دولي، وتحريرا للأنظمة من الهيمنة الأجنبية، سواء في ذلك تلك التي تثور على نفسها وتحقق التغيير الجذري، أو تثور الشعوب عليها فتحقق التغيير الجذري..، وهو قادم لا محالة، لا يقف في طريقه إلا من يقرّر لنفسه أن يجرفه تيار التغيير الجذري الشعبي.